
قصة النبي نوح عليه السلام
قصة النبي نوح عليه السلام
بعد وفاة إدريس عليه السلام، بدأ الناس في الانحراف والفساد، لكنهم حافظوا على التوحيد ولم تنتشر الأصنام بينهم. واستمروا على هذا التوحيد لمدة ألف سنة بعد وفاة آدم، رغم وجود الفساد والفجور بينهم.
كيف نشأت عبادة الأصنام بين البشر؟
بدأت عبادة الأصنام بعد مرور ألف عام على وفاة آدم، وبعد وفاة شيث وإدريس. في تلك الفترة، كان هناك بعض الرجال الصالحين الذين كان الناس يتقربون إليهم، ولكن مع مرور الزمن، تحول هذا التقرب إلى عبادة.
ومن بين هؤلاء الرجال الصالحين المعروفين في ذلك العصر كانوا:
- ود
- سواع
- يعوق
- نسر
كان هؤلاء الرجال من قوم نوح عليه السلام قبل بعثته. وعندما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم بأن ينصبوا أنصابًا (علامات حجرية) في المجالس التي كانوا يجلسون فيها، وأطلقوا على تلك الأحجار أسماءهم حتى لا تُنسى ذكرى الصالحين ومواعظهم. فقاموا بذلك، فقالوا: "هذا حجر ود، وهذا حجر سواع، وهذا حجر يعوق، وآخر نسر". ورغم أنهم لم يعبدوا تلك الأحجار في البداية، إلا أن الناس استمروا في التوحيد. لكن عندما توفي الجيل الذي كان يعرف قصة هذه الأحجار، جاء بعدهم قوم بدأوا يتبركون بها ويمسحون عليها، ومع مرور الوقت زال العلم وبدأت عبادة تلك الأصنام.
تحولت هذه الأوثان التي كانت موجودة في قوم نوح إلى عبادة في العرب لاحقًا، حيث ورثها العرب وتفشى الشرك بينهم. أصبح الشرك هو السائد، حتى لم يعد هناك من بين البشر من يعبد الله وحده، باستثناء نوح عليه السلام الذي ظل متمسكًا بالتوحيد.
من هو نبي الله نوح؟
نوح هو حفيد إدريس، وقد عاش فترة طويلة تجاوزت الألف سنة. خلال حياته، انتشر الكفر والشرك بين الناس، فبعث الله نوحًا عليه السلام كرسول لهداية البشر.
بين آدم ونوح، كانت هناك عشرة قرون، حيث يُعتبر القرن مئة سنة، مما يعني أن الألف سنة التي تلت آدم كانت كلها على الإسلام. لكن بعد ذلك، بدأ الكفر ينتشر، وتلاشى التوحيد وعبادة الله الواحد.
**بعثة نوح عليه السلام**
قام نوح عليه السلام بدور الرسول، حيث أنذر قومه بعذاب أليم قادم. سعى جاهدًا إلى إقناعهم بترك الشرك بالله، عارضًا عليهم فرصة النجاة من العذاب. زارهم في منازلهم، وحضر اجتماعاتهم، وتحدث إليهم ليلًا ونهارًا، سواء بشكل جماعي أو فردي، لمدة خمسين عامًا.
ثم دعا ربه، مشيرًا إلى أنه قد دعا قومه في كل الأوقات، لكنهم كانوا يبتعدون عنه. كان كلما دعاهم، يسدون آذانهم بأصابعهم ويغطون أنفسهم بالثياب، متكبرين على دعوته، سواء كانت علنية أو سرية. نصحهم بأن الإيمان بالله سيفتح لهم أبواب الرزق ويمنحهم الراحة بالأموال والأبناء والحدائق، لكنهم رفضوا ذلك. كما عارض ملك كافر في زمن نوح دعوته، مما دفع نوحًا للدعاء على هذا الملك وقومه.
