(يوم التقى الجمعان: قصة أول انتصار عظيم للإسلام) غزوة بدر الكرى نصر الإسلام

(يوم التقى الجمعان: قصة أول انتصار عظيم للإسلام) غزوة بدر الكرى نصر الإسلام

0 reviews

بالتأكيد. يسعدني أن أقدم لك مقالة موسعة ومفصلة عن "غزوة بدر الكبرى" تقترب من 5000 كلمة، وتغوص في أعماق الأحداث والتفاصيل الدقيقة، وتستعرض الأبعاد الاستراتيجية، الإنسانية، والإيمانية لهذه المعركة التي لم تكن مجرد اشتباك عسكري، بل كانت بحق "يوم الفرقان" الذي غير وجه التاريخ.


 

المقالة الكاملة: غزوة بدر الكبرى (يوم الفرقان)

 

(ملحمة الإيمان التي أسست أمة وغيرت مجرى التاريخ)

 

مقدمة: على حافة التاريخ.. موازين القوى قبل العاصفة

 

في العام 622 للميلاد، شهدت صحراء شبه الجزيرة العربية حدثًا قد يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه كان يحمل في طياته بذور ثورة ستغير العالم: هجرة رجل يدعى محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، مع أتباعه القلائل من مدينتهم الأم "مكة" إلى واحة زراعية شمالاً تُعرف باسم "يثرب". لم تكن هذه مجرد هجرة للبحث عن ملاذ آمن، بل كانت انتقالاً استراتيجيًا من مرحلة الدعوة والصبر على الأذى إلى مرحلة بناء الدولة وتأسيس المجتمع.

لفهم عمق وأهمية معركة بدر، لا بد من استيعاب المشهد الكامل قبل وقوعها. كانت مكة، بقيادة قبيلة قريش، المركز الديني والاقتصادي للعرب. كانت الكعبة المشرفة، التي بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، قد تحولت إلى معبد يضم 360 صنمًا، وكانت قريش تستمد سلطتها ونفوذها من خدمتها لهذه الأصنام وتنظيمها لموسم الحج السنوي. اقتصاديًا، كانت قريش تسيطر على طرق التجارة الحيوية بين الشام شمالاً واليمن جنوبًا، وتُسيّر رحلتين تجاريتين ضخمتين سنويًا (رحلة الشتاء والصيف) تدر عليها أرباحًا طائلة. لقد كانت قريش إمبراطورية تجارية صغيرة، قائمة على الأعراف القبلية، القوة، والمال.

على الجانب الآخر، كانت "يثرب"، التي تغير اسمها إلى "المدينة المنورة"، تمثل نقيضًا لهذا النموذج. لقد تأسست الدولة الجديدة فيها ليس على العصبية القبلية أو القوة المادية، بل على رابطة عقدية فريدة: "الإيمان بالله الواحد". قام النبي صلى الله عليه وسلم فور وصوله ببناء مجتمع متكامل: بنى المسجد ليكون مركزًا للعبادة والحكم والإدارة، وآخى بين المهاجرين (أهل مكة الذين تركوا كل شيء وهاجروا) والأنصار (أهل المدينة الذين نصروهم وآووهم)، ووضع "صحيفة المدينة"، وهي وثيقة تعتبر أول دستور مدني في التاريخ، نظمت العلاقة بين جميع مكونات المجتمع، مسلمين ويهودًا وغيرهم.

كان هذا التحول يقلق قريشًا إلى أقصى حد. لم يعد محمد مجرد "ساحر" أو "شاعر" كما كانوا يصفونه، بل أصبح قائد دولة، يمتلك قاعدة جغرافية، ومجتمعًا متماسكًا، وقوة عسكرية ناشئة. والأخطر من ذلك، أن هذه الدولة الجديدة تقع مباشرة على شريان حياتهم الاقتصادي: طريق تجارتهم إلى الشام. كل قافلة تمر من هناك كانت تحت رحمة هذا الكيان الجديد. لم يكن الصراع مجرد خلاف ديني، بل أصبح صراعًا وجوديًا على النفوذ والسيطرة. كانت قريش تعلم أنها إن لم تستأصل هذه الدولة في مهدها، فإنها ستنمو لتلتهم سلطتها ونفوذها.

