حب الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم
حب الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم ضرب الصحابةُ الكِرام أعظم الأمثلة في حُبّهم للنبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-،[١] وقد بلغ من حُبّهم له أنّهم كانوا يُحبّونه أكثرَ من أنفُسِهم وهذا من تمام الإيمان، فقد جاء عن عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: (واللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: الآنَ يا عُمَرُ)،[٢] فيجبُ على المسلم أن يُحبَّ النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- أكثرَ من الدُّنيا وما فيها، لأنّ محَبَّته جُزءٌ من الإيمان، كما بلغ من الصحابةِ الكِرام إيثارهم للنبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-، ومَحبّتهم لما يُحبّه من أُمورِ الدُنيا والآخرة، وكذلك حُبّهم لِمُرافقته والقُرب منه، وجاء عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- محبّته لليقطين لِمحبِّة النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- له،[٣][٤]
وجاء عن بعض الصحابيات كسُميراء بنتُ قيس -رضي الله عنها- أنّ ابنها أُصيب في غزوة أُحد ومات، فكان أوّل من سألت عنه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فتقول: ما فعل رسولُ الله؟ فلمّا رأتهُ قالت: "كلُّ مصيبة بعدك يا رسول الله جَلَلْ".[٥] وبلغ ذلك الحُبُّ مبلغاً كبيراً في نفوس أطفال الصحابة الكِرام كذلك، فقد سأل عبدَ الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- في غزوةِ بدر غُلامين اثنين على صِغر سنّهما عن أبي جهل لِقتله، وعلِما أنّه يَسبُّ النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- وعدّه، وقُتل أبو جهل على يديهما،[٦] وكانوا لا يملؤون أعيُنهم من النّظر إليه -صلى الله عليه وسلم- إجلالاً له ولِكثرةِ هيبته في قُلوبهم.[٧]
أسباب حب الرسول تعودُ محبّةُ النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- إلى العديدِ من الأسباب، وهي:[٨][٩] محبّتهُ من محبّة الله -تعالى-، ممّا يدفع المؤمن لاتّباعهِ ومحبّةِ ما يُحبّهُ ويرضاه، لِقولهِ -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ).[١٠] اصطفاء الله -تعالى- له واختياره ليكون نبيّاً، وتكريمه بالكثير من المكارمِ الخاصّة به، كصلاة الملائكة عليه، وتشريفه بمقام الخُلّة، وإنزالِ القُرآنِ عليه، كما جعلهُ الله رحمةً للعالمين عامّة، وللمؤمنين خاصّة، وتخصيصِ الغنائم له، ونَصرهِ بِالرُعب مسيرةَ شهر، وغي ذلك الكثير ممّا خصّه الله -تعالى- به. تفضُّل الله -تعالى- على عباده بأنْ بَعثه للناس كافّة، وأخرج به الناس من الضلالة إلى النور والهداية، ولِما يتّصف به من الأخلاق الكريمة؛ كالرّحمة، والشّفقة، واليُسر، وتعليمه لأُمّته، ونُصْحهِ لهم،[١١] كما أنّ محبّتهُ من كمال الإيمانِ والعِبادة، ولا تتحقّق إلا بذلك، لِقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن والِدِهِ ووَلَدِهِ).[١٢][١٣][١٤] تأخير دعوته المستجابة لأُمّته إلى يومِ القيامة؛ أي الشفاعة، أمّا باقي الأنبياء فعجّلوا دعوتَهم في الدُنيا.[١٥] مظاهر حب الصحابة للرسول دفاع الصحابة عن الرسول ظهر دِفاعُ الصحابةِ الكِرام عن النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- في الكثير من المواقف، كغزوةِ أُحد عندما شُجَّ رأس رسول الله وضربه أحد المُشركينَ بالسّيف، وسال الدّمُ من رأسه وجسده الشريفين، فقام سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عُبيد الله -رضي الله عنهما- بالدِفاعِ عنه، فكانا يرميان المُشركين بالسِّهام، ويقِتالان من اجتمع حولهُ من المُشركين ببسالةٍ، كما دَافعَ سبعةٌ من رجالِ الأنصار عنه، واستُشهدوا جميعاً.[١٦] وقامَ أبو دُجانة -رضي الله عنه- بِالدِفاعِ عن النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- في غزوةِ أُحد بِكُلِّ ما أُوتيَ من قوّة مع كثرةِ ما أصابَهُ من الجِراح، فحَمَل درعه وحَمى به النبيَّ -عليه الصلاةُ والسلام-، وتَلقّى سِهامَ المُشركين بِظهره،[١٧] فقد سطّر الصحابةُ الكِرام أروع الأمثلة في اتّباعهم ودِفاعهم وبذْلِ أرواحهم لله ورسوله.[١٨]
