الــرجـــولة وما أدراك ما الــرجـــولة ؟!
خطبة جمعــة بعنوان
الرجولة
أمّا بعد
قد يتساءل البعض لماذا الحديث عن الـرجـولة؟
واقول لأن الامم لاتقوم ولا تنهض إلاّ على أكتافِ الرجال، ولأن الأمة أحوج ما تكون في هذه الايام الى الرجال ..
واذا نظرنا اليوم الى معنى الرجـولة فسوف نرى ان من المسلمين من يفهم الرجولة على أنّها القدرة على جَمعِ المال من حلالٍ كانت او من حرام ..!
ومن النَّاسِ من يرى أنّ الــرجـــولة هي الجاة والسلطان، وهي الحسب والنسب .!
ومنهم من يرى أنّ الــرجـــولة هي القوة الجسدية والبدنية وانتفاخ العضلات .!
واخرون يرون الــرجـــولة هي القدرة الفائقة على الشهرة وانتشار السمعة في الدنيا .!
وغيرُ ذلك من تأويلاتٍ خاطئةٍ لمفهومِ الرجولة ممّا تستنكره الفطرة السليمة وتستقبحه العقول المستنيرة.!
إخواني الكرام
في دارٍ من دُورِ المدينة المباركة يجلس فاروق الأمة عمربن الخطاب رضي الله عنه الى جماعةٍ من أصحابه فقال لهم : ( تمنّوا .!! )
فقام احدهم فقال : اتمنى لو أنّ هذه الدار مملوءةً ذهباً أُنفقها كلها في سبيل الله ..!
ثمّ أعاد عليهم الفاروق كلمته : ( تمنّوا .! )
فقام آخر وقال : اتمنى لو أنّها مملوءةً لؤلؤاً، وزبرجداً، وياقوتاً، وجوهراً، انفقها في سبيل الله وأتصدق بها ..!
ثمّ كرر عليهم الفاروق كلمته فقال : ( تمنّوا .! )
فقالوا : ماندري مانقول يا امير المؤمنين .!
فقال عندها الفاروق عمر رضي الله عنه :
" ولكنّي أتمنى لو أنّها مملوءةً رجالاً أمثال ابي عبيدةَ بن الجراح، ومعاذُ بن جبل، وسالم مولى ابي حذيفة أستعن بهم على إعلاء كلمة الله ".!
رَحمَ الله الفاروق عمر فلقد كان خبيراً بما تقوم به الحضارات الحقه وتنهضُ به الرسالات الكبيرة وتحيا به الأمم الهامدة .!
صحيحٌ أنّ الامم والرسالات تحتاجُ الى المعادنِ المذخورة، والثرواتِ المنشورة، ولكنّها تحتاج قبل كل هذا وذاك الى الروؤسِ المفكرة التى تستغلها، والقلوب الكبيرة التى ترعاها، والعزائم القوية التى تنفدها .!
إنّها تحتاجُ الى الـــرجــــال ...
أعدْ ماشئت من معاملِ السلاح والذخيرة فلن تَقتلَ الأسلحة إلاّ بالـرجــلِ المحارب .
وضع ماشئت من مناهجٍ للتعليمِ والتربية فلن يقوم المنهج إلاّ بالـرجــلِ الذي يقوم بتدريسه .
وأنشيء ما شئت من لجانٍ فلن تنجز مشروعاً إذا حُرمتَ الرجــل الغيور .
ذلك مايقوله الواقع الذي لاريب فيه، أنّ القوة ليست بحدِّ السلاح بقدر ماهي في قلبِ ذلكم الجندي الذي يذود عن عرضه، ويَذبّ عن وطنه ويُدافعُ عن شرفِ أمته ..
والتربية ليست في صفحاتِ الكتاب ولا بالمجلداتِ بقدر ماهي في روحِ المعلم .
وإنجاز المشروعات ليست في تكوينِ اللجانِ بقدرِ ماهي في حماسةِ القائمين عليها .!
فللهِ ما احكم عمراً حين لم يتمنى ذهباً، ولا فضةً
ولا لؤلؤاً، ولا زبرجداً، ولا جوهراً، ولكنّه تمنى رجـالاً من الطراز الممتاز الذين تَتفتحُ على ايديهم كنوزُ الأَرْضِ وأبوابُ السماء .