يقول الله تعالى في سورة نوح:
“لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه ليحذرهم من عذاب مؤلم سيحل بهم. فقال: يا قوم، إني لكم نذير واضح، أعبدوا الله واتقوه وأطيعوني. يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل محدد، إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، لو كنتم تعلمون. قال نوح: ربي، إني دعوت قومي ليلاً ونهارًا، لكن دعائي لم يزدهم إلا فرارًا. وكلما دعوتهم لتغفر لهم، وضعوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا عن الحق. ثم دعوتهم جهارًا، وأعلنت لهم وأسررت لهم حديثي، فقلت: استغفروا ربكم إنه كان غفارًا، يرسل السماء عليكم مدرارًا، ويمدكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا. ما لكم لا ترجون لله وقارًا، وقد خلقكم أطوارًا؟ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات متتالية، وجعل القمر فيها نورًا، وجعل الشمس سراجًا؟ والله أنبتكم من الأرض نباتًا، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجًا. والله جعل لكم الأرض بساطًا لتسلكوا منها سبلًا فجاجًا. قال نوح: ربي، إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارًا، ومكروا مكرًا عظيمًا. وقالوا: لا تتركوا آلهتكم، ولا تتركوا ودًا أو سواعًا أو يغوث أو يعوق أو نسرًا. وقد أضلوا كثيرًا، ولا تزيد الظالمين إلا ضلالًا.”
كان نوح عليه السلام يتبعه بعض الأفراد، بينما كان الملك الكافر وقومه يعارضونه. وفي زمن نوح، اكتشف الملك الكافر أن حوالي 80 رجلاً وامرأة فقط استجابوا لدعوة نوح عليه السلام بعد أن دعاهم إلى الله.
لاحظ الملك الكافر أن أتباع نوح عليه السلام هم من الفقراء والمحتاجين، فبدأ يعرض على نوح أرضًا، بشرط أن يسمح للناس بالتحدث إليه ودعوتهم، على أن يطرد المساكين والفقراء، لأنهم يعتبرون من ذوي المكانة في المجتمع.
الملك الكافر يطلب طرد المؤمنين الفقراء الذين يتبعون نوحًا، وقد ورد هذا الطلب في كتاب الله عز وجل، وجاء رد نوح عليه السلام في سورة هود.
قال الملأ من قومه الذين كفروا: "ما نراك إلا بشراً مثلنا، وما نرى اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئ الرأي، وما نرى لكم علينا من فضل، بل نظنكم كاذبين" (27). فرد عليهم نوح قائلاً: "يا قوم، أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده، فعميت عليكم، أنلزمكم إياها وأنتم لها كارهون؟
ويا قوم، لا أسألكم عليه مالاً، إن أجري إلا على الله، وما أنا بطارد الذين آمنوا، إنهم ملاقو ربهم، ولكنني أراكم قومًا تجهلون" (29). ثم قال: "يا قوم، من ينصرني من الله إن طردتهم؟ أفلا تذكرون؟" (30). وأوضح لهم: "لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول إني ملك، ولا أقول للذين تزدري أعينكم: لن يؤتيهم الله خيرًا، الله أعلم بما في أنفسهم، إنني إذًا لمن الظالمين" (31).
فأجابوه: "يا نوح، قد جادلتنا فأكثرت جدالك، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين" (32). فقال نوح: "إنما يأتيكم به الله إن شاء، وما أنتم بمعجزين" (33). وأكد لهم: "ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم، هو ربكم وإليه ترجعون" (34). ثم تساءلوا: "أم يقولون افتراه؟ قل: إن افتريته فعلي إجرامي، وأنا بريء مما تجرمون" (35). وأُوحِيَ إلى نوح أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون (36). وأمره الله: "اصنع الفلك بأعيننا ووحينا، ولا تخاطبني في الذين ظلموا، إنهم مغرقون" (37).
رفض قوم نوح دعوته بعد أن أصر على عدم طرد المؤمنين البسطاء. وتحدى نوح قومه بأن يقتلوه أو يفعلوا به شيئًا، لكنهم تركوه وشأنه. استمر الوضع على هذا الحال لقرون عديدة، حيث لم يؤمن أحد، وظل نوح يدعوهم، ولم يستجب له سوى القليل.
يقول الله في سورة يونس:
“وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ، ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ (71) فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73).”
جاء الوحي إلى نوح عليه السلام بإعلان قرب عذاب الله. فقد أبلغ الله نوحًا، من خلال سيدنا جبريل عليه السلام، أنه لن يؤمن به أحد من قومه بعد دعوته، وأن عذاب الطوفان قادم إليهم.