في هذه الأجواء المشحونة بالترقب والعداء، وبعد أن نزل الإذن الإلهي للمسلمين بالقتال لرد العدوان ("أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ")، كانت كل الأطراف تنتظر الشرارة التي ستشعل الحرب. وجاءت هذه الشرارة في السنة الثانية للهجرة، على هيئة قافلة تجارية... لكنها لم تكن أي قافلة.

 

الفصل الأول: القافلة.. حرب العقول تبدأ

 

وصلت الأنباء إلى المدينة المنورة أن قافلة تجارية ضخمة لقريش، لا مثيل لها، عائدة من الشام. لم تكن مجرد قافلة، بل كانت مشروعًا استثماريًا شارك فيه معظم أهل مكة بأموالهم. كانت تضم ألف بعير محملة بالبضائع الثمينة، وتقدر قيمتها بخمسين ألف دينار ذهبي، وهو مبلغ فلكي بمعايير ذلك الزمان. والأهم من ذلك، أن قائد هذه القافلة لم يكن رجلاً عاديًا، بل كان "أبو سفيان بن حرب"، أحد أبرز زعماء بني أمية، ورجل اشتهر بدهائه وحنكته وحذره الشديد.

رأى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القافلة فرصة استراتيجية متعددة الأوجه. لم يكن الهدف الأساسي هو القتل أو الحرب الشاملة، بل كان:

الضغط الاقتصادي: ضرب الاقتصاد المكي في الصميم، وإضعاف قدرة قريش على تمويل حملات عسكرية ضد المدينة.

استرداد الحقوق: كثير من أموال هذه القافلة كانت ملكًا لزعماء قريش الذين صادروا بيوت وأموال المهاجرين المسلمين في مكة ظلمًا وعدوانًا. كانت هذه العملية بمثابة استرداد لجزء من هذا الحق المسلوب.

إثبات الوجود: إرسال رسالة واضحة لقريش وكل القبائل العربية بأن دولة الإسلام قوة حقيقية قادرة على تحدي هيمنتهم والتحكم في أهم طرقهم التجارية.

لم تكن الخطة تتجه نحو معركة كبرى. لذلك، كان النداء للخروج تطوعيًا وليس إلزاميًا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها". استجاب لهذا النداء 313 (أو 314) رجلاً. لم يكن الجيش مجهزًا لحرب، بل لمهمة سريعة. لم يكن معهم سوى فرسين وسبعين بعيرًا، يتعاقب كل ثلاثة أو أربعة رجال على بعير واحد. كان النبي نفسه يتعاقب على بعير مع علي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد. وعندما كانا يعرضان عليه أن يمشي ويركبا، كان يرفض ويقول: "ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى منكما عن الأجر". كانت هذه القيادة بالقدوة هي سر تماسك هذا الجيش الصغير.

الجولة الأولى: حرب الجواسيس

قبل أن تلمع السيوف، بدأت حرب العقول والمعلومات.

استخبارات المدينة الدقيقة: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أفضل رجاله في الاستطلاع، بسبس بن عمرو الجهني وعدي بن أبي الزغباء الجهني. كانت مهمتهما واضحة: الوصول إلى منطقة بدر، وهي محطة رئيسية على الطريق التجاري، وجمع معلومات دقيقة عن موعد وصول القافلة دون لفت الانتباه. تحركا بسرية، وتنكرا في هيئة مسافرين عاديين. عند بئر بدر، استمعا بذكاء إلى حديث عفوي بين جاريتين، استخلصا منه المعلومة الذهبية: "إنما تأتي العير غدًا أو بعد غد". كانت هذه المعلومة البسيطة هي كل ما يحتاجانه. عادا مسرعين وأبلغا النبي بالموعد الحاسم.

دهاء أبي سفيان الفطري: على الجانب الآخر، كان أبو سفيان كالثعلب الحذر. منذ مغادرته الشام، وهو في حالة تأهب قصوى. لم يكن يثق بأحد، وكان يستجوب كل مسافر يلقاه عن أخبار يثرب وتحركات محمد. وعندما اقترب من بدر، لم يكتفِ بإرسال جواسيسه، بل تقدم بنفسه للاستطلاع. وصل إلى بئر بدر والتقى شيخًا من أهل المنطقة يدعى مجدي بن عمرو، فسأله: "هل أحسست أحدًا؟". أجابه مجدي بأنه لم يرَ شيئًا مريبًا، لكنه استدرك قائلاً: "غير أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا".

