
قصة توبة كعب بن مالك
قصة توبة كعب بن مالك ودروسها العظيمة
من أعظم القصص التي خلدها التاريخ الإسلامي، قصة توبة الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه، والتي وردت بتفصيل مؤثر في الصحيحين. إنها قصة مليئة بالعِبر والدروس، تحمل معاني الصدق، والاعتراف بالخطأ، والرجوع إلى الله بقلوب صادقة، حتى صارت مثالاً مضيئاً في مسيرة التائبين.
بداية القصة
وقعت أحداث هذه القصة في غزوة تبوك، وهي من أشد الغزوات التي واجه فيها المسلمون صعوبات عظيمة من حرارة شديدة، وجدب الأرض، وبعد المسافة. دعا النبي ﷺ المسلمين للخروج معه، وكان كل من استطاع أن يتجهز لم يتخلف إلا منافق أو ضعيف. أما كعب بن مالك، وهو من الأنصار الكرام الذين شهدوا بيعة العقبة وشاركوا في بدر وأحد، فقد تخلف بلا عذر مقبول. يقول عن نفسه: “لم أكن قط أقدر ولا أيسر مني حين تخلفت عن رسول الله ﷺ في تلك الغزوة”.
لحظة المواجهة
عندما عاد النبي ﷺ من تبوك، جاء المنافقون يعتذرون بأعذار واهية، فقبل النبي ﷺ ظاهرهم ووكل سرائرهم إلى الله. أما كعب بن مالك، فقد قرر أن يقول الحق مهما كان الثمن. دخل على النبي ﷺ وقال بصدق: “يا رسول الله، لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكني والله علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله. والله ما كان لي من عذر”.
بهذا الصدق، اعترف كعب بخطئه، فكانت النتيجة أن أمر النبي ﷺ المسلمين بمقاطعته هو وصاحبيه هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، حتى يقضي الله في أمرهم. عاشوا أياماً ثقيلة، لم يكلمهم أحد، ولا يرد عليهم أحد السلام، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.
امتحان شديد وصبر عظيم
استمر الهجر خمسين ليلة كاملة. حتى زوجة كعب أمرها النبي ﷺ أن تعتزل زوجها. وفي هذه الفترة العصيبة أرسل ملك غسان كتاباً إلى كعب يدعوه إلى اللجوء إليه والتخلي عن الإسلام، لكنه أحرق الكتاب وقال: “هذا أيضاً من البلاء”. لم يزده الامتحان إلا ثباتاً على الإيمان، وانتظاراً لفرج الله.
الفرج بعد الضيق
وفي الليلة الخمسين، نزل الوحي على النبي ﷺ يبشر بتوبة الله على الثلاثة الذين صدقوا ولم يكذبوا. نادى المنادي في شوارع المدينة: “ألا إن الله قد تاب على كعب بن مالك وعلى صاحبيه”. فغمرت الفرحة قلب كعب، وسجد لله شكراً، وانطلقت المدينة كلها لتبشره بالبشرى العظيمة.
الدروس والعبر
قصة توبة كعب بن مالك تحمل دروساً عظيمة:
1. قيمة الصدق: فقد أنقذ الصدق كعباً من النفاق والهلاك، وكان سبباً لقبول توبته.
2. خطر التهاون: رغم مكانة كعب وجهاده السابق، إلا أن تخلفه بلا عذر جلب له محنة عظيمة.
3. رحمة الله الواسعة: فمهما كان الذنب، فإن التوبة الصادقة تمحو أثره.
4. الابتلاء سُلَّم الرفعة: خمسون ليلة من الحزن والمقاطعة جعلت كعباً مثلاً للتائبين في التاريخ.
خاتمة
إن قصة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه درس خالد لكل مسلم، تدعونا إلى الصدق مع الله ومع النفس، وإلى الثبات في أوقات الابتلاء، وإلى اليقين بأن رحمة الله أعظم من ذنوبنا. فهي ليست مجرد حكاية تاريخية، بل هي منهج عملي في حياة المسلم، يثبت أن التوبة الصادقة طريق النجاة، وأن باب الله مفتوح دائما وابد
إن قصة كعب بن مالك رضي الله عنه تظل نموذجًا خالدًا يُعلمنا أن الصدق مهما كان ثمنه، هو طريق النجاة، وأن التوبة الصادقة هي مفتاح عفو الله ورحمته. ولعلها دعوة لكل مسلم أن يراجع نفسه دائمًا، ويصدق مع الله، ليجد الفرج والنور في الدنيا والآخرة.