افتراءات الغرب على الرسول صلى الله عليه وسلم في ظل الإعلام الرقمي

افتراءات الغرب على الرسول صلى الله عليه وسلم في ظل الإعلام الرقمي

0 التقيمات

يقول عز وجل في سورة التوبة «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128)»، ويقول في سورة الأحزاب «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)».

الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعظم الخلق، فقد اصطفاه الله وأرسله رحمة للعالمين لينير طريقهم، ويخرجهم من غياهب الجهل، وهو خاتم النبيين والمرسلين. ولقد واجهت الرسول الكريم منذ إعلان دعوته من كفار مكة ست افتراءات وهي: السحر والشعر والكهانة والجنون والتعلم من البشر واختلاق القرآن، وقد تعامل معها القرآن إيرادا وردا من حيث الأسلوب وطريقة العرض وبيان الأسباب وكيفية الرد(1). 

ولم يدخر المستشرقون المتشددون جهدا في تزييف الحقائق عن النبي  العظيم، ومحاولة النيل من شخصه الكريم، لأن ماحققه الرسول صلى الله عليه وسلم من نجاح عظيم في نشر الدعوة الإسلامية وترسيخ أسس الدولة الإسلامية، طالما قض مضجع الكنيسة التي حاولت عبر العصور الحد من انتشار الدين الإسلامي في العالم بالإساءة إلى نبينا سيد الخلق أجمعين، «وقد اعتاد المؤلفون اللاتينيون أن يطرحوا على انفسهم اسئلة عن محمد الإنسان وعن أسباب انتشار دعوته، ثم يجيبوا عنها بأنه كان ساحرا استطاع بسحره أن يقضي على الكنيسة في إفريقيا والشرق، وأن يثبت دينه ويغري الناس بإتباعه»(2).

 وما فتئ أعداء الرسول الكريم عبر العصور يحاولون بشتى الوسائل المتاحة للنيل من الإسلام بصفة عامة، ومن شخص النبي العظيم بصفة خاصة، لأنه أعظم الخلق، «وليس هناك شخصية كبيرة في التاريخ حُط من قدرها في الغرب كمحمد، فقد أظهر الكتاب الغربيون ميلهم لتصديق أسوأ الأمور عن محمد» (3).  وبقي الغرب يجتهد في تحامله على النبي الكريم حيث ظل «زمنا طويلا معروفا لديهم معرفة سيئة، فلا تكاد توجد خرافة ولا فظاظة إلا نسبوها إليه»(4). 

تقول "كارين آرمسترونغ (K. Armstrong) في كتابها "سيرة النبي محمد" وما تزال آثار الوهم القديم قائمة حتى يومنا هذا، وإذ لا يزال من الشائع عند أبناء الغرب أن يسلموا دون نقاش بأن محمدا ليس سوى رجل استغل الدين في تحقيق الفتوحات وسيادة العالم، وإن الإسلام دين عنف يعتمد على السيف.

والراجح أن هذه الترسبات المعرفية المتراكمة عبر التاريخ لدى الغرب عن النبي الكريم، والتي تشوبها الافتراءات الكاذبة، والحقائق المزيفة كان نتيجة سعي المؤسسات الدينية التي تمثلها المتواصل للنيل من الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم، وتراكم دراسات وأبحاث المستشرقين التي اتسمت بنقل صورة خاطئة عن نبي الإسلام غدت مع مرور السنين إلى خرافة غربية تناولت عدة اكاذيب عن نبينا الكريم، كانت أبرزها تلك التي تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام بتدريب حمامة على التقاط حبات البازلاء من اذنيه حتى يبدو للرائي كأن روح القدس تنزل عليهن وتهمس له بالوحي، وهذه الصورة الخاطئة من بين الصور الأخرى الراسخة في العقل الغربي والتي بنى عليها الإعلام الغربي الحديث فكرته عن الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم، والتي تعكس مدى جهل الغرب بالدين الإسلامي، وخصوصا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، «ولذلك ظلت صورته مشوهة في الغرب حتى من قبل أولئك المستشرقين الذين يحسبون أنها منصفة»(5). 

