رسائل من القرآن
القرآنُ كان وسيظلُّ منهجًا لبناءِ الحياة، وشمسًا لكلِّ باحثٍ، وراحةً لكلّ مهمومٍ، وطوقَ نجاةٍ لكلّ حائرٍ، إنّه كتابٌ ممتعٌ وغنيٌّ ومليءٌ بمعانٍ ومفاهيمٍ من نور، ومليءٌ بكنوزٍ من المعرفة والحبِّ والإنسانيّة، إنّه رسائلٌ من الله لنا ليعيدنا إليه كلّما ابتعدنا عنه سبحانه وتعالى، ومن أجمل هذه الرّسائل الّتي تبعث في النّفس الطّمأنينة والسّكينة وتبثُّ في الرّوحِ الأمل وحبّ الحياة أذكر ما يلي:
{أُولَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ}
يا الله: إنَّنا لا نصلّي لك كما يليقُ بكَ، ولا نصومُ كما كان يفعلُ داوود، ولا نصبرُ إذا مرضنا كما صبرَ أيّوب، ولا نسبّحُ بحمدكَ تسبيح يونس في بطن الحوت، ولا نأخذ ديننا بقوّةٍ كيحيى، ولا نغضُّ بصرنا كما غضّ يوسفُ كلّ جوارحه، ولكنّنا مثلهم يا الله نحبّك!.
{عسَى ربّنَا أنْ يُبدلَنَا خَيْرًا مّنْهَا}
لنطفئْ بهذه الآية نار حسرتنا على كلّ فرصةٍ ضاعت منّا، وعلى كلّ وظيفةٍ خسرناها، وعلى كلّ رفيقٍ أفلت يدنا في منتصف الطّريق، وعلى كلّ صديقٍ غدر بنا، ما أخذه الله منّا فلحكمةٍ، وما تركهُ لنا فلرحمة، فإنْ علمنا الحكمة، فلنشكرْ! وإن جهلناها فلنصبرْ! أقدارُ الله كلّها خير وإنْ أوجعتنا!.
{وآتَاكُم مِّنْ كُلّ ما سأَلتُمُوهُ}
إنّه الله! من الّذي جاءه خائفًا فما أمّنه؟ ومن الّذي جاءَهُ منكسرًا فما رمّمه؟ ومن الّذي جاءَهُ مستنجدًا فما نصره؟ ومن الّذي جاءه حزينًا فما أسعده؟ ومن الّذي جاءه حيران فما دلّه؟ فلنثق بالله فإنّ الأيدي الفارغة الممتدّة إليه، يستحيل أن ترجع إلّا ملأى!.
{لا تَدْرِي لعلّ اللهَ يُحْدِثُ بعدَ ذلكَ أمْرًا}
تضيقُ الأمور بنا حتّى نظنُّ أنّ لا مخرجَ منها، ثمّ يأتي الفرج من الله سبحانه وتعالى، من كان يعتقدُ أنّ هاجر الّتي كانت تركض بين الصّفا والمروة بحثًا عن شربةِ ماء، سينفجر بين قدمي ابنها ماء زمزم؟! لا ليشربا هما فحسب، وإنّما لتشرب الأمم حتّى يوم القيامة، فلْنحسنْ الظّنُ بالله!
{يُدبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَاءِ إلَى الأَرْضِ}
يا الله: الآن… أرخينا يدينا عن كلِّ شيء، لا نريد أن نختار مرّة أخرى، نسألك أن تختار لنا فرؤية الأشياء من خلاك هي النّجاة بعينها، ونحن لا نريدُ إلّا النّجاة.
{فأثابكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}
يبتلينا اللهُ بالفقد لنعرفَ أنّ ليس غيره يبقى لنا، ويبتلينا بالتعثُّر لنعرف أنُه لا يساندنا غيره، ويبتلينا بالخذلان لنعرف أنَّه أمانَنا الوحيد، ويبتلينا بالمرض ليغفر لنا ذنوبنا ويرقّق قلوبنا فيا الله ارحمْنا وعافِنا واجبرْ كسرَنا فأنتَ أمانَنا الوحيد في فوضى هذه الأرض.
{لا يكلِّفُ اللهُ نفسًا إلّا وُسْعَهَا}
اللهُ لا يضعُ ثمارًا على غصنٍ لا يستطيع حملها، كلّ مسؤولية ألقاها على عاتقنا، نحنُ لها! كلّ معركة ألقانا في غمارها، نحن لها! كلّ همٍّ وغمٍّ وحزنٍ أصابنا نحنُ بحجمه، وقادرون على حمله! المصاعب والمصائب تقوّينا، فلنتخيّل أنّنا سنجلسُ يومًا في ظلِّ شجرةٍ في الجنّة، نضحكُ على كلّ هراء الدّنيا!
