عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه
مقدمة:
عُمر بن عبد العزيز، خامس الخلفاء الراشدين كما يُلقّب، وأحد أعظم من تولّى الحكم في التاريخ الإسلامي بعد الخلفاء الأربعة. اشتهر بالعدل والزهد والإصلاح، حتى أصبح رمزًا للخلافة الراشدة الثانية. لكن هذا المجد لم يكن وليد لحظة، بل كان نتيجة نشأة فريدة وتربية مميزة. في هذا المقال، نستعرض نشأته وسنواته الأولى التي مهدت لطريقه نحو الريادة.
أولا/ نشأتة رضي الله عنه
1 / نسبه ومولده:
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، يُكنّى بـ"أبي حفص". وُلد سنة 61 هـ / 681 م في المدينة المنورة، وهي آنذاك عاصمة العلم والدين، في بيت من أعرق البيوت الأموية، فوالده هو عبد العزيز بن مروان والي مصر، وأمه ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، أي أن نسبه يمتد إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب من جهة أمه.
2/ بيئة نشأته:
وُلد عمر في المدينة المنورة ونشأ فيها بين أعلام الصحابة والتابعين، حيث كان الجو العام مفعمًا بالعلم، والورع، والتمسّك بالسنة. وقد ساعد هذا المحيط النقي على تشكيل وعيه الديني والفكري، خاصة أن والدته كانت تُحدثه كثيرًا عن جده عمر بن الخطاب وصفاته وعدله، فكان له أثر بالغ في غرس القيم في نفسه منذ نعومة أظفاره.
3 / تعليمه وتأثره بالعلماء:
حرص والده عبد العزيز بن مروان على أن يُنشِّئ عمر نشأة علمية راسخة، فأرسله إلى كبار العلماء في المدينة ليتعلم منهم الفقه والحديث واللغة. من أبرز من تأثر بهم:
صالح بن كيسان: كان من كبار علماء المدينة، وكان شديدًا في تعليم عمر، وقد قال عن تلميذه: "ما رأيت أحدًا أسرع فقهًا من عمر بن عبد العزيز".
أنس بن مالك: خادم رسول الله ﷺ، تتلمذ عليه عمر واستمع إلى أحاديثه.
عبد الله بن جعفر، عروة بن الزبير، وغيرهم من فقهاء المدينة السبعة الذين أثروا في تكوينه العلمي.
4/ الورع والزهد منذ الصغر:
رُوي أن عمر بن عبد العزيز كان ميالًا للورع والتقوى منذ صغره، وكان يُعرف عنه كثرة الصلاة والصيام، كما كان زاهدًا في الدنيا رغم أن نشأته كانت في بيت من بيوت الأمراء. وقد نشأ على كره الظلم ومناصرة المظلوم، وكان يبكي إذا ذُكر له القبر أو الحساب، وهي صفات نادرة في شاب من أبناء بني أمية المعروفين بالترف.
5/ انتقاله إلى مصر:
انتقل عمر إلى مصر وهو صغير السن، بعدما عُيِّن والده واليًا عليها، وهناك عاش في القصر، لكن الفارق بين الترف الذي رآه في مصر والتقوى التي تربى عليها في المدينة جعلت منه شخصية متوازنة. لم يُفتنه الترف، بل زاد من إدراكه لخطورة الدنيا وزينتها، وهو ما سيتجلى لاحقًا في فترة حكمه.
6/ العودة إلى المدينة:
بعد وفاة والده، أعاده الخليفة عبد الملك بن مروان إلى المدينة المنورة وهو في مقتبل الشباب، ليُكمل تعليمه تحت إشراف كبار العلماء، وعُيِّن لاحقًا أميرًا عليها في خلافة الوليد بن عبد الملك. فبرع في الإدارة، وأظهر عدالة نادرة، حتى قال الناس: “ما رأينا أميرًا للمدينة أعدل من عمر بن عبد العزيز بعد عمر بن الخطاب”.