فلربّ رجــلٌ واحـد قد يساوي مائة، ورجلٌ قد يوازي ألفاً، ورجــلٌ قد يزنُ شعباً بأسره، ورجــلٌ قد تُرجح كفته على أمةٍ بأكملها، ورحم الله من قال :
" رجــلٌ ذو همــةٍ يحيـى أمـــة "
يُعدُ بألــفٍ من رجــال زمــانه
لكـنّه في الالمعـــيه واحــدُ
يُحاصرُ سيفُ الله المسلول خـالد بن الوليد رضي الله عنه الحيرة، فيطلب من الخليفة ابوبكر الصديق رضي الله عنه مدداً من الرجال والسلاحِ والعتاد، فما أمده ابوبكر إلاّ برجــلٍ واحـدٍ هو الصحابي الجليل القعقاع بن عمر التميمي رضي الله عنه وقال له :
" لايهزمُ جيشٌ فيه مثله "
وكان يقول : " لصوتُ القعقاع في الجيش خيرٌ من الفِ رجــــل ".
ولمّا طلب عـمروبن العاص رضي الله عنه المدد من الخليفة عـمربن الخطاب رضي الله عنه لفتحِ مصر كتب إليه الفاروق فقال له :
" أمابــعد : فإنّي قد امددتك بأربعةِ آلآفِ رجل على كلِ ألفِ رجلٍ منهم مقام ألف :
الزبيرُ بن العوام، والمقدادُ بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمه بن مخلد "
فتشبّهـوا إنّ أردتم أن تتشبّهوا
إنّ التشبه بالرجــالِ عظيــمُ
لكنّ الســؤال الذي يطــرح نفسـه الآن !!
مـن هــــــو الــرجـل الذي نُريـد ؟!
هل هو كُلُّ من طرّ شاربه ونبتت لحيته من بني الإنســان !!
إذا كــان هـذا معنى الــرجـــولة فما أكثرَ الــرجــالَ إذاً .!!
إنّ الــرجـــولة ليست بالسنِّ المتقدمة، فكم من شيخٍ في سنِّ السبعين وقلبه في سنِّ السابعة، يفرحُ بالتافه، ويبكي على الحقيرِ، ويتطلع الى ماليس له.!
يقبضُ على مافي يده قبضَ الشحيح حتى لايشركه غيره، فهو طفلٌ صغيرٌ ولكنّ ذو لحيةٍ وشارب .!!
وكم من غــلامٍ في مقتبلِ العمر ولكنّك ترى الــرجـــولة المبكرة في قوله وفعله وعمله وأخلاقه وتفكيره..!
مـرّ الخليفة الفـاروق عـمربن الخطاب رضي الله عنه على ثلةٍ من الصبيانِ وهم يلعبون، فلمّا رأوه فرّوا وهربوا مسرعين، إلاّ صبيٌ واحد بقى مكانه لم يهرب او يفر او يتزحزح من مكانه قيد أنملة، وهذا الصبيُ هو عبدالله بن الزبير رضي الله عنه، فتوجه إليه الفاروق عمر وقال له :
لمَ لم تفر مع الفارين من أصحابك !؟
لمَ لم تهرب مع الهاربين من جلساءك ؟!
فقال وتكلم وتحدث بلسان الــرجـــولة النادرة وكأَنَّهُ في الاربعــين من عمــره :
لم أقترف ذنباً لأخافك ! ولم تكن الطريق ضيقة حتى أوسعها لك ..!
فلمَ اخاف ؟! ولمَ أفر !؟ ولمَ اهرب ؟!
ودخــل غلامٌ عــربي على خليفةٍ أمـوي يتحدث بإسم قومه فقال له الخليفة :
ليتقدم للحديث معنا من هو أسنُّ منك !
اي : اكبرُ منك سنّاً..
فقال الغلام بمنطق الــرجـــولة الفذة النادرة :
يا امير المؤمنين لو كان التقدمُ بالسنِّ لكان في الأمةِ من هو اولى منك بالخلافة ..!