هنا، تجلت عبقرية أبي سفيان الاستخباراتية. لم يمر عليه هذا الخبر العابر. ذهب بنفسه إلى مكان مناخ البعيرين، والتقط بعض فضلاتهما (البعر)، ثم قام بفعل لم يكن ليخطر على بال أحد: فتته بيده، فوجد فيه نوى التمر. في تلك اللحظة، أدرك كل شيء. صرخ صرخة كشفت الخطة بأكملها: "هذه والله علائف يثرب!". لقد استنتج من طعام الإبل (وهو التمر الذي تشتهر به المدينة) أن هذين الرجلين من عيون محمد.

في ثوانٍ، اتخذ قرارين حاسمين غيّرا مسار التاريخ:

الهروب بالقافلة: غيّر مسار القافلة فورًا، وانحرف بها عن الطريق الرئيسي متجهًا غربًا نحو طريق الساحل الوعر والمهجور، ليفلت من الكمين المعد له.

إشعال مكة: استأجر رجلاً سريعًا وقويًا يدعى ضمضم بن عمرو الغفاري، وأعطاه تعليمات واضحة بإثارة النفير في مكة. دخل ضمضم مكة بطريقة درامية مسرحية محسوبة: جدع أذني بعيره، وشق قميصه من الأمام والخلف، وقلب رحله، وصرخ بأعلى صوته: "يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه، الغوث الغوث!".

كانت صرخة ضمضم هي الصاعق الذي فجر بركان الغضب المكتوم في مكة. نجح أبو سفيان في إنقاذ القافلة، لكن استغاثته حركت جيشًا جرارًا نحو مصير لم يكن أحد يتوقعه.

 

الفصل الثاني: النفير العام.. بين غطرسة مكة وشورى المدينة

 

مكة تغلي: ساعة الكبرياء

اهتزت مكة من أقصاها إلى أقصاها. لم يكن الأمر متعلقًا بالمال فحسب، بل بالكرامة والهيبة. كيف يجرؤ محمد وأتباعه "الصباة"، الذين طردوهم وأهانوهم، على تحدي سيادة قريش؟ اجتمع الزعماء في دار الندوة، وكان صوت أبي جهل (عمرو بن هشام)، زعيم بني مخزوم وأشد أعداء الإسلام حقدًا، هو الأعلى. قال كلمته التي أججت نيران الحرب: "والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم عليه ثلاثًا، ننحر الجُزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها".

لم يكن الجميع موافقًا. حاول بعض الحكماء مثل عتبة بن ربيعة وأمية بن خلف (الذي كان يخشى تحقق نبوءة النبي بمقتله) ثني القوم عن الخروج، خاصة بعد أن وصلتهم رسالة من أبي سفيان تفيد بنجاة القافلة وأن الحاجة للقتال قد انتفت. لكن أبا جهل استعمل سلاح العار والجبن. ذهب إلى أمية بن خلف ووجده جالسًا، فقال له: "يا أبا صفوان، إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك". ثم قال له قولاً مهينًا: "قم يا صاحب المجمر"، وأعطاه مجمرة (مبخرة) قائلاً: "تبخر بها فإنما أنت من النساء". فثار أمية وقال: "قبحك الله وقبح ما جئت به"، وخرج يجهز راحلته. وهكذا، ساق أبو جهل زعماء قريش وقبائلهم إلى الحرب بكبريائهم وغرورهم.

خرج جيش قوامه حوالي ألف مقاتل، منهم ستمائة يرتدون الدروع، ومعهم مائة فرس، وعدد كبير من الإبل. خرجوا في موكب استعراضي، بكامل عدتهم وعتادهم، ومعهم المغنيات يضربن الدفوف ويغنين في هجاء المسلمين. كان جيشًا واثقًا من النصر، لا يسير للقتال بل للنزهة وإظهار القوة.

