
✦الأجداث والقبور بين الرقاد والبعث : دراسة قرآنية فلسفية وجدلية ✦
✦المقدمة : بعد أن توقفنا في مقالى السابق "ما البرزخ ؟ إلى أين تذهب الأنفس بعد الموت؟ "عند أسرار العالم الفاصل بين الدنيا والاخرة ، نواصل اليوم رحلتنا للاقتراب أكثر من لحظة العبور الكبرى 00 إلى القبر والأجداث ، حيث تبدأ النفس فصلا جديدا في رحلتها نحو المصير المحتوم 0
يعد موضوع "عذاب القبر" من أكثر القضايا إثارة للجدل في الفكر الإسلامي ، بين من يجزم بوقوعه استنادا إلى الأخبار والروايات ، وبين من ينكر وقوعه اعتمادا على ظاهر القرآن الكريم 0
تسعى هذه الدراسة إلى بيان التصور القرآني الدقيق لمفهومي القبر و الأجداث ، وبيان ما إذا كان ثمة عذاب بين الموت والبعث ، وذلك عبر منهج تحليلي فلسفي وجدلي يستند إلى النصوص المحكمة 0
✦إشكالية البحث : يمكن صياغة الإشكالية الرئيسة في السؤال الآتي :
هل القبر موضع عذاب كما هو شائع في المرويات ، أم أنه مجرد مرقد صامت لا يستيقظ منه الإنسان إلا يوم البعث ؟
ويتفرع من هذه الإشكالية تساؤلات فرعية :
ما الفرق القرآني بين القبر و الأجداث ؟
كيف وصف القرآن حالة الإنسان بعد الموت؟
ما موقع الروايات الحديثية في ضوء النصوص المحكمة؟
✦ أولا : الدلالة القرآنية لمفهوم القبر
1-القبر هو موضع الجسد بعد الموت ، يستخدم القرآن الكريم لفظ القبر بمعنى المرقد ، أي موضع السكون والرقاد :
﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾ (يس 52)
﴿ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ﴾(عبس: 21-22)
2-الموت شبيه بالنوم ، حتى يستيقظ الإنسان على صيحة البعث ، والبعث شبيه باليقظة :
﴿ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾(المؤمنون: 113)
3-القبور تبعثر يوم القيامة ، لا قبل ذلك :
﴿ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ﴾( العاديات: 9)
4-القبور ليست مكان سماع أو إدراك :
﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾(فاطر: 22)
إذن : القبر ليس مسرح عذاب ، بل سكون مطبق وانتظار ، لا دار جزاء ولا عذاب0
✦ ثانيا : الأجداث ومشهد البعث
ورد لفظ الأجداث في القرآن مقترنا حصريا بمشهد الانبعاث :
﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ﴾ (يس :51)
﴿ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ ﴾ (القمر: 7)
﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا ﴾ (المعارج : 43)
تؤكد هذه النصوص أن الأجداث هي لحظة الخروج واليقظة ، بخلاف القبور التي هي لحظة الرقاد 0
✦ثالثا : الساهرة كساحة حساب
يصف القرآن لحظة البعث بأنها انتقال إلى الساهرة :
﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ﴾ (النازعات : 13-14)
والساهرة أرض اليقظة الكونية ، حيث ينكشف الوعي الجمعي للإنسانية كلها ، وتبدأ مرحلة الحساب 0
✦رابعا : موقف القائلين بعذاب القبر
يرى القائلون بعذاب القبر أن الميت يسأل ، ويعذب أو ينعم ، مستندين إلى روايات حديثية تتحدث عن سؤال الملكين ، وضغطة القبر ، وعرض النار أو الجنة 0
لكن هذه المرويات تعارض ظاهر القرآن الذي يؤجل العذاب إلى يوم القيامة ، و تخالف مبدأ عدل الله الذى لا يحاسب قبل قيام الحجة الكاملة يوم الحساب 0
وأدلة نفي عذاب القبر:
1-العرض على النار والنعيم لا يكون إلا يوم القيامة :
﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ... ﴾( غافر: 46)
→ ذكر العرض مقترنا بقيام الساعة ، لا بحياة القبر0
2-البرزخ مرحلة انتظار :
﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾(المؤمنون: 100)
→ البرزخ فاصل زمني ، لا دار حساب 0
3- شهادة الموتى أنفسهم :
﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ﴾(يس: 52)
→ لو كان في القبر عذاب لما وصفوه بالمرقد ، أي النوم 0
4-التكافؤ بين الموت والنوم :
﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا... ﴾(الزمر:42)
→ النوم موت أصغر ، والموت نوم أكبر ، وكلاهما بلا حساب 0
مناقشة أدلة القائلين بعذاب القبر :
1-العذاب الأدنى :
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ ﴾(السجدة :21)
→ العذاب الأدنى هو مصائب الدنيا ، كما قال كثير من المفسرين ، لا عذاب القبر0
2-المعيشة الضنك :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾(طه: 124)
→ الضنك هنا في الدنيا ، لأنه مرتبط بالإعراض عن الذكر ، لا بالموت 0
3-عرض آل فرعون على النار :
﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا... وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾(غافر:46)
→ النص صريح في أن العرض يوم القيامة ، لا في القبور 0
موقف الأحاديث النبوية :
الأحاديث التي تذكر عذاب القبر غالبها آحاد ، والآحاد ظنية الثبوت 0
العقائد لا تبنى إلا على القطعي من الدليل ، أى القرآن الكريم 0
النبي ﷺ وصف الموت بالرقاد ثم البعث بالصحوة: "لتبعثن كما تستيقظون"
، وهو ما يوافق النص القرآني 0
القبر مرقد وسكون ، والبرزخ فاصل إلى يوم البعث ، والعدل الإلهى يقتضي أن يكون الحساب والجزاء علنيا أمام الخلائق جميعا 0
ومن ثم ، ففكرة عذاب القبر لا أصل لها في القرآن ، وإنما العذاب والنعيم يبدأن بعد البعث والنشور: ﴿إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾(غافر: 39)
✦ خامسا : البرزخ في النص القرآني
﴿ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ (المؤمنون :100)
البرزخ حاجز فاصل ، لا حياة فيه ولا عذاب ، بل غياب تام للشعور حتى موعد البعث 0
والاستثناء الوحيد هو ما ورد في آل فرعون : ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ (غافر:46) ، وهو عرض برزخي لا يعني عذابا حسيا في القبور ، بل إشارة إلى المصير المعلوم 0
✦ سادسا : التحليل الجدلي الحجاجي
= القرآن هو المرجع الأعلى ، وما خالفه من الروايات لا يقدم عليه :
﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾
= العذاب مؤجل ، فليس من العدل أن يعذب قبل يوم الحساب :
﴿اليوم تُجزى كل نفس بما كسبت﴾
= القبر مرقد لا عذاب : النص القرآني صريح :﴿ من مرقدنا ﴾
✦ الخاتمة والاستنتاجات
بعد تحليل النصوص القرآنية ومقارنتها بالروايات ، تخلص هذه الدراسة إلى ما يلي :
القبر في القرآن = مرقد وسكون ، لا موضع عذاب 0
الأجداث = مشهد الانبعاث والخروج ، حيث اليقظة الكبرى0
الساهرة = ساحة الحساب والوعي الكوني .
البرزخ = حاجز حتى يوم البعث ، لا حياة فيه ولا عذاب 0
عقيدة عذاب القبر لا تجد سندا محكما في القرآن ، وإنما جاءت من أخبار آحاد متناقضة 0
وعليه ، فإن الموقف القرآني يقدّم تصورا فلسفيا متماسكا :
نوم طويل (القبر) 0
نفخة واحدة (البعث) 0
يقظة كونية (الساهرة) 0
حساب وعدل مطلق (القيامة) 0
يقول الكافرون هذا يوم عسير لا "هذا قبر عسير"﴿ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴾ (القمر: 8) 0
رحلتنا لم تنته بعد 00 فالموت أوسع من أن يختزل فى القبر والأجداث ، فى مقالى القادم "الموت :رؤية فلسفية قرانية" سنحاول أن نفتح نافذة أعمق على هذا السر العظيم ، لنقرأة بعيون الفلسفة ونور القران0