السيرة النبوية – المرحلة الثالثة: الجهر بالدعوة وبداية الصراع مع قريش
السيرة النبوية – المرحلة الثالثة: الجهر بالدعوة وبداية الصراع مع قريش
بعد أن استقر الإيمان في قلوب الصفوة الأولى من الصحابة رضي الله عنهم، وبعد سنوات من الدعوة السرّية التي بُنيت فيها العقيدة بناءً متينًا، جاء الأمر الإلهي الحاسم الذي غيّر مسار الدعوة الإسلامية، ونقلها من السر إلى العلن، ومن الهمس في البيوت إلى الصدع بالحق في طرقات مكة. كانت هذه المرحلة من أخطر مراحل الدعوة وأكثرها ابتلاءً، لكنها في الوقت نفسه كشفت عن عظمة شخصية النبي ﷺ، وعن قوة الإيمان في قلوب أتباعه الأوائل.

الأمر الإلهي بالجهر بالدعوة..
جاء الأمر الإلهي صريحًا واضحًا في قوله تعالى:
﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾.
هنا انتهت مرحلة السرّية، وبدأت مرحلة المواجهة. لم يعد الإسلام دعوة خفية يتناقلها المؤمنون سرًا، بل رسالة عالمية تُعلن للناس كافة، دون خوف أو تراجع.
فهم النبي ﷺ خطورة هذه المرحلة، لكنه لم يتردد لحظة واحدة في تنفيذ أمر الله، فقد تربّى على اليقين الكامل بأن النصر من عند الله، وأن العاقبة للمتقين مهما طال الطريق.
الدعوة على جبل الصفا:
بدأ النبي ﷺ بالجهر بالدعوة من أقرب الناس إليه، فجمع بطون قريش وصعد على جبل الصفا، وناداهم بصوت عالٍ حتى اجتمعوا حوله. ثم قال لهم سؤالًا ذكيًا يهز العقول:
«أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ؟»
قالوا جميعًا: ما جرّبنا عليك كذبًا قط.
عندها أعلنها ﷺ بوضوح:
«فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».
كانت صدمة لقريش، فمحمد ﷺ الذي عرفوه صادقًا أمينًا، أصبح يدعوهم لترك آلهتهم، وتغيير معتقداتهم، وكسر تقاليد ورثوها عن آبائهم. وهنا ظهر أول موقف عدائي صريح، حين قال أبو لهب: «تبًّا لك، ألهذا جمعتنا؟»، فنزل فيه القرآن يتلى إلى يوم القيامة.
رد فعل قريش من الدعوة الجديدة..
في البداية، حاولت قريش التقليل من شأن الدعوة، ظنًا منهم أنها ستخمد مع الوقت. لكنهم سرعان ما أدركوا أن الأمر أكبر مما توقعوا، وأن الإسلام بدأ يدخل القلوب بقوة، خاصة بين الضعفاء والشباب.
أدركت قريش أن دعوة التوحيد تهدد:
مكانتهم الدينية بين العرب
مصالحهم التجارية
نفوذهم الاجتماعي والسياسي
فلم تكن المشكلة في الصلاة أو الأخلاق، بل في كلمة «لا إله إلا الله»، لأنها تعني المساواة، وإلغاء سيادة البشر على البشر، وربط الناس بالله وحده.
أساليب قريش في مواجهة الدعوة..
تنوعت أساليب قريش في محاربة الإسلام، وكلما فشل أسلوب لجأوا إلى غيره:
1. السخرية والاستهزاء:
كانوا يصفون النبي ﷺ بالساحر، أو المجنون، أو الشاعر، في محاولة لتشويه الدعوة وصرف الناس عنها.
2. التشكيك والتكذيب:
اتهموه بالكذب، رغم علمهم بصدقه، فقط لأن الحق لا يوافق أهواءهم.
3. المساومة:
عرضوا على النبي ﷺ المال والملك والجاه مقابل أن يترك الدعوة، فجاء ردّه الخالد:
«والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته».
4. التعذيب والاضطهاد:
وهنا بدأت مرحلة الألم الحقيقي، حيث صبّت قريش جام غضبها على من أسلم، خاصة من لا قبيلة تحميه.
نماذج من صبر الصحابة وثباتهم..
تعرض الصحابة لألوان شديدة من العذاب، ومع ذلك لم يتراجعوا:
بلال بن رباح رضي الله عنه، يُسحب على الرمال المحرقة، ويوضع الحجر على صدره، فلا يقول إلا: أحدٌ أحد.
آل ياسر، أول بيت في الإسلام يُعذَّب، حتى استُشهدت سمية رضي الله عنها، فكانت أول شهيدة في الإسلام.
خبّاب بن الأرت، وُضع الجمر على ظهره حتى أطفأه الشحم المتساقط من جسده.
وكان النبي ﷺ يمرّ عليهم ويقول:
«صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة».
موقف النبي ﷺ في هذه المرحلة..
رغم كل ما لقيه من أذى وسخرية وتهديد، ظل النبي ﷺ ثابتًا، رحيمًا، صبورًا. لم يدعُ على قومه بالهلاك، بل كان يقول:
«اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون».
كان يعلّم أصحابه أن النصر لا يأتي بالعجلة، وأن طريق الحق مليء بالابتلاء، وأن الصبر هو مفتاح الفرج.
دروس وعبر من مرحلة الجهر بالدعوة..
هذه المرحلة تحمل دروسًا عظيمة لكل مسلم، في كل زمان:
أن الحق لا بد أن يُواجَه بالرفض في بدايته
أن الصبر والثبات أساس كل نجاح
أن الدعوة إلى الله تحتاج تضحية، لا شعارات
أن القوة الحقيقية ليست في المال أو العدد، بل في الإيمان
خاتمة المرحلة..
مثّلت مرحلة الجهر بالدعوة نقطة تحوّل كبرى في السيرة النبوية، حيث انتقل الإسلام من مرحلة البناء الهادئ إلى مرحلة المواجهة العلنية. ورغم قسوة الطريق، إلا أن هذه المرحلة أخرجت رجالًا ونساءً صُنعت شخصياتهم على الصبر واليقين، وكانوا النواة الصلبة التي حملت الإسلام إلى العالم كله.
وفي المرحلة القادمة، سننتقل إلى فصل أشد قسوة، وهو اشتداد الأذى، والحصار، والهجرة الأولى، حيث تبدأ الدعوة في البحث عن آفاق جديدة خارج مكة.