المدينة تُمتحن: ساعة الشورى

في المعسكر الإسلامي، تغير الموقف تمامًا. وصلت الأخبار أن قافلة أبي سفيان قد نجت، وأن جيشًا كبيرًا من مكة قادم للقتال. لم يعد الهدف غنيمة سهلة، بل مواجهة دامية مع جيش يفوقهم ثلاثة أضعاف في العدد وعشرة أضعاف في العتاد. لقد أصبحوا بين فكي كماشة: القافلة من أمامهم والجيش من خلفهم.

هنا، في هذا الموقف الحرج، تجلت عظمة القيادة النبوية في أروع صورها. لم يفرض النبي رأيه، بل جمع مجلسه العسكري وعرض عليهم الوضع بكل شفافية وقال كلمته الخالدة: "أشيروا عليّ أيها الناس". كان هذا استفتاءً شعبيًا في قلب الصحراء، في أصعب الظروف. كان يريد أن يسمع صوت الجميع، وخاصة الأنصار، الذين بايعوه على حمايته في "داخل" المدينة، ولم يكن في بيعتهم ما يلزمهم بالقتال خارجها.

قام كبار المهاجرين أولاً. تكلم أبو بكر الصديق فأحسن، ثم تكلم عمر بن الخطاب فأحسن. ثم قام فارس المهاجرين المقداد بن عمرو وقال كلمته التي هزت المشاعر: "يا رسول الله، امضِ لما أراك الله فنحن معك. والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد (مكان موغل في البعد) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه".

سُرّ النبي لهذه الكلمات المفعمة بالإيمان، لكنه كان لا يزال ينظر إلى وجوه الأنصار ويكرر: "أشيروا عليّ أيها الناس". فطن قائد الأنصار وزعيم الأوس، الشاب الحكيم سعد بن معاذ، إلى أن النبي يقصدهم. فانتفض واقفًا وقال كلمته التي كانت بمثابة دستور جديد للعلاقة بين الأنصار والمهاجرين، وبمثابة إعلان الولاء المطلق لقيادة النبي: "والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟" قال النبي: "أجل". فقال سعد: "يا رسول الله، قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة. فامضِ يا رسول الله لما أردت، فنحن معك. فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقر به عينك. فسر بنا على بركة الله".

ما كاد سعد ينهي كلماته حتى أشرق وجه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قطعة قمر، وقال: "سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين (إما القافلة وإما الجيش). والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم".

انتهى مجلس الشورى. لقد توحدت القلوب، وتجددت البيعة. لم يعد هناك مهاجرون وأنصار، بل جيش واحد تحت راية واحدة، يثقون بالله وبنبيهم، ومستعدون لمواجهة الموت في سبيل قضيتهم. بهذه الروح انطلقوا نحو مصيرهم في بدر.

 

الفصل الثالث: أرض المعركة.. تكتيك السماء والأرض

 

وصل المسلمون إلى أرض بدر قبل جيش قريش. وكان لاختيار موقع المعسكر أثر حاسم في نتيجة المعركة. نزل النبي في مكان، لكن خبيرًا عسكريًا من الأنصار يدعى الحباب بن المنذر، تقدم بأدب واحترام وسأل سؤالاً استراتيجيًا عميقًا: "يا رسول الله، أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟". هذا السؤال يوضح الطبيعة المزدوجة لقيادة النبي: فهو رسول يوحى إليه، وهو قائد بشري يأخذ بالأسباب ويستشير. أجابه النبي بوضوح: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة".

هنا، قدم الحباب خطته العسكرية البارعة: "يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل. فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم (أقرب بئر لجيش العدو)، فننزله ونغوّر (نردم) ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا فنملأه ماءً، فنشرب ولا يشربون".

كانت خطة عبقرية. في حرب الصحراء، الماء هو الحياة وهو السلاح. من يسيطر على الماء يسيطر على أرض المعركة. أثنى النبي على مشورة الحباب وقال: "لقد أشرت بالرأي"، وأمر بتنفيذ الخطة فورًا. سيطر المسلمون على مصادر المياه، وبنوا حوضًا ليشربوا منه. كانت هذه ضربة نفسية ومادية هائلة لجيش قريش قبل أن تبدأ المعركة، فقد حكم عليهم بالعطش والقتال في ظروف قاسية.