نـعـم كم من صبيٍ كان رجلاً في قلبه وعقله ولسانه، وكم من صغيرٍ حيّر عقــولَ الكبارِ بفهمه الدقيق وبذله العميق !!
وكم من ضئيلِ الحجم وَزَنَ بقوةِ قلبه وسعةِ علمه وعقله وأُفقه ملءُ الارضِ من اصحابِ الأحجام .!
هؤلاء لعمري همُ الصغــارُ الكبــار .!
وفي دنيانا وزماننا ما اكثر الكبار الصغار ، من عقولهم عقول الصغار ، وتفكيرهم تفكير الصغار ، ومنطقهم منطق الصغار ، وتصرفاتهم تصرف الصغار .!
يبكون على الحقير، ويتضجرون من التافة، ويُكسّرون على أمرٍ هيّن، ويُحطّمون على شيءٍ يسير ، ويخسرون العلاقات والصداقات على أمورٍ هزيلةٍ لا قيمة لها ..!
فليست الــرجـــولة بالشاربِ ولا باللحيةِ كما أسلفت، وليست هي كذلك بَبَسطةٍ في الجسمِ وطولٍ القامة، وعرض المنكبين، فقد قال الله عزوجل عن طائفةٍ من البشر :
( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ )
ومـع هـذا :
( كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ ..) المنافقون
وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام:
" يأتي الرجل العظيم يوم القيامة.!
اي : يأتي الرجل الضخم، والرجل السمين يوم القيامة..! قال : " فلا يزنُ عند الله جناح بعوضه "
إقرؤا إنّ شئتم قول الله :
( فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا )
الكهف 105
فما اكثر هذه الأجسام، وما اكثر هذا الصنف من المتضخمين السمان في هذا الزمان، مِمَّنْ يفتخرون بطولهم وعرضهم وقوتهم وفي امور آخِرتهم ودينهم لارصيد لهم يُذكر .!
صحيحٌ انّهم في في دنيا النّاس أذكياء وعباقرة، ويحسبون كل شيء، وكل امر بالدقيقة بل باللحظة لكنهم في امر الدين والعقيدة لايفقهون شيئاً ولا يعلمون شيئاً ولايعرفون شيئاً ..!
فليست الــرجـــولة بالعُرضِ ولا بالطول .!!
وإنّما الــرجـــولة بالصدقِ والعمل، وبالصبرِ والمجاهدة، وبالإيمانِ والعقيدة الراسخة، ولو كان صاحبها نحيلَ الجسمِ ضئيلَ البنيان، هزيلاً ضعيفاً ..!
ولهــذا كان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه رجلاً نحيفاً نحيلاً فصعد يومـاً من الايـام شجرة فانكشفت ساقاه، وقد كانتا من الضَعفِ هزيلتان دقيقتان، فلما بدا للصحابةِ ساقا عبدالله بن مسعود وضعفهما ضَحِكوا عليه ..
فقال حينها رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" اتعجبون وتضحكون من دقةِ ساقيه !!
والذي نفسي بيده لهما اثقلُ في الميزانِ من جبلِ أُحد ".
فليست الــرجـــولة بالسنِّ، ولا بالجسمِ، ولا بالحجم، ولا بالطول، او بالعرض، ولا بالشاربِ، او باللحيةِ، ولا بالمالِ، او بالجاةِ او بالسلطان، ولا بالحسبِ او بالنسب .!!
وانّما الــرجـــولة قوةٌ نفسية تحملُ صاحبها على معالي الامور وتُبعدُه عن سفاسفها ..
الــرجـــولة قوةٌ تحمله على ان يُعطي قبل ان يأخذ، وان يؤدي واجبة قبل ان يُطلب منه .!
الــرجـــولة قوةٌ تجعله كبيراً في صُغره، غنياً في فقره، قوياً في ضعفه.!
الــرجـــولة بإيجاز هي قوةُ الخُلق وخُلقُ القوة ..
الاّ وإنّ خير ما تقوم به دولةٌ لشعبها، وأعظم مايقوم عليه منهج تعليمي، وافضل ما تتعاون عليه أدوات التوجيه كلها من صحافةٍ وإذاعةٍ ومسجد ومدرسة هو صناعة الرجال وتربية هذا الطراز الفريد من الرجال وإعداد هذا الصنف من بني البشر .!
