قصة نبي العدل: شعيب عليه السلام وحكاية أهل مدين

قصة نبي العدل: شعيب عليه السلام وحكاية أهل مدين

0 reviews

شعيب عليه السلام: صوت الحق في أرض مدين

في منطقة خضراء جميلة تُعرف بأرض مدين، عاش قومٌ اشتهروا بالتجارة والأسواق العامرة. كانت حياتهم مريحة، وأرزاقهم وفيرة، لكنهم لم يراعوا العدل في تجارتهم. اعتادوا أن يُنقصوا المكيال والميزان، يغشّون المشتري ويظلمون الفقير، وقد عمّ بينهم الفساد حتى صار الغش عادة لا ينكرونها.

في هذا الجو المليء بالظلم، بعث الله إليهم نبيًا كريمًا هو شعيب عليه السلام. لم يكن شعيب مجرد رجل صالح، بل كان معروفًا بالحكمة وفصاحة اللسان، حتى لقّبه البعض بـ"خطيب الأنبياء". وقف شعيب بين قومه يدعوهم قائلًا في الآية الكريمة "وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" هي من سورة هود، الآية 85

كان كلامه واضحًا، يحمل في طياته رحمة وعدلًا. دعاهم أن يعبدوا الله وحده، وأن يتركوا الظلم ويقيموا العدل في البيع والشراء. لكنه واجه مقاومة شديدة؛ فالتغيير دائمًا يواجه عناد أصحاب المصالح. قالوا له ساخرين في الآية الكريمة "قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ" هي من سورة هود (الآية 87) وكأنهم يرون في دعوته تهديدًا لتجارتهم ونفوذهم.

ومع ذلك، لم يفقد شعيب صبره . استمر يذكّرهم بأن نعم الله تستحق الشكر لا الكفران، وأن الظلم لا يدوم. لكنهم لم يكتفوا برفض دعوته، بل ازدادوا طغيانًا، حتى هددوه ومن آمن معه بالطرد أو العودة إلى ملتهم. عندها قال شعيب بكل يقين في الآية الكريمة "قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ" هي من سورة الأعراف، الآية 89، معلنًا ثباته على الحق مهما كلّف الأمر.

فلما بلغ الكفر والعناد أقصاه، ولم يبقَ في القلوب مكان للحق، جاء وعد الله. أرسل عليهم سبحانه رجفة عظيمة، زلزلت الأرض تحت أقدامهم، حتى خرّوا صرعى في ديارهم، كأنهم لم يعيشوا فيها يومًا. وقد وصف القرآن مصيرهم بقوله: "فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ" (الأعراف: 91). كانت نهاية مأساوية، لكنها عادلة، فالله لا يُهلك القرى إلا بعد أن يرسل إليهم رسله، وينذرهم المرة تلو الأخرى. لقد أصبحوا عبرة خالدة، تُذكّر كل من يتجرأ على ظلم الناس ويكابر في وجه دعوة الإصلاح.

ورغم شدة البلاء الذي حل بقوم مدين، إلا أن قصة شعيب عليه السلام تكشف لنا جانبًا عظيمًا من رحمة الله. فقد منحهم فرصًا كثيرة ليراجعوا أنفسهم، أرسل لهم الإنذار تلو الآخر، وأمهلهم وقتًا طويلًا للتوبة والرجوع، لكنهم أصروا على عنادهم. وهذا يذكرنا بأن الهلاك لم يكن عقوبة مفاجئة، بل نتيجة طبيعية لإصرارهم على الباطل. وهكذا يعلّمنا التاريخ أن الأمم لا تزول إلا حين ترفض الإصلاح وتغلق قلبها أمام صوت الحق.

قصة شعيب عليه السلام ليست مجرد رواية من الماضي، بل هي درس خالد لكل زمان: أن الظلم الاقتصادي والاجتماعي يقود إلى الهلاك، وأن الحق لا بد أن ينتصر ولو بعد حين. هي رسالة بأن التجارة والأعمال لا تزدهر إلا بالعدل، وأن الله يمهل لكنه لا يهمل.

حين نقرأ هذه القصة اليوم، نجد أنها قريبة من واقعنا أكثر مما نتخيل؛ فالغش والفساد موجودان بأشكال مختلفة. لكن صوت شعيب يظل يتردد في الزمان: أوفوا الكيل والميزان بالقسط. إن العدل ليس فقط قانونًا، بل هو عبادة تحفظ القلوب والمجتمعات.

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

1

followings

0

followings

1

similar articles