لا تيأسوا، لمْ يقلها يعقوب عليه السّلام في رخاءٍ، قالها حين فقدَ بنيامين، بعد فقدهِ ليوسف عليه السّلام، فما هي إلا أيّام حتّى كان يشمُّ ريحَ يوسفَ، وما هي إلا أيّامًا بعدها، حتّى كان يضمّه إلى صدره، فلنثقْ بالله دومًا!.
{وَلقَدْ نعلَمُ أنّكَ يَضِيقُ صدرُكَ بما يقولُون}
تُؤذيه الكلمة الجّارحة، ويضيق صدره بالقول السّيء، وهو نبيّ! فكيف نحن، فسلامًا على الّذين يختارون كلماتهم بعناية لا يؤذون ولا يجرحون، قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: (الكلام كالدّواء، إنْ أقللت منه نفعَ وإنْ أكثرت منه قتل.)
لن ينسى الله لنا خواطر جبرناها، ولا دموعًا مسحناها، لن ينسى الله كتمان الإساءة ونحنُ القادرون على ردّها، لن ينسى الله لنا صبرنا في لحظات البلاء، ولا شكرنا في لحظات الرّخاء.
{قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَك يا مُوسَى}
اللّهمَّ شيئًا كهذا: لأمنياتنا، لانتظارنا، للَهفتنا، لِما غابَ عن النّاس ، وعلِمتْهُ أنتَ!.
{فأرادَ ربُّكَ أنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ويَسْتخْرِجَا كنْزَهُمَا}
إنّ في تأخير الأُعطيات حكمة، حتّى وإن غابت عنّا، وفي المنع رحمة، حتّى وإنْ لم ندركها، مع الوقت سندرك ذلك، فاللّهمَّ صبرًا لكلّ شيءٍ لم نحطْ به خبرًا!.
{وأَوْحَيْنَآ إلى أمِّ مُوسَى أنْ أَرْضعيِهِ فإذَا خِفْتِ عليه فألْقيهِ في اليَمِّ ولا تخافي ولا تحْزني إنَّا رآدُّوهُ إليكِ وجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَليِنْ}
يا الله: هذا اليقين الّذي زرعتَه في قلب أمّ موسى، وهي تلقيه في النّهر، وكلّها ثقة أنّك ستعيده إليها، ارزقنا مثله!.
{وَتِلْكَ الأيّامُ نُداوِلُهَا بينَ النّاسِ}
من كان يظنُّ أنّ موسى عليه السلام، الّذي عمل راعيًا لسنوات، سيصبح بعد أعوام كليم الله؟! وأنّ محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم، الّذي كان يرعى الغنم لسادة قريش، لقاء أجرٍ زهيد، سيصبح بعد سنوات خاتم النّبيّين والمرسلين؟! لعلّ أجمل أيّام عمرنا لم يأتِ بعد، فلنحسن الظّن بالله!.
{قال إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى اللهِ}كان فتية الكهف على دين الحقّ، ومدينتهم كلّها تعبد الأوثان! فلمّا ربط اللهُ على قلوبهم، هانَ عندهم كلّ شيء! وأمّ موسى عليه السّلام من قبل حين ألقتهُ في اليمِّ، لولا أنْ ربط الله على قلبها، لمْ تفعلْ! فاللّهمَّ يا مقلّبَ القلوبِ ثبّتْ قلوبنَا على دينك!.
{وَهُزّي إِليْكِ بِجِذْعِ النّخلَةِ}
يعلمُ الله سبحانه و تعالى أنّ رجلًا شديدًا لا يقوى على هزّ جذع نخلةٍ، فكيف بامرأةٍ قد وضعت مولودًا للتوّ! ولكنّه، حين قال لها: هزّي، فقد أراد منّا أن نأخذ بالأسباب، وليعلّمنا أنّ السّعي مطلوب، فالله سبحانه وتعالى يخلق الدّودة أو حبّة القمح للعصفور، ولكنّه لا يلقيها له في عشّه! الّذي رزق مريمَ ولدًا دون زوج، كان قادرًا أن يسقط عليها الرّطب دون هزّ الجذع، ولكن أراد منّا أن نبذل الجّهد والطّاقة ونسعى، ثمّ نعلم يقينًا أنّها مجرّد أسباب، لا تنفع ولا تضرّ!.