ثانياً/ تولية عمر بن عبد العزيز الخلافة
سياق التولية:
بعد وفاة الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 96 هـ، تولى الخلافة أخوه سليمان بن عبد الملك، وكان عمر بن عبد العزيز مقرّبًا منه، ويعمل مستشارًا له، لما عُرف به من الحكمة والعدل. في أواخر حياة سليمان، أصيب بمرض شديد، فأدرك أنه لن ينجو، وبدأ التفكير فيمن يُولّي الأمر من بعده.
لم يُرد سليمان أن يُولي أحد أبنائه لصغر سنهم، ولم يكن مطمئنًا إلى معظم أفراد البيت الأموي. فأشار عليه رجاء بن حيوة الكندي، وكان من كبار العلماء، باختيار عمر بن عبد العزيز للخلافة، لما رآه فيه من تقوى وعدل وكفاءة.
وصية سليمان:
كتب سليمان وصيته وأودعها رجاء بن حيوة، وأمره ألا يفتحها إلا بعد وفاته. فلما مات الخليفة، جمع رجاء كبار بني أمية وقرأ عليهم الوصية، فإذا فيها نصٌّ صريح بتولية عمر بن عبد العزيز:
> “هذا ما أمر به عبد الله سليمان بن عبد الملك، أن يُولّى عمر بن عبد العزيز، فإن حدث به حدث، فبعده يزيد بن عبد الملك.”
وهكذا، في سنة 99 هـ، بُويع عمر بن عبد العزيز بالخلافة، رغبة من الناس، لا رهبة. وقد حاول رفض الأمر تواضعًا، لكن الناس ألحّوا عليه، وقال كلمته المشهورة:
> "إن لله عبادًا يفرّون من الدنيا وهم إليها أحوج، كما يفر غيرهم منها وهو في غنى عنها."
ثالثا/ أهم أعمال عمر بن عبد العزيز
رغم أن مدة خلافته كانت قصيرة (لم تتجاوز عامين ونصف)، فإنها كانت مليئة بالإصلاحات الشاملة التي تركت أثرًا خالدًا في التاريخ الإسلامي.
1. إرساء مبدأ العدالة والمساواة
أزال عمر الامتيازات الطبقية بين العرب والموالي.
أمر بوقف التمييز بين المسلمين من غير العرب، وجعل العطاء يشمل كل المسلمين.
أعاد العمل بمنهج الشورى كما كان في عهد الخلفاء الراشدين.
📚 المصدر: الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج5، ص257.2
رد المظالم
أمر بجرد أموال بني أمية واسترجاع ما أُخذ ظلمًا إلى بيت المال.
أعاد الأراضي التي اغتصبها الأمويون إلى أصحابها أو بيت المال.
أعاد للناس حقوقهم، حتى قال فيه ابن عبد الحكم:
"ما مات عمر حتى ردّ المظالم كلها، حتى أقنع الناس بعدله عن المطالبة."
📚 المصدر: ابن عبد الحكم، سيرة عمر بن عبد العزيز، ص45.
3. الإصلاح المالي
أوقف الإسراف في الإنفاق الحكومي.
زاد دخل بيت المال بشكل كبير رغم قلة الضرائب، بسبب محاربته للفساد.
ذُكر أن الفقراء لم يجدوا من يأخذ الزكاة في عهده.
📚 المصدر: ابن الجوزي، سيرة عمر بن عبد العزيز، ص74.4.
نشر العلم والفقه
أمر بجمع الحديث النبوي وتدوينه، فكان أول من أطلق عملية تدوين السنة رسميًا.
اهتم بالعلماء والفقهاء ورفع مكانتهم في الدولة.
أسس مدارس وجعل للمعلمين رواتب.
📚 المصدر: الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج5، ص120.
5. تحسين أوضاع غير المسلمين
خفّف الجزية عمن أسلم من أهل الذمة، بعدما كانت تُفرض حتى بعد إسلامهم.