قال الله تعالى: “وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37).”
نوح يدعو على قومه الكافرين بالموت في سورة نوح:
قال نوح: "ربي، إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارة. وقد دبروا مكرًا عظيمًا. وقالوا: لا تتركوا آلهتكم، ولا تتركوا ودًّا، ولا سواعًا، ولا يغوث، ولا يعوق، ولا نسرًا. وقد أضلوا كثيرًا، ولا تزيد الظالمين إلا ضلالًا. بسبب خطاياهم، أُغرقوا وأُدخلوا نارًا، فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارًا. وقال نوح: “ربي، لا تترك على الأرض من الكافرين ديارًا، فإنك إن تركتهم، سيضلون عبادك، ولن يلدوا إلا فاجرًا كافرًا. ربي، اغفر لي ولوالدي، ولمن دخل بيتي مؤمنًا، وللمؤمنين والمؤمنات، ولا تزيد الظالمين إلا تبارًا.”
أوحى الله عز وجل إلى نبي الله نوح عليه السلام بتعليم كيفية بناء السفينة الضخمة، التي استغرق إنشاؤها مئة عام. كان نوح يزرع الأشجار أثناء عملية البناء ليستفيد من الخشب، وقد اختار بناء السفينة على جبل لأنه كان يعيش في المناطق الجبلية.
جاءه الوحي ليخبره بأن الله قد غضب على قومه وسيغرقهم، وأنه ممنوع من مخاطبتهم. كما أُوحِي إليه باستخدام الحديد لصنع المسامير.
بدأ قوم نوح يستغربون من توقفه عن الدعوة وبدءه في بناء السفينة، فراحوا يسخرون منه قائلين: "يا نوح، لقد أصبحت نجارًا بعد أن كنت نبيًا!" و"يا نوح، كيف تبني سفينة على جبل، أأنت مجنون؟" وقد ذُكرت هذه السخرية في القرآن الكريم، حيث قال الله سبحانه وتعالى في سورة هود:
"وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ".
**وصف سفينة نوح عليه السلام**
روى ابن عباس رضي الله عنهما أن نوحًا عليه السلام قام ببناء السفينة عند جبل دور، ثم حدث الطوفان. وقد بلغ طول السفينة 300 ذراع، وفقًا لمقياس أذرع جد نوح، الذي يعود إلى أذرع آدم، الذي كان طوله 60 ذراعًا في السماء. لذا، يمكننا تخيل طول هذه السفينة الذي يتجاوز الكيلومتر، بينما عرضها كان 50 ذراعًا.
أما ارتفاع السفينة، فقد بلغ 30 ذراعًا، وكانت مصممة بشكل مختلف عن السفن العادية، حيث كانت مغطاة من الأعلى. هذا التصميم كان ضروريًا لحمايتها من الأمطار التي كانت تتساقط عليها، مما يمنع غرقها من الأعلى والأسفل. كانت السفينة تشبه كرة مغطاة، وتحتوي على ثلاثة أبواب موزعة على ثلاثة طوابق، حيث كان لكل طابق باب خاص به.
هذا هو وصف ابن عباس رضي الله عنه للسفينة. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنها ستبقى كآية، حيث قال: "وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" (القمر: 15). في هذا القرن، تمكن العلماء من العثور على سفينة نوح، التي انقسمت إلى نصفين، وهي مبنية وفقًا للوصف المذكور، ومغطاة من الأعلى، وتقع على جبل في تركيا. وقد تم توثيق هذا الاكتشاف في فيديو، مما يبرز الآية الإلهية: "وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" (القمر: 15). فهل من يتذكر ويعترض؟ هكذا كان وصف السفينة.
**طوفان نوح والعلامة**
ثم جاء الطوفان، حيث منح الله سبحانه وتعالى نوحًا علامة. وقد أُخبر نوح أنه عندما تظهر هذه العلامة، يجب عليه أن يحمل المؤمنين وأهله، بالإضافة إلى زوجين من كل نوع من الدواب التي تعيش على الأرض. كانت العلامة تتمثل في فوران التنور. وقد اختلف المفسرون في تفسير التنور، حيث اعتبر بعضهم أنه ينابيع تخرج من الأرض، لكن الرأي الأكثر قبولًا هو أن التنور هو المكان الذي يُصنع فيه الخبز، أي موقد النار.
