
عكرمة بن ابي جهل من سيف ضد الإسلام الى سيف ضد الردة
في مكة، حيث كانت قريش ترفع لواء الكبرياء وتتكبر عن الحق، وُلد عكرمة بن أبي جهل، ابن فرعون هذه الأمة كما سماه النبي ﷺ، ذاك الذي حارب الإسلام حتى النهاية، وورّث ابنه عداوة الدعوة، وكراهية محمد ﷺ. نشأ عكرمة بين سادة قريش، يتنفس كبرياءهم، ويعتز بشرفهم الجاهلي، ويأنف من دعوة تساوي بين العبد والسيد.
كان عكرمة شجاعًا، فارسًا لا يُشق له غبار، سريع الغضب، غزير الحماسة. سار على خطى أبيه، محاربًا للإسلام، وكان في الصفوف الأولى يوم بدر، وشارك في أحد، ثم كان من القادة في الخندق، يبارز بسيفه ويزأر كأنه أسد جائع في أرض المعركة. ولما فتح النبي ﷺ مكة، فرّ عكرمة، مدركًا أن لا مكان له في مدينة غلب فيها الإسلام وعلت فيها راية التوحيد. لكن قلبه، رغم كل ما حمل من عداء، لم يكن قاسيًا كقلب أبيه.
وفي لحظة من لحظات رحمة الإسلام، نزل العفو من رسول الله ﷺ، شاملًا من أساء وأساء حتى فَرَط في الإساءة، وكان من بين هؤلاء عكرمة. بعث النبي ﷺ زوجته أم حكيم بنت الحارث تطلبه، تُبلغه أن النبي قد أمنه، وأن رحمة الله أوسع من كل ذنب، وأن باب التوبة مفتوح. فذهبت إليه في سواحل اليمن، حيث كان يتهيأ لركوب البحر. فلما سمع منها كلمات العفو، وكلمات الرسول، رق قلبه، واهتزّت فيه جذور منسية من الفطرة.
ركب البحر عائدًا إلى مكة، لكن في قلبه معركة تدور، بين ماضيه المليء بالعداء، وحاضره الذي يطرق بابه بالتوبة، وخوفه من ألا يُقبل. فلما اقترب من مكة، ونزل إلى أرضها، ووقف أمام النبي ﷺ، لم يكن ذاك الفارس المغرور الذي عرفوه في الجاهلية، بل كان رجلاً منكسرًا بين يدي الحق، قال للنبي ﷺ: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، يا رسول الله، ما من موقف أبغض إليّ من مقامك هذا، واليوم ما من مقام أحب إليّ منه."
دمعت عينا رسول الله ﷺ، وقبّله بين عينيه، ودعا له بخير، وقال له: "مرحبًا بالراكب المهاجر." ومنذ تلك اللحظة، أصبح عكرمة رجلًا آخر، قلبه تغيّر، روحه تطهّرت، وطاقته الحربية تحوّلت إلى درع من دروع الإسلام.
شارك في حروب الردة، وقاتل في اليمامة، وفتح الله على يديه بلادًا، وأبلى في سبيل الله بلاءً حسنًا، لا يقل عن بلائه السابق ضد الإسلام، بل يزيد صدقًا وندمًا. كان يقاتل وكأنه يريد أن يغسل كل لحظة عاشها ضد دين الله بدمه. حتى إذا جاءت معركة أجنادين، كان فيها من أشجع الفرسان، يقاتل ويهتف: "اللهم خذ مني اليوم حتى ترضى." وسقط شهيدًا هناك، بعد أن أعطى الإسلام كل ما لديه من وفاء.
عكرمة بن أبي جهل… الرجل الذي حمل سيفه يومًا ليقتل النبي، ثم حمله في يوم آخر ليُدافع عنه حتى الموت. قصته شهادة على أن الإسلام لا يغلَق بابه في وجه التائب، وأن القلوب، مهما ظلمت، قد تشرق فيها أنوار الهداية إن كانت صادقة في التوبة.