
ما البرزخ ؟ إلى أين تذهب الأنفس بعد الموت ؟
ما البرزخ ؟ إلى أين تذهب الأنفس بعد الموت ؟
أسعد عبدالمنعم عبدالمجيد
أغسطس2025
إذا تساءلنا : ما البرزخ ؟ إلى أين تذهب الأنفس بعد الموت ؟ فإننا لا نطرق باب الغيب من فراغ ، بل نستند إلى إشارات نورانية وردت في القرآن ، تكشف لمن تأمل ، أن صعود النفس إلى العالم الأعلى ليس وهما ولا خيالا ولا إسقاطا نفسيا ، بل هو حقيقة وجودية ، أصلها في فطرة التكوين ، وشهادتها في النص ، وتجليها في التجربة0
البرزخ ، في البيان القرآنى ، فيه الصمت الفاصل بين الحياة والبعث ، يقف البرزخ شامخا كجدار من أمر الله ، يمنع تلاقى العوالم ، ويفصل بين نفوس صعدت في معارج النور وأخرى هوت في أغلال السفل ، ليكون مسرحا أوليا للعدل الإلهى ، حيث تنال كل نفس مقامها قبل أن تنادى إلى الموقف الأكبر 0
﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ (المؤمنون :100)
وهو ستر يمنع الأحياء من الوصول إلى من مات ، ويمنع الموتى من الرجوع إلى الأحياء حجبا تاما ، لايرفعه الإ نفخ الصور0
لكن هذا الحاجز ليس واحدا في طبيعته لكل النفوس :
النفوس النورانية..جنة المأوى
تصعد الأنفس النقية في معارج النور ، تفتح لها أبواب السماوات حتى تبلغ جنة المأوى: ﴿ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى*عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴾ (النجم :15:14)
فجنة المأوى ، من هذا المنظور ، هي موطن النفس الأصلية ، هي الفردوس النوراني الأول الذي تنتمي إليه الأنفس قبل النزول ، وتعود إليه بعد الانفصال ، إن كانت صافية من شوائب الإنكار والتكذيب .
ومع أنها في مقامات العليين ، تبقى محجوبة عن الأحياء بحكم البرزخ ، فلا تعود إليهم ولا تخاطبهم إلا بما شاء الله في الرؤيا الصادقة أو الإلهام الحق .
النفوس المثقلة..ومنع الدخول إلى السماء
في المقابل ، يخبرنا القرآن عن نفوس أخرى ترد إلى الأرض ، فلا تفتح لها أبواب السماء ، ولا تنفذ من أقطار السماوات والأرض :
﴿ إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تُفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ﴾ " (الأعراف )
إنه غلق كوني يعبر عن انحباس النفس في عالمها الأدنى ، لأنها لم تنق ، ولم تتحرر من ثقل الكبر والإنكار .
شهادة العابرين من الموت :
لقد روى الآلاف من البشر ، ممن اقتربوا من الموت ، ثم عادوا إلى الحياة ، أنهم رأوا كائنات نورانية ، وشهدوا نورًا ساطعا لا يوصف ، وسمعوا موسيقى كونية أو أصواتا مهيبة ، وأحسوا بخفة شديدة وانفصال تام عن الجسد ، شعروا بأنهم يصعدون ، وأنهم يستقبلون بكائنات مضيئة ، أو يعرض عليهم كتاب وجودهم ، أو تعرض عليهم لحظات حياتهم في ومضات كاشفة .
هذه الوحدة في الشهادة ، رغم اختلاف اللغات والديانات والثقافات ، تدفعنا للتساؤل: هل يمكن أن تكون مجرد تفاعلات دماغية؟ أم أن النفس ، حين تضعف صلتها بالجسد ، تبدأ بالفعل في عروجها ؟ إن هذا الاتفاق العجيب بين من لم يعرفوا بعضهم ، ممن عاشوا في بيئات متباعدة ، يدل على أن ثمة حقيقة واحدة كانت ترى في لحظة مشتركة: لحظة الانفصال .
فهؤلاء العابرون - كما يسميهم بعض الباحثين - قد شهدوا ، ولو للحظة ، ما أخفي عنهم طوال أعمارهم ، ثم عادوا إلى الحياة حاملين ذكرى لا تمحى ، ويقينا لا يزول ، بأن هناك شيئا أعظم ، وأعلى ، وأصفى ، ينتظر النفس إذا خفت أحمالها وتهيأت للعروج .
هكذا تتضح لنا خريطة وجودية ، نفوس ترتقي إلى جنة المأوى ، لأنها تعود إلى المبدأ الأول ، ونفوس تمنع ، لأنها لم تهيأ لاستقبال النور ، فتحبس عن الصعود ،
وهذا يوافق قوله:
﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ، فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ﴾ الزمر 42).
الصعود ليس مرهونا بالموت التام فقط ، بل قد يحدث في النوم ، أو الغيبوبة ، أو التجلي ، ثم تعاد النفس إن لم يأت أجلها .
خاتمة تأملية :
صعود النفس إلى الملأ الأعلى بعد الموت ليس فرضية فلسفية ، ولا خيالا صوفيا ، بل هو حقيقة كونية راسخة ، تتقاطع فيها إشارات النص ، وبصائر التجربة ، وبديهة الفطرة ، النفس لا تموت ، بل تنتقل ، ولا تعدم ، بل ترفع أو ترد بحسب حقيقتها .