وها هو الإعلام الغربي يشن بين الفينة والأخرى هجماته الإعلامية الشرسة محاولة منه تشويه صورة الرسول الكريم، هذه الحرب الإعلامية التي اتخذت «أشكالا وألوانا متعددة، الهدف منها تزوير الحق وتشويهه تنفيرا للناس عنه، كي يحافظ الكبار على حظوظهم الدينية والدنيوية، وإرضاء لكوامن نفوسهم من الكبر والعناد والحسد»(6). 

ومنذ بداية الألفية الثالثة اتخذت هذه الحرب منحى أخر، خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 حيث شهد العالم غليانا إعلاميا وفكريا للنيل من شخصية الرسول الكريم، وألفت كتب تهاجم النبي الكريم والمسلمين في مقدمتها كتاب "Prophet of Doom" (نبي الخراب) للمؤلف كريغ وين (Craig Winn) هاجم بشدة أعظم الخلق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلقت الشرارة الأولى للحرب عندما أخرج المنتج والممثل الهولندي المثير للجدل "تيو فن غوخ (Theo van Gogh) وهو حفيد شقيق الرسام المشهور "فان غوخ" فيلما قصيرا بعنوان "الخضوع" (Submission) (12 دقيقة)، حاول من خلاله أن يروج لصورة معاملة المرأة في الإسلام، وربطه بنصوص من القرآن الكريم، وكانت فكرة السيناريو لـ"آيان حرصي علي" عضوة البرلمان في هولندا، وهي من مواليد الصومال. وتم عرض الفيلم في 29 أغسطس 2004 على شبكة تلفزيونية ليبيرالية في هولندا، وتلقى مخرج الفيلم عدة رسائل تهديد لم يعرها أي اهتمام، فتم اغتياله صباح يوم 02 نوفمبر 2004 في أمستردام بإطلاق ثمان رصاصات في صدره على يد "محمد بويري" الهولندي من أصل مغربي.

بعد سنة نشرت الصحيفة الدانمركية (Politiken ) مقالة بعنوان "الرهبة الشديدة من انتقاد الإسلام" تطرقت إلى الصعوبة التي اعترضت الصحافي الدانمركي "كاري بلوتكن" (Kare Bluitgen)  بعد انتهائه من تأليف كتاب عن سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، موجهة للأطفال بعنوان (Koranen og profeten Muhammeds) "القرآن وحياة النبي محمد"، إذ فشل في إقناع الرسامين برسم صور عن النبي الكريم ليضيفها إلى كتابه، وعندما علمت بذلك صحيفة "يولاندس بوستن" (Jyllands-Posten) (وهي أكثر صحيفة دانمركية مبيعا، ظهر أول عدد منها في 02 أكتوبر 1871)، قامت بإجراء مسابقة بين أربعين رساما كاريكاتوريا لرسم صور تعبر عن معاناة "بلوتكن" وصعوبته في إيجاد رسامين لكتابه، وإثبات حقيقة أنه لا يوجد فنان يمكنه رسم هذه الرسوم بدون أن يخفي اسمه، فانسحب من المسابقة ثلاثة رسامين خوفا من عاقبة ذلك.

في 30 سبتمبر 2005 نشرت "يولاندس بوستن" 12 صورة كاريكاتورية مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، مرفقة بمقال عن المراقبة الذاتية وحرية التعبير للصحافي "كاره بلوتجين" لتأكيد الادعاءات أنه لا يوجد فنان مستعد لرسم هذه الرسوم بدون أن يخفي اسمه، ومقالة أخرى بعنوان «وجه محمد"، وفي 09 أكتوبر طالبت "جمعية المسلمين" في الدانمرك بوقف الصور، إلا ان الصحيفة رفضت ذلك، وأيدت الحكومة موقف الصحيفة بحجة حرية الرأي والتعبير، فقامت الجاليات الإسلامية في الدول الغربية باحتجاجات مكثفة ساندتها احتجاجات واسعة في الدول الإسلامية، فتأجج الموقف الشعبي والسياسي بين الغالبية العظمى من المسلمين في العالم، حيث قام أكثر من 3500 شخص بمظاهرة سلمية في 14 أكتوبر 2005 أمام مقر الصحيفة، وفي 19 أكتوبر وجه سفراء السعودية والمغرب وإيران والجزائر وليبيا وباكستان وتركيا وإندونيسيا ومصر والبوسنة والهرسك رسالة إلى رئيس وزراء الدانمرك، يطلبون بعقد اجتماع بخصوص الوضع القائم بسبب الرسوم المسيئة للرسول الكريم، فكان جواب الحكومة أنها لا تستطيع التدخل في حرية التعبير عن الرأي،  وكل أمر يتعلق بمهاجمة الدين يجب عرضه على المحاكم.