{يَا لَيْتَنِي متُّ قَبْلَ هذا وكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}
تمرُّ بنا لحظات تضيقُ الدّنيا في عينينا، لا من قلّة الإيمان، ولكن من قسوة الحياة، كانت مريمُ راسخةَ الإيمان، عميقةُ الثّقة بالله، ولكنّ الخطبَ جلل، والحدثَ عظيم، ولد دون أب ستأتي به إلى قوم قُساة القلوب، فضاقت بها الدّنيا!. تكسرنا الحوادث أحيانًا، وتمرّ بنا أيام ثِقال، نحسبها لن تمضي، فلنعش إنسانيتنا بضعفها، وقوّتها، ولكن في كلا الحالتين، لنكنْ مع الله ليكنْ الله معنا!.
{فنادَاهَا مِنْ تحتِهَا ألّا تحزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحتَكِ سَرِيًّا}
لو استغنى أحدٌ عن المواساة في ظروفه الصّعبة لكانت مريم الرّاسخة في إيمانها أغنى النّاس! ولكنّنا في النّهاية بشر، ونحتاج من يربّت على قلوبنا!. أبو بكر الصديق رضي الله عنه خير النّاس بعد الأنبياء وأرفعم إيمانًا، ولكنّ النّبيّ محمّد صلى الله عليه وسلّم في الغار يربّت على قلبه ويقول: يا أبا بكر: ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟! يا أبا بكر، لا تحزن إنّ الله معنا!. حتّى النّبيّ محمّد صلى الله عليه وسلّم، عندما ماتت خديجة، وتوفّي عمّه أبو طالب، وفقد أشرس المقاتلين معه، عَلِمَ الله حزنه وانكسار قلبه، فكانت حادثة الإسراء والمعراج، حيث أخذه الله إلى السّماء ليعزّيه، فثمّة كلامٌ يشبه العناق، وثمّة مفردات كأنّها حضن، وما نحن في هذه الدّنيا إلّا ضيوف، فلنربّت على قلوب بعض.
{فصبْرٌ جميلٌ والله المُسْتعَانُ على ما تَصِفُونَ}
سلامًا للّذين لا يأخذون كلّ شيء على محمل الجّد، الّذين لا يبكون عند كلّ عثرة، ولا يقفون عند كلّ كلمة، الّذين يعلمون أنّ الدّنيا أسود وأبيض، وأنّ الشّر جزء منها كما الخير تمامًا، الّذين يؤمنون أنّها طريقٌ عبور، وأنّ الرّضا عند الله أسلم مراكب العبور!.
{يَأْتِ بها اللهُ إنّ اللهَ لطيفٌ خَبيرٌ}
لنتذكّر كيفَ أبحرَ نوح عليه السّلام بالسّفينة في موجٍ كالجّبال، وكيف سَلِمَ إبراهيم عليه السّلام من النّار، وكيف نجا يونس في بطن الحوت، وكيف شقّ موسى البحر بعصاه، أجمل ما في فرج الله أنّه يأتي بعد أن تنقطع كلّ الأسباب، ولا يبقى في القلب إلا الله!. لكلِّ دعوةٍ دعونا بها لنستودعها الله ونقولُ بيقين: يأتِ بها الله إنّ الله لطيفٌ خبير!.
{فإنّ مع العسرِ يسرًا إنّ مع العسر عسرًا}
قد يتسرّبُ اليأسُ إلى قلبِ أحدنا فتأتي هذه الآية لتزيل عنه هذا اليأس وتقول له: إنّ مع كلّ عسرٍ يسر ، كما أنّ بعد كلّ ليلٍ نهار بل بعد كلّ ظلامٍ حالك فجرٌ جديد.
{إنّ اللهَ يُحِبّ التّوّابينَ وَيُحِبُّ الْمُتطهِّرِينَ}
الله سبحانه وتعالى يحبّ أولئك الّذين يخطئون، ثم يأتونهُ مستغفرين! يحبُّ أولئك الّذين يعصونه نهارًا، ويعودون إليه ليلًا! ولمْ يخبرنا سبحانه وتعالى أنّه يحبّ التّوابين لنتمادى في المعصية! ولكنّه لا يريد للشيطان أن يقف بيننا وبينه، يريد أن يخبرنا أنّ الذنب مهما عَظُمَ، فرحمتهُ أعظمْ!.
اللّهمّ ثباتًا لقلوبٍ اختارَتْ أنْ لا تقدّم أحدًا عليك، وأُنْسًا للتّآئبين عن الذّنبِ والعائدين إليك، وصبرًا جميلًا إذا غاب اليقين!. اللّهم فقهّنا بالاستغناء بك وأنقذنا من التّعلِّق بسواك وارحمْ ضعفنا إذا زلّت الخُطوة وضاعت البوصِلة وانحرف المسار!. اللّهمّ ضمّنا تحت جناح رحمتك ولطفك ورضاك!.