
من تعرف النبي علي طائر صغير إلى مواساة خالدة
من تعرف النبي ﷺ علي طائر صغير إلى مواساة خالدة
زيارة ودية تفتح باب الحكاية 🌱
كثيرًا ما يتصور البعض أن السيرة النبوية مليئة فقط بالبطولات والمعارك والتشريعات، لكن المتأمل فيها يكتشف جانبًا آخر لا يقل عظمة، وهو جانب الرحمة واللطف والإنسانية. فالنبي محمد ﷺ لم يكن مجرد قائد أو مشرع، بل كان إنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يتعامل مع الكبار والصغار بعطف، ويغمرهم بابتسامته وكلماته الرقيقة. ومن أجمل المواقف التي تجسد ذلك قصته مع "النُغَير" – وهو طائر صغير كان يملكه طفل صغير اسمه أبو عمير، أخو أنس بن مالك رضي الله عنه
كان رسولُ الله ﷺ يزور بيت أنس بن مالك رضي الله عنه بين الحين والآخر، زيارةً تجمع بين التربية والمودة والاطمئنان على أهل البيت. وفي إحدى تلك الزيارات لفت انتباهه ﷺ طفلٌ صغير يمرح، هو أبو عُمير—أخو أنس—وبجانبه طائرٌ صغير كان يلهو به ويأنس بصوته. عرَف النبي ﷺ أن للصغير “صاحبًا” من عالم الطيور، فاكتفى بابتسامةٍ مُشجِّعة، وسؤالٍ لطيف عمّا يُدخل السرور إلى قلب الطفل.
طفلٌ وطائرٌ يملآن البيت حياة🕊️
تتابعت الزيارات، وأبو عمير لا يفارق طائره. صار “النُغَير”—وهو طائرٌ صغير—جزءًا من يوم الطفل: يطعمه، ينظر إليه، ويحدّثه على سجيته. ولم يكن النبي ﷺ بعيدًا عن تلك التفاصيل، بل كان يقرّ هذا الفرح البريء ويُشعر الصغير بأن اهتمامه مفهوم ومُقدَّر. بهدوء القائد المربّي، ترك ﷺ للطفل مساحته الطبيعية في اللعب المشروع، فالمحبة تنمو حين يُحترم عالم الصغار.
يوم الفقد 😥
وذات صباح تغيّر كل شيء. سكت زقزاق الطائر. ومات “النُغَير”. خيّم الصمت على البيت، وارتسم الحزن على وجه أبي عمير. لم تكن دموعُه على “شيءٍ صغير” في تقديره؛ كانت على رفيقٍ ملأ وحدته. دخل النبي ﷺ البيت كعادته، لكنه التقط بعين الرِّفق اختلافَ الملامح: طفلٌ واجم، نظراتٌ زائغة، ويدٌ صغيرةٌ تضمّ شيئًا من بقايا قفصٍ أو ريش. سأل أهل البيت فعلم الخبر.
اقتراب ومواساة🌎💐
اقترب رسول الله ﷺ من الصغير، وجلس إلى جواره، في مُحاكاةٍ واعيةٍ لمستواه العاطفي. لا مواعظ طويلة، ولا تقليل من شأن حزنه. التبسّم أولًا، ثم سأله
«يا أبا عُمير، ما فعل النُغَير؟»
سؤالٌ بصيغة المداعبة، يُثبّت الكُنية تشريفًا للصبي، ويعترف بالطائر وذكراه، ويُطلق الحزن من قبضته إلى مساحة الكلام. لم يقل له: “كان مجرد طائر”، ولم ينهَه عن البكاء؛ إنما فتح له باب الحديث عمّا يحبّ، فخفّ ثِقل الخسارة.
أثر الكلمة
حين يُسأل الحزينُ بلطفٍ عمّا فقد، يشعر أنه مفهومٌ ومُحتَضَن. هذا ما حدث لأبي عمير؛ انكسر الصمت، وظهرت إشاراتُ التقبّل. لم تكن المواساة درسًا نظريًا، بل سلوكًا عمليًا: مشاركة وجدانية، واحترام لمشاعر طفلٍ في حدثٍ يراه كبيرًا. ومن هنا بالضبط تنبت الثقة: طفلٌ تَعلّم أن حزنَه معتبر، وأن الكبار—وعلى رأسهم رسول الله ﷺ—يرون العالم بعيونه حين يحتاج.
نهاية الحكاية …وبداية خلود الأثر
انتهت القصة في ظاهرها عند سؤالٍ رحيم ومسحةِ مواساة، لكنها بدأت في باطنها قدوةً باقية. حفظ أنسٌ المشهد ورواه، فصار جزءًا من سيرته مع النبي ﷺ، ودخلت عبارة «يا أبا عمير ما فعل النُغَير» في ذاكرة الأمة. لم تُخلِّد القصة تفاصيل القفص أو لون الريش؛ خلّدت طريقة التعامل: قربٌ من الأطفال، ترسيخُ الكُنية للصغير، دعابةٌ صادقة، واعترافٌ بمشاعر لا يصغرها سنّ.
لماذا هذة الخاتمة هي الأكثر من القصة؟!
لأن كل عقدتها الإنسانية تقع هنا: قائدُ أمةٍ يلتفت إلى قلب طفل، فيُداويه بكلمة. هذا هو “الأكثر” في القصة: أن التربية رحمةٌ مُجسَّدة، وأن حُسن الالتفات أبلغ من كثرة الكلام، وأن خسارة طائرٍ صغير قد تكون درسًا عظيمًا في احترام النفس والعاطفة.
سطور أخيرة
هكذا تكتمل القصة: تعرُّفٌ على ما يُفرِح الطفل، متابعةٌ هادئة لعالمه، مواساةٌ رقيقة ساعة الفقد، ثم ذكرى تُروى جيلًا بعد جيل. وبين هذه المحطات الأربعة تتجلّى النبوة تربيةً وحنانًا؛ فليتعلّم المربّون أن أقصر الجُمل قد تصنع أطول أثر:
**«يا أبا عُمير، ما فعل النُغَير؟»**