في 03 نوفمبر أعادت الصحيفة الألمانية ( Frankfurter Allgemeine Zeitung ) نشر إحدى هذه الرسوم. وفي 29 ديسمبر انتقدت جامعة الدول العربية الصحيفةَ والحكومة الدانمركية لطريقة تعاملها مع الأحداث.

 في 10 يناير 2006 أعادت الصحيفة النرويجية (Magazinet)، والألمانية (Die Welt)، والفرنسية (France Soir)، وغيرها من الصحف الأوربية نشر تلك الصور الكاريكاتيرية، فسحبت المملكة العربية السعودية سفيرها في الدانمرك، وبدأ السعوديون بحملة شعبية من أجل مقاطعة المنتجات الدانمركية، وحذت حذوهم باقي الشعوب العربية. وأغلقت ليبيا سفارتها في الدانمرك، وتوالت الاحتجاجات في الدول المسلمة، وشجبت بعض الحكومات العربية الصحيفة الدانمركية، فقدمت هذه الأخيرة اعتذارا للمسلمين باللغتين العربية والدانمركية في 30 يناير 2006.

لكن هذا الاعتذار لم يشف الجرح الغائر التي تركته تلك الرسوم في قلوب المسلمين عبر العالم، فشجعت مصر مواطنيها مقاطعة المنتجات الدانمركية، فاعتبر الاتحاد الأوربي المساند للدانمرك، هذه المقاطعة مخالفة لقوانين التجارة العالمية.

في اليوم الموالي لاعتذار "بولاندس بوستن" تم إخلاء مكتبين من مكاتب الصحيفة في "آرهوس" و"كوبنهاجن" بسبب بلاغ بوجود قنبلة في المبنيين. وطالبت 17 من وزارات خارجية الدول العربية بمعاقبة كاتب المقال، وطالبت البحرين باعتذار من ملكة الدانمرك "مارغريت الثانية"، وهددت بقطع 158 برميل من النفط يوميا إن لم تقدم اعتذارها.

في مستهل فبراير 2006 قامت الصحيفة الفرنسية (France Soir)، بإعادة نشر تلك الرسوم مع إضافة رسم جديد، فتم في نفس اليوم فصل كبير المحررين في الجريدة من قبل مالكها "رامي لكح" الكاثوليكي ذو الأصول المصرية، وقامت صحف عالمية بإعادة نشرها أيضا مثل الصحف الألمانية (Die Welt) و(Berliner Zeitung)، والإيطالية (La Stampa)، والإسبانية (El Periodico)، والهولندية (Volkskrant)، والبولندية(Rzeczpospolita)، والدانماركية(Dagbladet Information)، والنيوزيلندية(The Dominion Post)، والفرنسية(Le Monde)، و الأمريكية (New York Sun)، و البلجيكية (Le Soir).. والقنوات العالمية في مقدمتها هيئة الإذاعة البريطانية. كما نشرت الصحيفة الأردنية "شيحان" بدورها تلك الرسوم، فتم فصل مديرها.

في 04 فبراير 2006، تصاعدت حدة الاحتجاجات  ووصلت إلى حد إحراق مبنى يضم سفارتي الدانمارك والنرويج في دمشق، وسفارة الدانمارك في سوريا، وإلحاق أضرار بمبنى يضم سفارتي السويد والشيلي، فطالبت خارجية الدانمارك رعاياه بمغادرة سوريا. إضافة إلى أحداث أخرى وترت العلاقة بين الدول العربية والغرب مما دفع كوفي عنان أن يدعو العالم الإسلامي إلى قبول اعتذار صحيفة "يولاندس بوستن".