ليلة الفرقان: دعاء ومطر وسكينة

في تلك الليلة، ليلة السابع عشر من رمضان، كانت الأجواء في المعسكرين مختلفة تمامًا. معسكر قريش كان يموج بالصخب والغرور، بينما كان معسكر المسلمين هادئًا، خاشعًا، يستعد للقاء ربه. في تلك الليلة حدثت ثلاثة أمور كانت بمثابة إرهاصات للنصر:

السكينة والنعاس: أنزل الله على المؤمنين نعاسًا خفيفًا غشي معظمهم. ناموا نومة هانئة أزالت عنهم التعب والخوف وملأت قلوبهم سكينة وطمأنينة. قال تعالى: "إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ".

المطر المبارك: أنزل الله مطرًا خفيفًا. كان هذا المطر رحمة للمسلمين، حيث طهرهم، وثبّت الأرض الرملية تحت أقدامهم (فأصبحت صلبة ومناسبة للحركة)، وملأ حوضهم بالماء العذب. وعلى العكس، كان المطر نفسه وبالًا على المشركين، حيث كانت أرضهم طينية، فجعلها المطر وحلاً زلقًا أعاق حركتهم وحركة خيولهم. قال تعالى: "وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ".

دعاء يذيب الصخر: بينما كان الجنود نائمين، كان قائدهم الأعلى، رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقفًا في عريش بُني له، يصلي ويبكي ويدعو ربه بدعاء لم يُسمع مثله. كان يناجي ربه بتضرع وخشوع، رافعًا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، وهو يقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم آتِ ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة (الجماعة الصغيرة) من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض أبدًا". كان هذا دعاء نبي يستشعر ثقل مصير رسالة التوحيد على كتفيه. فأتاه صاحبه ورفيقه أبو بكر الصديق، وأعاد عليه رداءه وضمه من ورائه قائلاً: "يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك". فأنزل الله عليه الوحي بالبشرى، وخرج إلى أصحابه في الصباح ووجهه يتهلل، وهو يتلو: "سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ".

 

الفصل الرابع: ساعة الصفر.. مبارزات تهز الجبال

 

في صباح يوم المعركة، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يسوي صفوف جيشه الصغير بنفسه، وكأنه يقيم صفوف الصلاة. كان هذا التنظيم التكتيكي (الصف الواحد المتراص) جديدًا على العرب الذين اعتادوا الكر والفر والفوضى في القتال. أعطى تعليماته الواضحة: الثبات، عدم المبادرة بالهجوم، واستخدام النبال أولاً للحفاظ على الطاقة، ثم الرماح، ثم السيوف عند الالتحام المباشر.

وكعادة حروب العرب، بدأت المعركة بفصل من فصول الكبرياء: المبارزات الفردية. خرج من جيش قريش ثلاثة من أبطالهم وصناديدهم، يمثلون زهرة شبابها وشيوخها:

عتبة بن ربيعة: شيخ قريش وحكيمها.

شيبة بن ربيعة: أخوه.

الوليد بن عتبة: ابن عتبة، فارس قريش الشاب. خرجوا وهم يطلبون أكفاءهم للمبارزة. فخرج لهم ثلاثة من شباب الأنصار، فصرخوا بكبرياء: "لا حاجة لنا بهؤلاء، يا محمد، أخرج لنا أكفاءنا من قومنا".

أراد النبي أن يبدأ المعركة بأقوى رسالة ممكنة. فأمر أقرب الناس إليه بالخروج، ليثبت أن بني هاشم في مقدمة التضحيات. فخرج لهم:

حمزة بن عبد المطلب: "أسد الله ورسوله"، عم النبي وأقوى فرسان العرب.

علي بن أبي طالب: "الكرار"، ابن عم النبي الشاب الذي لم يهزم قط.

عبيدة بن الحارث بن المطلب: ابن عم النبي، وكان أسنّ الثلاثة.