سرعة الاستجابة للرسول ظهرت استجابة الصحابة الكِرام لأوامر نبيّهم من غيرٍ تردُّدٍ في كثيرٍ من المواقف، كقصةِ خاتَم الذّهب عندما رأوهُ في يَد النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-، فقاموا جميعاً بِلبس خواتم مثله، فلمّا خلعه خلعوه جميعهم، وكذلك لمّا رأوهُ خَلع نعْليه في الصلاة فقاموا جميعاً بِخلعِ نِعالهم، وما ثبت أنّ أبي مسعود كان يَضربُ غُلامَهُ بِالسّوط، فنهاهُ النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- عن ذلك، فأقسمَ ألّا يضربَ مملوكاً بعدَ ذلك، وقصةِ أنس بن مالك -رضي الله عنه- في حُبّهِ للطعام الذي يُحبّهُ النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-، وتركهم شُرب الخمر بِمُجرد سماعهم للآيات التي تُحرّم شُربها، وإحسانهم إلى الأسرى اتّباعاً للنبي ولِوصيّتهِ بهم.[١٩] وكذلك اتّباع الأنصار ومبايعة أبي بكرٍ -رضي الله عنه- في السّقيفة لمّا سمعوا أنّ الأئمّة من قُريش،[٢٠] وأمّا أبو بكرِ -رضي الله عنه- فقد حَلَفَ ألاّ يُنفق على مِسطَح الذي اتَّهم ابنته عائشة -رضي الله عنها-، فنزل قول الله -تعالى-: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)،[٢١] وحثّه النبيّ على الإنفاق عليه كما كان يفعل، فرجعَ بِسُرعةٍ إلى الإنفاقِ عليه.[٢٢] الطاعة المطلقة للرسول وَرَد عن كعب بن مالك -رضي الله عنه- أنّه أخذ دَيْناً له من ابن أبي حدرد، وارتفعت أصواتهما في المسجد، فنادى النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- على كعب، وأمره بأنْ يَضع نصفَ الدين، ففعل وأطاع أمره من غيرِ جِدالٍ أو مُناقشةٍ،[٢٣] فقد كانوا يتّبعون أوامره ويُجيبونهُ في كُلِّ ما يأمُرهم به، وينتهون عما ينهاهُم عنه، وجاءَ عن عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- أنّه سمع النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- وهو يخطب ويقول: اجلسوا، فجلس خارج المسجد بِمُجرد سماعه الكلمة، ومن ذلك أيضاً موقف الجارية التي أرادت أن تتزوّجَ من المُغيرة بن شُعبة -رضي الله عنه-، فأخبرها أن النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- طَلب منه أن ينظُر إليها، فقالت له إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره أن ينظر إليها في الخطبة فلينظر وإلا فلا،[٢٤] وكذلك موقفِ أبي بكرٍ -رضي الله عنه- عندما طَلب منه الناس ترك جيش أسامة في المدينة لِحمايتها، فقال لهم: لو تخطّفتنا الطير وأكلتنا السباع حول المدينة، ما رددتُ جيشاً وجّههُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا حلَلْتُ لواءً عَقَده.[٢٥] إنفاق الصحابة في سبيل الله كان الصحابةُ الكِرام يُنفقون أموالهم في سبيل الله -تعالى-، ويؤثرونه على الإنفاق على أنفُسِهِم،[٢٦] وقد ثبت أن عُثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنفق تسعمئة بعير ومئة فرس بِجهازِها في غزوةِ تبوك.[٢٧]
كمال متابعة الرسول تابع الصحابةُ الكِرام نبيَّهم في جميعِ أقواله وأفعاله، صغيرها وكبيرها، واجتهدوا في تبليغِ سُنّته، وكانوا يأمرون الناس بها، ومن ذلك موقف عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في تقبيل الحجر الأسود، حيثُ قال: "والله إنّي لأُقبّلك وإنّي أعلم أنّك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قَبّلك ما قبَّلتُك"، ممّا يدلُّ على شدّة حرْصه واتّباعه لِسُنة نبيه، وتَعليمها لِلناس، كما كان الصحابة يُتابعون النبيّ في هيئاتهِ، ويغَضبون ممن يُعارضُ سُنّته، ويحبّونه أكثر من حبّهم لأنفُسِهِم.