عامل غير المسلمين بالعدل، مما دفع كثيرين إلى الإسلام طواعية.
أوقف الإكراه في الدين، ونفّذ قوله تعالى: {لا إكراه في الدين}.
📚 المصدر: البلاذري، فتوح البلدان، ص239.
6. إصلاح القضاء
عيّن القضاة من العلماء الأتقياء، وأمرهم بالحكم بالحق ولو على كبار بني أمية.
فصل القضاء عن السلطة التنفيذية.
📚 المصدر: الشوكاني، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، ج1، ص317.
7. محاربة الترف وفساد الحكم
أوقف بناء القصور، ورفض العيش في بيوت الخلافة.
لبس الملابس الخشنة، وتنازل عن أملاكه الخاصة.
كانت زوجته فاطمة بنت عبد الملك من أغنى نساء بني أمية، فأقنعها بالتنازل عن مجوهراتها لبيت المال.
📚 المصدر: ابن كثير، البداية والنهاية، ج9، ص202.
وفاته:
توفي عمر بن عبد العزيز رحمه الله في رجب سنة 101 هـ، ولم يبلغ الأربعين من العمر. قيل إنه مات مسمومًا بدسيسة من بعض بني أمية الذين أزعجهم إصلاحه وعدله.
قبره يقع في منطقة دير سمعان قرب معرة النعمان بسوريا اليوم، وزُين قبره بعبارة:
> "هذا قبر الرجل الذي ملأ الأرض عدلًا بعدما مُلئت جورًا."
رابعاً/ اهم الأعمال العسكرية في عهدة
رغم أن خلافة عمر بن عبد العزيز لم تدم أكثر من عامين ونصف (99 – 101 هـ)، فإنها لم تكن فترة ركود سياسي أو عسكري، بل كانت مرحلة تميزت بتركيز عمر على تثبيت العدالة وبناء الدولة على أساس من التقوى والمساواة. لكن هذا لم يمنع من استمرار الفتوحات الإسلامية، بل إنها اتخذت في عهده طابعًا خاصًا قائمًا على الدعوة بالحكمة، وليس بالسيف فقط.أ
ولًا: سياسة عمر بن عبد العزيز في الفتح
خلافًا لبعض خلفاء بني أمية الذين ركزوا على التوسع العسكري السريع، أعاد عمر بن عبد العزيز تعريف الفتح بمعناه الحقيقي؛ أي نشر الإسلام لا مجرد السيطرة السياسية. فكانت سياساته قائمة على:
إزالة الظلم عن الشعوب المفتوحة.
التعامل العادل مع أهل الذمة.
تشجيع الدعوة بالحسنى.
إلغاء الجزية عن من أسلم من غير العرب.
وهذا المنهج الإنساني العادل جعل الناس يدخلون في الإسلام أفواجًا، دون قتال.
📚 المصدر: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص275.
ثانيًا: أبرز الفتوحات في عهده
1. شمال أفريقيا والمغرب
استُكملت فتوحات المغرب الأقصى، وتم تثبيت الحكم الإسلامي فيه.
أرسل عمر القائد عبد الله بن حبحاب والياً على إفريقية (تونس حاليًا)، فأنشأ نظامًا إداريًا عادلًا وأصلح الأوضاع.
دخل عدد كبير من البربر في الإسلام نتيجة للمعاملة العادلة وإلغاء التمييز بينهم وبين العرب.
📚 المصدر: ابن خلدون، تاريخ العبر وديوان المبتدأ والخبر، ج6، ص45.
2. الأندلس
لم تكن هناك فتوحات كبرى، لكن عمر ثبّت الحكم في المناطق المفتوحة حديثًا.
أرسل ولاة أتقياء وأمرهم بعدم ظلم السكان الأصليين من القوط واللاتين.
نُظّمت أحوال المسلمين الجدد في الأندلس، وتم تحسين أوضاعهم.
📚 المصدر: المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج1، ص94.