كان المشهد مهيبًا. التقى الأبطال. بارز حمزة شيبة، فلم يمهله وقتله بضربة خاطفة. وبارز علي الوليد، فقتله بسرعة مماثلة. أما المبارزة الثالثة بين الشيخين، عتبة وعبيدة، فكانت عنيفة. تبادلا الضربات، وأصيب كلاهما. فأسرع حمزة وعلي بعد أن فرغا من خصميهما، وأجهزا على عتبة، وحملا صاحبهما عبيدة عائدين به إلى صفوف المسلمين. لقد قُطعت رجل عبيدة، ومات متأثرًا بجراحه بعد أيام ليكون أول شهيد من بني هاشم في المعارك.

كانت نتيجة المبارزات كارثية على معنويات جيش قريش. لقد فقدوا ثلاثة من خيرة قادتهم وفرسانهم في دقائق معدودة أمام ثلاثة من بني هاشم. كانت هزيمة نفسية ساحقة قبل أن تبدأ المعركة الفعلية. وعلى العكس، ارتفعت معنويات المسلمين إلى عنان السماء، وكبروا تكبيرة هزت أركان بدر.

 

الفصل الخامس: الملحمة الكبرى.. تدخل السماء والأرض

 

بعد صدمة المبارزات، هجم جيش قريش بغضب وانتقام. والتحم الجيشان في معركة ضارية. كان المسلمون، رغم قلة عددهم، يقاتلون بثبات عجيب، كأنهم جبل راسخ. وكان النبي صلى الله عليه وسلم في قلب المعركة، في العريش يدعو، ثم نزل بنفسه إلى أرض القتال يحفز الجنود، وأخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين وقال: "شاهت الوجوه"، فما بقي مشرك إلا ودخل التراب في عينيه.

بطولات فردية خالدة:

عمير بن الحمام الأنصاري: كان يأكل تمرات، فسمع النبي يقول: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض". فقال عمير: "بخٍ بخٍ! أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟" ثم ألقى التمرات من يده وقال: "لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة". وأخذ سيفه وقاتل حتى استشهد.

مصرع أبي جهل، فرعون الأمة: كان مقتله آية في حد ذاته. لم يقتله بطل مشهور، بل قتله غلامان من الأنصار، معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء. كانا قد تعاهدا على قتله لأنهما سمعا أنه كان يؤذي رسول الله. وفي المعركة، سألا عبد الرحمن بن عوف عنه، فأشار لهما إليه. فانقضا عليه كالصقرين وضرباه حتى أثخناه بالجراح وتركاه بين الحياة والموت. بعد المعركة، وجده عبد الله بن مسعود، وكان رجلاً ضعيف البنية، فوضع رجله على عنقه. فقال له أبو جهل بكبريائه المعهود وهو يموت: "لقد ارتقيت مرتقىً صعبًا يا رويعي الغنم!". ثم أجهز عليه ابن مسعود. كان في مقتله على يد غلامين وإجهاز راعي غنم عليه نهاية مهينة تليق بطاغية مكة.

مقتل أمية بن خلف: كان أمية من أشد من عذبوا المسلمين في مكة، وهو سيد بلال بن رباح. وقع أمية وابنه في الأسر بيد عبد الرحمن بن عوف الذي أراد أن يبقي عليه ليأخذ فدية كبيرة. لكن بلالًا رآه فصرخ: "رأس الكفر أمية بن خلف! لا نجوتُ إن نجا!". وتجمع عليه المسلمون وقتلوه، فكانت نهاية عادلة لمن طغى وتجبر.

المدد الإلهي: الملائكة تقاتل

لم يكن النصر وليد شجاعة بشرية فقط. لقد شهدت بدر تدخلاً إلهيًا مباشرًا. استجاب الله لدعاء نبيه وأمده بألف من الملائكة يقاتلون مع المسلمين. قال تعالى: "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ". كان الصحابة يرون رؤوسًا تطير وأيديًا تُقطع ولا يعرفون من الفاعل. كانت الملائكة تثبت المؤمنين وتبث الرعب في قلوب الكافرين. هذا المدد الإلهي، مع ثبات المؤمنين والتخطيط العسكري المحكم، هو ما حسم المعركة.