ولن تترعرعَ الــرجـــولة الفارعة، ولن يتربى الرجال الصالحون إلاّ في ظلالِ العقائد الراسخة، والفضائل الثابتة، والمعايير الأصيلة، والحقوق المكفولة إلاّ في أطهر البقاع والأماكن على وجة الارض في مساجدنا الفساح :
فــلابـد من صنـــعِ الــرجــالِ
ومثــلُهُ صُنــعُ الســــلاح
وصنـــاعـةُ الأبطـــال علمٌ
قـد داره أولــوا الصـــلاح
من لم يُلقـنْ أصـــلُهُ
مـن أهــله فقد النجــــاح
لا يُصنـــعُ الابطــــالُ إلاّ
في مســاجدنـا الفســــاح
في روضــةِ القـــرآنِ
في ظـلِ الأحاديث الصحـاح
شـعبٌ بغيِر عقيــدةٍ
ورقٌ تُذريـه الـــريـــاح
من خــان حـيّ على الصلاة
يخــون يـومـاً حيّ على الكفاح
فمن ها هنا يتخرجُ الأبـطـال، ومن هذه البقــاع الطاهرة يُصنعُ الرجال ويُعد القـادة.!
أمّا في ظلامِ الشكِّ المحطم، والإلحاد الكافر ، والانحلال السافر ، والحرمان القاتل فلن توجد رجولةٌ صحيحة كما لاينمو الغرس اذا حُرم الماء والهواء والضياء .!
ولم ترَ الدنيا الرجولة في احلى صورها وأكمل معانيها كما رأتها في تلك النماذج الكريمة التى صنعها الاسلام على يد رسوله العظيم صلى الله عليه وسلم، من رجالٍ يَكْثُرونَ عند الفزع ويَقلوّن عند الطمع .!
من رجالٍ لا يُغريهم الوعد، ولا يُلينهم الوعيد .!
من رجالٍ لا يغرهم النصر ، ولاتحطمهم الهزيمة.!
أمّا اليوم ومع كلِ انواع الفساد الذي غزا بلدان العرب والمسلمين والذي جاءنا من بلدان الكفر
فقلّما ترى إلاّ أشباه الرجال ولا رجال ..
ولــذلكــم
تُعجبنا وتؤلمنا في الوقت ذاته كلمةٌ لرجلٍ درس تعاليم الاسلام السمحة الشاملة فقال في إعجابٍ مرير مؤلم :
" ياله من دينٍ عظيمٍ لو كان له رجـــال "
وهذا الدين الذي يشكو قلة الرجال يضمُ اليوم مايزيدُ على مليار ونصف المليار مسلم ينتسبون إليه ويُحسبون عليه، ولكنّهم كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :
" غثاءٌ كغثاءِ السيل "
او كما قال الشاعر :
يَثقُلونَ الأرض من كثرتهم
ثمّ لا يُغنونَ في أمرٍ جللِ
ألفُ مليــار مســلم
كـــغثــاءٍ بشــطِ يـمِ
أما والله لو ظفر الاسلام في كلِ ألف من ابنائه برجلٍ واحدٍ فيه خصائص الــرجـــولة لكان ذلك خيراً له وأجدى عليه من هذة الجماهير المكدسة التى لا يهابها عدو ولا ينتصر بها صديق.!
فليتَ لي بهم قوماً اذا ركبوا
شنّوا الإغارة فرساناً وركبانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا
( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الأنفال (53)
بـــارك اللـه لـي ولكــم بالقـــرآن العظيــــم
ونفعنـــي وإيـــاكــم بمـا فيـه من الآيـــــات
والذكــــر الحكيــــم ..
اقـــــــول مـا سمـعتـــم واستغفـــروا اللـَّه لـي ولــكم مـن كل ذنـب فيـــا فــــوز المستغفـــريـــن
ويــا نجــــــاة التـــــائبــــــين ..