3. بلاد ما وراء النهر (آسيا الوسطى)
استؤنفت الفتوحات شرق خراسان وسمرقند.
عُرف عن عمر بن عبد العزيز أنه أمر القادة بعدم الدخول في حرب إلا بعد الدعوة إلى الإسلام والعدل.
من أشهر القصص في هذا السياق: عندما شكا أهل سمرقند أن المسلمين دخلوها دون إنذار، أرسل عمر رسالة إلى القاضي يأمر فيها بإجراء محاكمة، فحكم القاضي بإخراج الجيش منها، ثم عاد المسلمون إليها بعد أن دخلها أهلها طوعًا.
📚 المصدر: البلاذري، فتوح البلدان، ص429.
4. بلاد الهند
أرسل الجنيد بن عبد الرحمن لمواصلة الفتح في إقليم السند (في باكستان اليوم).
تم التوغل إلى مناطق واسعة، لكن عمر شدد على مراعاة أهل الذمة، ومنع استغلالهم.
دخل الكثير من السكان في الإسلام بسبب عدل المسلمين.
📚 المصدر: المسعودي، مروج الذهب، ج3، ص218.
5. الأناضول (بيزنطة)
لم يكن التركيز على التوسع في عمق أراضي الروم، بل كانت الحملات محدودة.
وجه عمر بوقف الغارات غير المنضبطة، والتأكيد على حماية الحدود.
وُقّعت هدنة مع الإمبراطورية البيزنطية لمدة ثلاث سنوات، بطلب من الروم، نتيجة للإجهاد من الحرب.
📚 المصدر: الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج5، ص280.
ثالثًا: أثر سياسته على الفتوحات
الإسلام انتشر بسرعة لأن عمر أزال العقبات التي كانت تعرقل إسلام الشعوب المفتوحة (مثل بقاء الجزية بعد الإسلام).
دخل في عهده أعداد ضخمة من غير العرب في الإسلام، خاصة من الفرس والبربر.
قال المؤرخون:
> “أسلم في عهد عمر من الناس ما لم يسلم في عهد أحد من خلفاء بني أمية.”
📚 المصدر: الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج5، ص129.
الخاتمة /
وهكذا، طوى الزمان سيرة عمر بن عبدالعزيز كما تُطوى صفحات الذهب في كتاب التاريخ. رجلٌ لم تُغرِه زينة الخلافة، ولم يركن إلى نعيم السلطان، بل جعل من الحكم عبادة، ومن العدل منهجًا، ومن الزهد راية. مات عمر شابًا، لكن أثره امتد في أجيال، وظل اسمه حيًّا في وجدان الأمة كلما اشتاقت إلى عدالة ضائعة، وخلافة راشدة. لقد كانت خلافته قصيرة في الزمن، لكنها عظيمة في الأثر، شاهدة أن الإصلاح ليس بعدد السنين، بل بصدق النية وقوة الإرادة. رحم الله عمر بن عبدالعزيز، ما أعدله وما أزهد قلبه.
وقد صدق الإمام الذهبي حين قال عنه:
“كان عمر بن عبدالعزيز على منهاج جده عمر بن الخطاب في العدل والزهد، فغلب عدله الزمان، ومال الناس إليه، ومات والخير يُمطر على الأمة.”
المصادر/
- سير أعلام النبلاء – للإمام الذهبي
- البداية والنهاية – لابن كثير
- تاريخ الخلفاء – للسيوطي
- تاريخ الطبري – للإمام الطبري
- الكامل في التاريخ – لابن الأثير
- الفتوحات الإسلامية – لمحمود شيت خطاب
- عمر بن عبدالعزيز الخليفة الزاهد العادل – لعلي محمد الصلابي
- الدولة الأموية – للدكتور شوقي أبو خليل
- الطبقات الكبرى – لابن سعد
- العقد الفريد – لابن عبد ربه
بقلم / محمد أحمد السيد أحمد