لكن سلسلة الأحداث هاته لم تردع المؤسسات الاعلامية في الدانمارك، ففي 05 فبراير 2006 تم منح صحيفة "يولاندس بوستن" جائزة فكتور التي تمنحها صحيفة " "Ekstra Bladetالدانماركية للصحف التي تدافع عن حرية الرأي، فقامت إيران بسحب سفيرها في الدانمارك، وتم إضرام النار في قنصليتها في بيروت، وجمدت وزارة النقل والمواصلات في العراق عقودها مع الدانمارك والنرويج، وتجمع آلاف من المسلمين في مظاهرات سلمية بالعاصمة البلجيكية بروكسيل، و500 شخص بفيينا، و1000 شخص في باريس، وإغلاق سفارة الدانمارك في إندونيسيا لحماية موظفيها، ونصحت مواطنيها بعدم القيام برحلات سياحية إلى عدد من الدول العربية.

وتوالت المظاهرات بالآلاف في إيران وأفغانستان ومصر وباكستان، وفي 07 فبراير أصدرت منظمة العفو الدولية بيانا ينص على أن حرية الرأي والتعبير ليست مطلقة، ويجب استعمالها بحكمة. كما ناشد كوفي عنان، وخافيير سولانا ممثل خارجية الاتحاد الأوربي، والمنظمات الإسلامية في أفغانستان والعالم الإسلامي لوقف العنف خلال مظاهرات الاحتجاج.

بعد سنتين من الهدوء عاد الإعلام الدانماركي إلى تأجيج الوضع واستفزاز المسلمين، حيث قامت 17 جريدة دانماركية في 12 فبراير 2008 بإعادة نشر أحد الرسوم الكاريكاتورية مما أجج المظاهرات من جديد في الدول الإسلامية، وتجددت حملة مقاطعة المنتوجات الدانماركية، خاصة منتجات الألبان، بدأت بدعوة شعبية عبر الصحف والقنوات التلفازية غير الرسمية، وعبر رسائل الهاتف النقال ومواقع التواصل الاجتماعي المتنوعة، كما قامت مراكز تجارية كبرى في السعودية والإمارات والكويت والبحرين بالامتناع عن بيع هذه المنتوجات عن طريق إعلانات تجارية بصفحة كاملة في بعض الصحف المعروفة.

ويبدو أن ظاهرة السخرية من الرسول صلى الله عليه وسلم أصبحت تقليدا لدى وسائل الإعلام الغربية تسعى من خلال استغلالها إلى تحقيق الشهرة العالمية، والرفع من إصداراتها في ظل ركودها أمام منافسة الإعلام الرقمي لها. ففي فبراير 2011 نشرت المجلة الفرنسية "شارلي إيبدو" (شارلي الأسبوعية) عددا خاصا رسمت الرسول الكريم رئيسا لتحريرها تحت عنوان: "شريعة إيبدو" تسببت في تأجج الوضع من جديد، وأثارت موجة عارمة من الاحتجاجات في العالم الإسلامي والعواصم الغربية أدت إلى حرق بعض مكاتبها.

و"شارلي إيبدو" مجلة أسبوعية ساخرة تصدر في باريس، تتميز منشوراتها بكونها غير وقورة وغير ملتزمة، تتمحور موضوعاتها حول الرسوم الكاريكاتورية والتقارير والنكات عن اليمين المتطرف والكاثوليكية واليهودية والإسلام والسياسة والثقافة، وهي يسارية التوجه ظهرت في مستهل الثمانينيات من القرن الماضي.

وكان الغرض من نشرها لهذه الصور المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم هو استفزاز المسلمين، مما تسبب في تعرض موقعها الالكتروني للاختراق، وتمادت المجلة في تعنتها وعدم مبالاتها بما تسببت فيه من احتجاجات عبر العالم الإسلامي، فنشرت في السنة الموالية سلسلة رسوم أخرى عن النبي الكريم في سبتمبر 2012، أثارت الوضع من جديد فنظمت مظاهرات سلمية عبر العالم، وانتقد البيت الأبيض ذلك، وتساءل عن الحكمة من وراء قيام مجلة شارلي بنشر تلك الرسوم.  