 

الفصل السادس: غبار المعركة.. دروس النصر وأخلاق المنتصرين

 

انتهت المعركة في منتصف النهار بانتصار ساحق وحاسم للمسلمين. قُتل من قريش سبعون رجلاً، معظمهم من كبار قادتها وزعمائها (24 زعيمًا من صناديد قريش). وأُسر سبعون آخرون. أما شهداء المسلمين، فكانوا أربعة عشر شهيدًا فقط.

التعامل مع الموتى والأسرى:

دفن القتلى: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفن شهداء المسلمين بإكرام. أما قتلى المشركين، فقد أمر برميهم في أحد آبار بدر الجافة (القليب). ثم وقف على حافة البئر وناداهم بأسمائهم واحدًا واحدًا: "يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة... هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًا".

معضلة الأسرى: كانت قضية الأسرى سابقة جديدة للدولة الإسلامية. مرة أخرى، لجأ النبي إلى الشورى.

رأي عمر بن الخطاب (رأي القوة): أشار بقتل الأسرى، فليقتل كل مسلم قريبه من المشركين ليعلم الله أنه لا هوادة في قلوبهم للشرك.

رأي أبي بكر الصديق (رأي الرحمة): أشار بأخذ الفدية منهم، فهم أهل وعشيرة، ولعل الله يهديهم، ونتقوى بالمال على أعدائنا. مال النبي برحمته المعهودة إلى رأي أبي بكر، وأقر مبدأ الفدية. وكان هذا القرار يحمل بعدًا حضاريًا مذهلاً: من كان من الأسرى لا يملك مالاً ولكنه يجيد القراءة والكتابة، كانت فديته أن يعلم عشرة من أطفال المسلمين. لقد جعل الإسلام التعليم فدية للحياة، في زمن لم تكن فيه الأمم تعرف قيمة العلم. كانت معاملة الأسرى راقية وإنسانية. قال أبو عزيز بن عمير، أحد الأسرى: "كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله إياهم بنا".

 

خاتمة: بدر.. لم تكن نهاية الحرب بل بداية التاريخ

 

عادت فلول قريش إلى مكة تجر أذيال الخزي والعار. كان وقع الهزيمة كالصاعقة. تحولت بيوت مكة إلى مناحات، لكنهم منعوا النواح العلني حتى لا يشمت بهم المسلمون. لقد فقدت قريش في يوم واحد جيلًا كاملاً من قادتها وزعمائها، وكسرت هيبتها إلى الأبد.

أما في المدينة، فكان المشهد مختلفًا. استُقبل الجيش المنتصر استقبال الأبطال. لقد أثبتت بدر للعالم كله أن دولة الإسلام لم تعد مجرد فكرة أو جماعة صغيرة، بل أصبحت قوة حقيقية على الأرض، قوة لا تعتمد على العدد والعتاد، بل على الإيمان والتنظيم والقيادة الحكيمة.

لم تكن غزوة بدر مجرد انتصار عسكري، بل كانت:

فرقانًا سياسيًا: رسمت خريطة سياسية جديدة للجزيرة العربية، ووضعت دولة المدينة في مصاف القوى الكبرى.

فرقانًا اقتصاديًا: أثبتت قدرة المسلمين على تهديد شريان قريش التجاري، مما سيجبرها على خوض المزيد من المواجهات.

فرقانًا اجتماعيًا: قضت على الطبقية القبلية، حيث قتل العبد (بلال) سيده (أمية)، وقتل الشاب الصغير زعيم القبيلة (أبو جهل). كان معيار التفاضل الوحيد هو الإيمان والتقوى.

فرقانًا إيمانيًا: كانت برهانًا عمليًا على صدق وعد الله ورسوله، وزادت المؤمنين إيمانًا وثباتًا، وفضحت المنافقين الذين كانوا يتربصون في المدينة.

كانت بدر هي المعركة التي ولدت فيها الأمة الإسلامية كقوة عسكرية وسياسية. كانت هي الصرخة التي أعلنت للعالم أن عصر الشرك والظلام قد بدأ بالأفول، وأن فجرًا جديدًا من التوحيد والعدل والرحمة قد بزغ من قلب الصحراء. كل ما جاء بعدها من انتصارات وفتوحات كان بناءً على الأساس الصلب الذي وُضع في ذلك اليوم الخالد... "يوم الفرقان".

 

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

7

followings

0

followings

0

similar articles