الخطبة الثانية:
ثمّ أمّا بعد:
أحدثكم اليوم عن الــرجـــولة، وما ادراكم ما الــرجـــولة ؟؟
الــرجـــولة تتجلى فيها أخلاقيات ومباديء الشخص، ومدى استعداده لتحمل المسئوليات المختلفة، ومدى إلتزامه بشريعة الله عزوجل، والتضحية والبذل من اجلها وفي سبيلها .!
الــرجـــولة ياكــــرام
ليست تسلطاً ولا استبداداً وليست ظلماً ولا جوراً وليست استكباراً ولاعنجهية.!
ليست تعدي على خلق الله، ولا أكلاً لحقوقهم وأقواتهم .!
الــرجـــولة ليست كلمةً تقال، ولاشعاراً يرفع، ولا دعوى تُدّعى .!
إنّما الــرجـــولة مباديء وقيم ومُثل وأخلاق...
الــرجـــولة عفةٌ وطهارةٌ ونقاء ..
الــرجـــولة حكمةٌ في الموقف، وثباتٌ عند الشدة، ولينٌ في المعاملة، ورجاحةٌ في العقل، ورفقٌ بالخلق.
الــرجـــولة صدقٌ وتقوى، وزهدٌ وورع، ورحمةٌ ومودة، وخوفٌ وخشية من الواحد الاحد :
( يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } النور 37
فما أحــوجنا في هذا الزمان الى الــرجــال .!
ما أحــوجنا إليهم والبحث عنهم .!
مع ان رحلة البحث عن هؤلاء ليست بالسهلة وليست باليسيرة، بل إنّها شاقةٌ شقاء استخراج اللؤلؤ من قاعِ البحارِ العوامق بل اشد .
شاقة كشقاءِ زرع النباتات الاستوائية في اعماق الصحراء .!
شاقةٌ شقاء حرث البحر او زرع الهواء .!
وقد يقضي المُصلحُ عمره كله في رحلةِ البحث عن رجال، وقد يجد واحداً يعينه على غايته وقد لايجد.!
يقول الشاعر :
مازِلتُ ابحثُ في وجوهِ الناس عن بعضِ الرجالِ
عن عصبةٍ يقفون في الازماتِ كالشمِ الجبالِ
فاذا تكلمت الشفاه سمعت ميزان المقالِ
واذا تحركت الرجال رأيت أفعال الرجالِ
اما اذا سكتوا فأنظارٌ لها وقعُ النبالِ
يسعون جهداً للعُلا بل دائماً نحو الكمالِ
يَصِلون للغاياتِ لوكانت على بُعد المُحالِ
ويُحققون مفاخراً كانت خيالاً في خيالِ
يعشقون الموت في اوساطِ ساحات القتالِ
ويرون أنّ الحر عبدٌ إن توجه للضلالِ
{ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } الأحزاب 23
إيمانهم كالجبال الشّمِ الرواسي، لاتزحزحه قوة، ولاتحركه شبهة، ولاتثيره شهوة.!
في موقفٍ تتجلى فيه معاني الــرجـــولة الحقه
يُرسلُ بطلُ الأمة المحمدية وأسدها وفارسها خالد بن الوليد رضي الله عنه رساله الى ملك الروم مفادها :
( من خالد بن الوليد الى نقفور كلب الروم أسلم تسلم وإلاّ جئتك بقومٍ يحبون الموت كما تُحبون انتم الدنيا )
رسالةٌ فيها العز، فيها الشموخ !
رسالةٌ فيها المجد، فيها الإباء .!
رسالةٌ فيها الافتخار بهذا الدين الذي ينتمى اليه..
ويتناول ملك الروم هذه الرسالة فلما قرأها ارتعدت فرائصه، وخاف على ملكه من الزوالِ فاستغاث بملكِ الصين يطلب منه مداداً من الرجال والمقاتلين لمواجهة خالد بن الوليد ..
فرد ملك الصين على رسالة ملك الروم بردٍ يُظهرُ فيه عزة المسلمين وقوةِ بأسهم قائلاً :
" لاطاقة لي بقتالِ قومٍ لو ارادوا خلعَ الجبال لخلعوها بأيديهم ".