وتزامن نشر هذه الرسوم المسيئة مع احتجاجات أمام السفارات الأمريكية في العديد من الدول الإسلامية مثل مصر وتونس واليمن والعراق.. نتيجة إخراج الفيلم الأمريكي المعادي للإسلام "براءة المسلمين" (Innocence of Muslims) في سبتمبر 2012. والذي أدى إلى هجوم في ليبيا تسبب في مقتل أربعة دبلوماسيين أمريكيين. ومات الكثير من الناس ضمن الاحتجاجات التي اندلعت عقب ظهور الفيلم. وتُجهل هوية منتج الفيلم ومخرجه، إلا أن أصابع الاتهام تشير إلى "نقولا باسيلي نقولا"، وهو أمريكي من أصل مصري قبطي، وشخص أمريكي يدعى "ألن روبرتس". والفيلم يسيء إلى شخص الرسول الكريم، ويعتبر القرآن مزيج من آيات التوراة وضعها راهب مسيحي.

في أكتوبر 2014 نشرت مجلة "شارلي إيبدو" رسما مسيئا للرسول الكريم ضمن ملفها الخاص حول داعش. وفي 07 يناير 2015 اقتحم مسلحان ملثمان مقر المجلة، وأطلقا النار فقتلا 12 شخصا وأصيب 11 آخرين، إضافة إلى أحداث  في اليومين المواليين أدت إلى قتل أربعة أشخاص في احتجاز رهائن في "بورت دو فانسان"، ومقتل شخص آخر في حادثة إطلاق النار في "مونروج".

أدى الحادث بالحكومة الفرنسية إلى الرفع من درجة تأهبها، فانتشرت عناصر الشرطة والجيش في باريس وضواحيها، ونظمت مسيرات شعبية شارك فيها أكثر من ثلاثة ملايين وسبعمائة ألف شخص، منهم حوالي المليونين في باريس، مع مشاركة أكثر من 50 من قادة العالم. بموازاة ذلك نظمت مسيرات في العواصم الغربية، وتضامنت مؤسسات إعلامية عالمية التلفزية والمكتوبة والرقمية بشكل مكثف مع "شارلي إيبدو".

عقب هذا الهجوم شهدت عدة أماكن إسلامية طلقات نارية أو مقذوفات لم تخلف أية ضحايا، وسجلت الداخلية الفرنسية حوالي 50 عملية عنصرية خلال الخمسة أيام الموالية للهجوم في مقابل، 110 عملية تم تسجيلها خلال سنة 2014 مثل: كتابات عنصرية ضد المسلمين، ورمي جثة ورأس خنزير في قاعات الصلاة في "جيزنوكسيا"، وحرائق إجرامية، وعبارات عنصرية مع اعتداءات جسدية...

وفي 13 يناير 2015 أعلن وزير الداخلية الفرنسي عن حماية أماكن العبادة لدى المسلمين من قبل قوات الأمن، فتم تسخير عشرة آلاف عنصر أمني ابتداء من اليوم الموالي.

ويندهش الغربيون من ردود الفعل هذه من طرف مسلمي العالم المتمثلة في التعبئة الضخمة والسريعة لمئات المسيرات والاحتجاجات، متسائلين عن عدم انتفاضتهم بنفس القوة قبل أحداث الألفية الثالثة، حينما صدرت رواية "آيات شيطانية" للروائي البريطاني من أصل هندي "سلمان رشدي" في لندن في 26 ديسمبر 1988، والتي منعت إثر صدورها في البلدان المسلمة، وتم حرق نسخ عديدة منها في المملكة المتحدة، وصدرت الفتوى الشهيرة للخميني في 14 فبراير 1989 بإهدار دم صاحب الرواية، مما لقي اهتماما إعلاميا عالميا اتهموا فيه المسلمين بالبربرية وقمع حريات التعبير.