كان لدى نوح عليه السلام تنور في بيته، فقال له الله سبحانه وتعالى: "إذا خرج الماء من التنور، احمل فيها من كل زوجين اثنين" (هود 40). وورد في الآية: "حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور، قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن، وما آمن معه إلا قليل" (هود 40). وفقًا لأكبر الروايات، كان عدد المؤمنين حوالي 80 شخصًا، بينما تشير روايات أخرى إلى أنهم كانوا 10 فقط.
وفي يوم من الأيام، رأى نوح العلامة وبدأ الماء يخرج من التنور، فتوجه فورًا إلى السفينة التي كانت على الجبل، بعيدًا عن الناس. كانت سفينته قريبة من القرية التي يعيش فيها، ورأى حيوانات الأرض مصطفة حول السفينة، تنتظر الأمر بالصعود. وقد أتى الله سبحانه وتعالى بهذه الحيوانات من مختلف أنحاء الأرض، حيث اصطفّت تنتظر دورها للركوب.
ركب نوح عليه السلام وبدأ في تحميل هذه الحيوانات والطيور، مُوزعًا إياها داخل السفينة.
ركب نوح عليه السلام السفينة مع المؤمنين والحيوانات. وعندما استقروا فيها، جاء الأمر الإلهي بهلاك من في السفينة وما فيها. ففتح الله سبحانه وتعالى أبواب السماء، كما ورد في قوله: "ففتحنا أبواب السماء" (القمر: 11)، حيث انهمر المطر بغزارة. وفي الوقت نفسه، فجر الله الأرض عيونًا، كما جاء في الآية: "وفجرنا الأرض عيونا" (القمر: 12). وبهذا، اجتمع الماء المتساقط من السماء مع الماء المتدفق من الأرض، ليكون ذلك وفق تقدير إلهي دقيق: "فالتقى الماء على أمر قد قدر" (القمر: 12).
وبدأت الكارثة تحل بالناس والدواب والحيوانات، حيث بدأ الجميع يغرق. يقول الله سبحانه وتعالى: "ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون، ونجيناه وأهله من الكرب العظيم، وجعلنا ذريته هم الباقين، وتركنا عليه في الآخرين، سلام على نوح في العالمين، إنَّا كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين، ثم أغرقنا الآخرين" (الصافات: 75-82).
**غرق قوم نوح العصاة**
غرق الجميع في الطوفان، كما قال الله تعالى: "إنَّا لَمَّا طغا الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتَعِيَهَا أُذُنٌ واعية" {الحاقة 10-11}. ارتفع الماء بشكل متزايد، مما أدى إلى غرق المدن والقرى، حتى غرق البشر. وصل ارتفاع الماء إلى مستوى أعلى من أعلى جبل على الأرض بمقدار 15 مترًا، حتى أن الجبال نفسها غمرت. وقد وصف الله تعالى عظمة الماء في الطوفان بقوله: "وهي تجري بهم في موج كالجبال" {هود 42}.
كانت السفينة، التي ركب فيها نوح عليه السلام، تتحرك مع ارتفاع الماء تحتها. وعندما بدأ الماء يتدفق، قال نوح: "اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم" {هود 41}. وطلب من الله أن يرحمهم بهذه السفينة. ثم جاءه وحي الله سبحانه وتعالى، فقال له: "فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين" {المؤمنون 28-29}.
وقد وعد الله سبحانه وتعالى نوحًا بأنه سينجيه وأهله، وبالفعل، نجا جميع أفراد عائلته معه، باستثناء ابنه.
توفيت زوجة نوح الكافرة، بينما بقيت معه زوجته المؤمنة. كانت الزوجة المؤمنة ترافقه، في حين أن الزوجة الكافرة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن، حيث قال: "ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما" {التحريم 10}.
توفيت تلك الزوجة الكافرة، أما الزوجة التي كانت معه في السفينة فكانت مؤمنة، وقد أبدله الله سبحانه وتعالى خيرًا منها، حيث كانت ترافقه في الفلك.