[٢٨] فكان الصحابة الكِرام لا يُقدّمون أمراً على أمره، ولا يفرّطون بسنّته، ويحرصون على معرفة تفاصيل حياته، فقد رحل أبو أيوب الأنصاريّ -رضي الله عنه- من المدينة إلى مصر ليسمعَ حديثاً من عُقبةَ بن عامر -رضي الله عنه- سَمعهُ من النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-، وكذلك محبّةِ جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- للخَلّ مُنذ سماع النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- يقولُ له: نِعمَ الأدمُ الخلّ،[٢٩] وقد كانوا يتّبعون سُنّتهُ بجميعِ تفاصيلها، ويقِفون في وجهِ من يُعرضُ عنها.[٣٠] تعظيم النبي وتوقيره والأدب معه ينبغي على المُسلم اتّباع الصحابةِ الكِرام في كيفيّةِ تعامُلهم مع النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-، وتعظيم سُنّته،[٣١] فقد جاء عن عُروة بن مسعود قوله لِقُريش عندما رأى الصحابة الكِرام عند النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: أي قوم، والله لقد وَفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنّجاشي، والله ما رأيت مليكاً قط يعظّمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-،[٣٢] وهذا التعظيم منهم؛ لِمَا في ذلك من كمالِ الأدب معه، وما شرّفهُ الله -تعالى- به من مقام النبوةِ والرِسالة.[٣٣] إنّ من شدّةِ تعظيمهم له أنّهم كانوا لا يَحدّون النّظر إليه، فلم يكن أحدٌ يرفعُ بصرهُ إليه إلا أبو بكرٍ وعُمر -رضي الله عنُهما-، وفي صُلح الحُديبية لمّا سمحت قُريش لِعُثمان -رضي الله عنه- بِالطواف، فقال: ما كنتُ لأفعل حتى يَطوف به رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-،[٣٤] وموقفِ المُغيرة بن شُعبة -رضي الله عنه- في الدِفاعِ عن النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- عندما جاء عمّه عُروة بن مسعود يُجادلُ النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- وهو ماسكٌ بلحيته، والمُغيرةُ يَضرب يدهُ بسيفه، وكُلما وضع يَدهُ على لحية النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- يضربُها بسيفه،[٣٥][٣٦] وموقف أبي أيوب الأنصاريّ -رضي الله عنه- عندما نزل النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- عنده، فجلس عنده في الطابقِ السُفلي، فبعث إليه بطعامٍ فيه ثوم أو بصل، فلم يأكُل منه، فسألهُ عن السبب، فأجاب بأنّه يُناجي ربّه، فترك أبو أيوب أكلهما مُنذ ذلك الوقت مع أنّهمُا مُباحان.[٣٧]
موقف الصحابة عند سماعهم خبر وفاة الرسول لمّا سمع الصحابةُ الكِرام خبر وفاة النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- ضجّوا جميعاً، فقال عُمر -رضي الله عنه- غير مصدّق ما حدث: إنّه ذهب لِلقاء ربّه وسيعود، وأمّا عُثمان فأصبح يمشي مثل التّائه، ويذهبُ يميناً وشِمالاً، وقام أبو بكر -رضي الله عنه- وقرأ قوله -تعالى-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)،[٣٨] كما أنّ جبريل -عليه السلام- بكى لأنّه آخرُ مرّةٍ سينزلُ بها إلى الأرض،[٣٩] ومن هَول الموقف أنكروا موته واستبعدوا ذلك،[٤٠] وأمّا أبو بكر -رضي الله عنه- فذهب إلى بيت النبي، ووجده مُغطّى بِبُردة، فكشف عن وجهه، ثُمّ استرجع، وأخبر الناس بالخبر وأكّدَهُ لهم.[٤١] ثمرات محبة الرسول صلّى الله عليه وسلم إنّ محبة النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- لها الكثير من الثمرات، ومنها ما يأتي:[٤٢][٤٣] النّجاةُ من النار، ودُخول الجنّة، لِقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (أنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَتَى السَّاعَةُ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ما أعْدَدْتَ لَهَا قالَ: ما أعْدَدْتُ لَهَا مِن كَثِيرِ صَلَاةٍ ولَا صَوْمٍ ولَا صَدَقَةٍ، ولَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ، قالَ: أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ).[٤٤] تأثيرُ محبة الرسول على نفسِ صاحبها،[٤٥] وشُعوره بلذّةِ الإيمان، والقُرب من الله -تعالى-، وتوفيقهِ لحسن اتباعه بالمحبّة. مُرافقته في الجنّة؛ لأنّ المسلم يُحشرُ مع من أحبّ إن أطاعهُ، لِقول الله -تعالى-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً).[٤٦][٤٧]