وحينما رسمت سيدة إسرائيلية "تاتانيا سوسكن" عام 1997 صورا كاريكاتورية مسيئة للرسول الكريم والتي رفضت الصحف نشرها، فقامت بتوزيعها بنفسها في مدينة الخليل، بالإضافة إلى صورة ضمها كتيب بعنوان "النبي " للمؤلف "جاك شيك" (Jack Chick) عام 1988، وقبل ذلك هناك العديد من الصور التي رسمت للرسول صلى الله عليه وسلم ضمتها كتب تاريخية قديمة أشهرها:

  • كتاب "جامع التواريخ" للمؤلف رشيد الدين كتب عام 1324، ويوجد بمكتبة جامعة أدبرة، والصورة لا تظهر ملامح الوجه.
  • كتاب "سيرة النبي"ترجمة تركية لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، صدر عام 1388م، وهناك حجاب على الوجه.
  • كتاب "حياة محمد" للمؤلف الإنجليزي "همفري بريدو" (Humphrey Prideaux) صدر عام 1697.
  • كتاب "حياة محمد" للمؤلف الفرنسي "سيوردي ريار" (Sieur De Ryer).

وفي عام 1911 ظهر ممثل لبضع ثوان يمثل شخصية الرسول الكريم في الفيلم الإيطالي الصامت بعنوان "Inferno" (الجحيم).

ويرجع السبب في ذلك أنه في الفترة لم يكن الإعلام ذو فعالية قوية بنفس الوتيرة التي أصبح عليها الآن، وكان نشر صورة مسيئة أو كتاب معاد للإسلام يظل حبيس البلد الذي نشرت فيه الصورة أو طبع فيه الكتاب، ولا يصل إلى البلدان الإسلامية بفعل الرقابة. ومن المعلوم أن ظهور شبكة الإنترنيت وانتشارها بشكل فعلي كان في بداية الألفية الثالثة، ومنذ ذلك الحين أصبح العالم عبارة عن قرية صغيرة، حيث انتشرت في البداية مواقع للدردشة الصوتية والمنتديات للتواصل بين أفراد الشعوب، فانفتحت قنوات التواصل المباشر عبر العالم، وأحدث ظهور موقع التواصل الاجتماعي ثورة عالمية في التواصل الرقمي في 04 فبراير 2004، وتفرع عنه في السنين الأخيرة وسائل اتصال رقمية جد متطورة على الهواتف الذكية مثل الانستغرام والوات ساب..، ولا ننسى أهمية موقع "اليوتيوب" الذي ينقل الأحداث بشكل مباشر من أصقاع العالم.. كل هذا ساعد بشكل كبير على تعبئة أفراد الشعوب في وقت وجيز، ولعل ثورات الربيع العربي خير مثال للدور التي لعبته وسائل الاتصال الرقمي في التعبئة والتحسيس بأهمية الانتفاضة ضد بعض الأنظمة العربية.

ولذلك نلمس أهمية الدور الذي لعبته وسائل الاتصال الرقمي هاته في نقل أي حدث معادي للإسلام أو مسيئا للرسول الكريم  إلى الشعوب الإسلامية التي يسارع أفرادها إلى التعبئة والوقوف ضد هذه الإساءة أو تلك، بتنظيم المظاهرات والاحتجاجات ومقاطعة المنتوجات، مما يؤثر سلبا على علاقة بعض الدول مع الدول الإسلامية اقتصاديا وسياسيا، وتوتر العلاقة الاجتماعية بين الغرب والجاليات المسلمة يؤثر على نمط التعايش بين الديانات.

 

________  الهوامش ________________ 

1- ("الافتراءات الواردة على الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن" (دراسة قرآنية)-  طارق علي محمد عصفور- ماجستير- كلية الدراسات العليا الجامعة الأردنية/ 2008).

2- ("النبي صلى الله عليه وسلم ويهود المدينة" – د محمد فارس الجميل – مركز فيصل للبحوث والدراسات الاسلامية – الرياض – الطبعة الأولى/ 2002).

3- ("محمد في مكة" – مونتجمري وات- ترجمة شعبان بركات (صيدا، المكتبة العصرية).

4- (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية الجزء الأول) الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومكتب التربية العربي لدول الخليج- الرياض 1985).

5- ("النبي صلى الله عليه وسلم ويهود المدينة" – د محمد فارس الجميل – مركز فيصل للبحوث والدراسات الاسلامية – الرياض – الطبعة الأولى/ 2002).

6- ("الافتراءات الواردة على الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن" (دراسة قرآنية)-  طارق علي محمد عصفور- ماجستير- كلية الدراسات العليا الجامعة الأردنية/ 2008).

 

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

9

متابعين

6

متابعهم

9

مقالات مشابة