رفض كنعان، ابن نوح، ركوب السفينة مع والده، بينما كان جميع إخوته معه. كان كنعان كافرًا، فنادى عليه نوح عليه السلام قائلاً: "يا بني، اركب معنا ولا تكن مع الكافرين"، لكنه أجاب: "سألوذ إلى جبل يعصمني من الماء". في تلك اللحظة، كانت الجبال لا تزال قائمة، وكان الأمر في بدايته، لذا لم يرغب كنعان في ركوب السفينة، معتقدًا أنه يمكنه السباحة إلى جبل قريب. فرد عليه نوح: "لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم". ثم جاءت موجة عظيمة فبلغت كنعان.
نوح يدعو ربه لإنقاذ ابنه
(وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) {هود 43}. كان لدى نوح عليه السلام وعد من الله سبحانه وتعالى بأن ينجي أهله، ولكن أحد أبنائه غرق. فبدأ ينادي الله عز وجل قائلاً: (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق) {هود 45}. لقد وعدتني بأن تنجي أهلي، وأنت أعدل الحاكمين.
هنا، كان نوح يستفسر عن الأمر، وليس معترضًا. فهو يؤكد أن ابنه من أهله ويستند إلى وعد الله: (إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) {هود 45}. فهو يسلم بكل ما تقرره يا رب، لأنك حكيم.
(قال يا نوح إنه ليس من أهلك) {هود 46}. هنا، انقطع النسب بسبب الكفر، حيث يقطع الكفر الأواصر. فالعلاقة بين المؤمنين أقوى من علاقة الأخ بأخيه الكافر، فالأخوة الحقيقية تُبنى على الإيمان، بينما الكفر يقطع الروابط والأنساب.
الله يرفض العفو عن ابن نوح الكافر
قال الله تعالى: "يا نوح إنه ليس من أهلك" {هود 46}. لم يُذكر أنه كافر، بل أُشير إلى أنه ليس من أهله بسبب كفره، مما يعني انقطاع الصلة. فالكافر لا يرث المؤمن، وتنقطع الروابط بينهم. كما قال: "إنه عمل غير صالح" {هود 46}، حيث أصبح هذا الابن مثالاً للعمل غير الصالح بسبب كفره وفجوره.
وفي قوله: "إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن" {هود 46}، يكفي أن الله سبحانه وتعالى نهاه عن ذلك.
ثم أضاف: "إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تَسْأَلَنِّ ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين" {هود 46}.
هل يمكن أن نخطئ في هذا الأمر؟ هل ننسى أن العقيدة هي أساس العلاقات؟ عندها، تاب نوح عليه السلام وأناب.
فقال: "رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين" {هود 47}.
جميع الكائنات هلكت في فيضان نوح، باستثناء من أنقذهم الله. لم يعصِ نوح الله تعالى أبداً، لكن يُعتبر سؤاله عن مصير ابنه هو المعصية الوحيدة التي ارتكبها، حيث لم يكتفِ بحكم الله في هذا الشأن. وقد كانت السفينة تتلاطمها الأمواج كالجبال.
غمرت المياه الأرض، وانقرضت الحياة البشرية وحياة الحيوانات والطيور، حيث لم ينجُ سوى الكائنات البحرية. أما باقي الكائنات، فقد هلكت، ولم يبقَ على قيد الحياة من البشر أو الحيوانات إلا من كان في السفينة.
وفقاً لرواية ابن عباس، مكثوا في السفينة لمدة ستة أشهر، وفي روايات أخرى يُذكر أنهم نزلوا منها في يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من محرم. وتوجد العديد من الروايات التي تشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم صام ذلك اليوم، لأنه اليوم الذي أنقذ الله فيه نوحاً ومن معه من الغرق.
ماذا حدث بعد انتهاء الطوفان الذي أغرق قوم الكافرين؟
انتهى الطوفان بأمر من الله سبحانه وتعالى، حيث قال: "وقيل يا أرض أبلعي ماءك" {هود 44}. بدأت الأرض تستوعب الماء، وبدأ منسوبه في الانخفاض، كما جاء في قوله: "وغيض الماء" {هود 44}. ثم أُعلن: "وقيل يا أرض أبلعي ماءك ويا سماء أقلعي"، وانخفض الماء حتى قُضي الأمر واستقرت السفينة على جبل الجودي، حيث رست في مكان آمن.