من ذا الذي رفع السيوف
ليرفع أسمك فوق هاماتِ النجومِ منارا
كنّا جبالاً في الجبالِ وربما
سرنا علـى مـوجِ البحـارِ بحـارا
كنّا نري الأصنام مـن ذهـبٍ
فنهدمهـا ونهـدمُ فوقها الكفـارا
لو كان غير المسلمين لحازهـا
كنزاً وصاغ الحلي والدينـارا
بمعابدِ الإفرنـج كـان آذاننـا
قبل الكتائب يفتـح الأمصـارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤهـا
سجداتنا والأرض تقذف نـارا
كنا نقدم للسيوف صدورنا
لم نخش يوماً غاشماً جبارا
لـم نخـش طاغوتـاً يحاربنـا
ولو نصب المنايا حولنا أسوارا
وكأن ظل السيف ظـل حديقـة
خضراء تنبت حولنا الأزهـارا
ندعو جهارا لا إله سوى الـذي
صنع الوجود وقـدر الأقـدارا
ورؤسنا يـارب فـوق اكفنـا
نرجوا ثوابك مغنمـاً وجـوارا
أيُّ رجــالٍ كان هؤلاء أمِنْ الملائكة، ام من البشر .!
ليسوا ملائكة إنّما بشراً تخرجوا من جامعةٍ مكتوبٌ على بابها :
( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ الْسُجود ) الفتح 29
فما أحــوجنا كآباء الى تنمية عوامل الــرجـــولة في شخصية اولادنا وفلذات اكبادنا، فنأخذهم للمجامعِ العامة ونُجلسهم مع الكبار لتلقيح فهمهم وزيادة عقليتهم، وليحملهم ذلك على محاكاة الكبار ..
وهكذا كان الصحابة الكرام يفعلون مع أبنائهم حيث كانوا يصحبونهم الى مجالس النبي صلى الله عليه وسلم.
وممّا يُنمي الــرجـــولة في شخصية الاولاد تناول الحديث معهم عن بطولات السابقين واللاحقين والحديث معهم ولو لساعاتٍ محددة عن المعارك الاسلامية، وانتصارات المسلمين وذلك لتعظيم الشجاعةِ في نفوسهم، وتعظيم حبِّ هولاء الرجال والأبطال في قلوبهم.
وممّا يُنمي الــرجـــولة في شخصية الاولاد تَجنب اهانتهم خاصةً امام الآخرين، وعدم احتقار أفكارهم وآراءهم، وتشجيعهم على المشاركة، وإعطاءه قدرة وأشعاره بأهميته .
وممّا يُنمي كذلك الــرجـــولة في شخصية الاولاد تعليمهم الجرأة في مواضعها، وتدريبهم على فنِّ الإلقاء والحديث والخطاب .
كذلك الاهتمام بالحشمة في ملابسهم، وإبعادهم عن الترفِ وحياة الكسل، والراحة والبطالة.!
كذلك تجنيبه مجالس اللهو والباطل والغناء والموسيقى لانها منافيةٌ للـرجـولة، ومناقضةٌ لصفةِ الـرجـال.
اللهم وأبرم لهذه الأمة امراً رشيداً يُعزُ فيه اهل طاعتك، ويُذل فيه اهل معصيتك، ويؤمر لك فيه بالمعروف، وينهى لك فيه عن المنكر ياسميع الدعاء.!
اللهم ارزقنا الفقة في الدين، والتمسك بالكتاب المبين، والإقتداء بسيد المرسلين، والسير على نهج أسلافنا الصالحين..
اللهم اغن كل فقير ، اللهم أشبع كل جائع، اللهم اكس كل عريان، اللهم اقض دين كل مدين، اللهم فرج عن كل مكروب، اللهم رد كل غريب، اللهم واشف كل مريض ..
اللهم أحسن بالمحسنين، وتولهم أجمعين،
اللهم اجعل نفاقتهم في سبيلك ومباركة عندك..
ثم اعلموا انّ الله أمركم بأمرٍ بدأ به نفسه وثنى به ملائكته المسبحةِ بقدسه وثلّثَ به عباده من جنِّه وإنسه فقال :-
(( إنَّ اللّهَ وملائِكتَه يُصلونَ على النَّبي يا أيَّها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ))....
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك، يا أرحم الراحمين.