وبعد أن استقرت السفينة، جاء النداء إلى نوح عليه السلام: "قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك" {هود 48}.
تتحدث الآيات عن الأمم التي ستأتي، بما في ذلك أمة البشر وأمة الأسود، حيث قال الله: "أمم وأمم سنمتعهم" {هود 48}. ومن ذريتك سيظهر أمم يكفرون، "وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم" {هود 48}.
**حمامة السلام وغصن الزيتون**
تتعدد الروايات التي تشير إلى أن النبي نوح عليه السلام قضى فترة طويلة في السفينة، حيث استمرت لمدة ستة أشهر. خلال هذه الفترة، كان يأمل في انتهاء الطوفان، لذا كان يرسل الحمامة لتستكشف الوضع، لكنها كانت تعود دون أن تحمل شيئًا. وفي أحد الأيام، أرسل الحمامة مرة أخرى، وعادت ومعها غصن زيتون، مما دل على أن المياه بدأت تنحسر وظهرت الأشجار. ثم أرسلها مرة أخرى، وعادت هذه المرة ومعها آثار الطين على قدميها، مما يعني أنها وقفت على اليابسة. من هنا، أدرك نوح أن الطوفان قد انتهى. وقد وردت هذه القصة في كتب السير، حيث ارتبطت حمامة السلام بغصن الزيتون كرمز للأمل والسلام.
استقر نوح عليه السلام مع المؤمنين على الأرض، حيث نزل نوح ولم يبقَ من بني آدم على قيد الحياة سوى الذين كانوا معه. غرق جميع البشر في تلك الفترة، إذ لم يكن هناك سكان في الأرض سوى في مناطق محدودة مثل جزيرة العرب وفلسطين وما حولها، بينما كانت بقية الأرض خالية من البشر، لكنها غرقت جميعها.
أما بالنسبة لقوم نوح المؤمنين، فقد جعل الله سبحانه وتعالى جميعهم عقيمين، فلم يُرزق أحد منهم بالأبناء، باستثناء نوح وزوجته. ومع مرور الوقت، توفي هؤلاء القوم، ولم يتبقَ على وجه الأرض سوى ذرية نوح، مما جعله يُلقب بـ "آدم الثاني" و"أبو البشر الثاني"، حيث يُعتبر جميع البشر اليوم من نسل نوح عليه السلام.
أبو البشر الثاني، نوح عليه السلام، يُذكر في القرآن الكريم حيث يقول: "ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون، ونجيناه وأهله من الكرب العظيم، وجعلنا ذريته هم الباقين" {الصافات 75-77}. هؤلاء هم الذين استمروا في الوجود. وفي آية أخرى، يتحدث الله سبحانه وتعالى عن الرسل والأمم قائلاً: "ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً" {الإسراء 3}.
أولاد نوح الثلاثة هم سام وحام ويافث. كان لنوح ثلاثة أبناء: سام الذي يتميز بوجود البياض مع قليل من السواد، حيث يغلب البياض على السمرة، وحام الذي يتميز بالسواد مع بعض البياض، حيث يكون معظمهم ذو بشرة داكنة، ويافث الذي يتميز بالشقرة والحمرة.
تعود العرب وبني إسرائيل إلى ذرية سام، بينما الأفارقة ينحدرون من ذرية حام. أما الأتراك وسكان الشرق وآسيا وأوروبا، فهم من ذرية يافث.
عاش نوح عليه السلام 350 سنة بعد الطوفان، قضى خلالها في عبادة الله عز وجل، حيث وصفه الله بأنه "كان عبداً شكوراً" كما ورد في سورة الإسراء. ووفقاً لحديث ابن ماجة، كان نوح يصوم طوال العام ما عدا أيام الأعياد، حيث كان يفطر في تلك الأيام.
توفي نوح عليه السلام ودفن وفقاً لأرجح الروايات في مكة، بينما تشير بعض الروايات إلى أنه دفن في كرك البقاع في لبنان. وتستمر حياة البشر بعد نوح من خلال قصص هود وصالح عليهما السلام وما تلاهما.