
غزوه تبوك آخر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم
صلى على سيدنا محمد قبل ما تبدأ
---
غزوة تبوك: دروس من آخر غزوات الرسول ﷺ
المقدمة
تُعد غزوة تبوك آخر غزوات النبي محمد ﷺ، وهي من أبرز المحطات العسكرية والسياسية في التاريخ الإسلامي. وقعت في السنة التاسعة للهجرة (رجب)، واشتهرت في كتب السيرة باسم غزوة العُسرة لما صاحبها من مشاقّ شديدة عانى منها المسلمون بسبب قلة الموارد، وحرّ الصيف، وبعد المسافة.
لم تكن هذه الغزوة مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت اختبارًا عمليًا لصدق الإيمان، وتمييزًا بين المؤمنين والمنافقين، ورسالة قوية لقوى الروم البيزنطيين وحلفائهم بأن الدولة الإسلامية الناشئة لم تعد قوة محلية محدودة، بل كيان يمتد نفوذه وهيبته إلى خارج الجزيرة العربية.
---
أولًا: أسباب غزوة تبوك
1- التهديد الروماني
بلغ النبي ﷺ أن الروم وحلفاءهم من قبائل العرب المتنصّرة في بلاد الشام يعدّون جيشًا جرارًا للهجوم على المسلمين. فالروم رأوا في توسع الدولة الإسلامية خطرًا على نفوذهم.
2- إرهاب القبائل المعادية
إظهار قوة المسلمين أمام القبائل التي قد تفكر في التمرد أو التحالف مع الروم، خاصة بعد فتح مكة وخضوع معظم الجزيرة.
3- التربية الإيمانية
كانت الغزوة في ظرف صعب: حرّ شديد، قلة مؤن، موسم حصاد. فكان الخروج امتحانًا عمليًا لصدق الصحابة، وتمييزًا للمؤمن من المنافق.
4- ترسيخ مكانة الدولة الإسلامية
هذه الغزوة أرادت أن توصل رسالة استراتيجية للعالم أن المسلمين لم يعودوا محصورين في الجزيرة، بل قادرين على مواجهة القوى العظمى.
---
ثانيًا: استعداد المسلمين للغزوة
1- إعلان النفير العام
خلافًا للعادة، أعلن النبي ﷺ هدف الغزوة صراحة، نظرًا لبعد المسافة وشدة الاستعداد.
2- تجهيز الجيش
بلغ عدد الجيش حوالي 30 ألف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي حتى ذلك الوقت. سُمِّي جيش العُسرة لأن المسلمين خرجوا في ظروف قاسية.
3- مساهمة الصحابة
أنفق عثمان بن عفان رضي الله عنه إنفاقًا عظيمًا، جهز جيشًا كبيرًا، فدعا له النبي ﷺ.
جاء عبد الرحمن بن عوف وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب بصدقات عظيمة.
حتى الفقراء من الصحابة حاولوا التبرع ولو بالقليل.
4- موقف المنافقين
المنافقون اتخذوا الأعذار الواهية مثل الحرّ وبعد الطريق، ففضح الله نواياهم في سورة التوبة.
---
ثالثًا: أحداث الغزوة
1- المسير إلى تبوك
خرج المسلمون من المدينة في حرّ قائظ ونقص شديد في الزاد والماء، حتى كانوا يربطون الحجر على بطونهم من شدة الجوع. وسُمِّي الطريق بـ العُسرة.
2- الوصول إلى تبوك
حين وصل النبي ﷺ بجيشه إلى تبوك، لم يجد جيش الروم هناك. فقد تراجع الروم وحلفاؤهم عن المواجهة، إدراكًا منهم لقوة المسلمين.
3- إقامة النبي ﷺ في تبوك
مكث النبي ﷺ حوالي عشرين يومًا في تبوك، راسل فيها القبائل والملوك المجاورين، وأبرم معهم معاهدات صلح وخضوع.
4- عقد المعاهدات
أيلة: صالحهم على الجزية.
دومة الجندل: خضعت للدولة الإسلامية.
قبائل أخرى في أطراف الشام دخلت في الطاعة.
5- عودة النبي ﷺ
عاد الرسول ﷺ دون قتال مباشر، لكنه عاد بانتصار استراتيجي؛ إذ خضعت مناطق حدودية مهمة، وأُرسلت رسالة قوية للروم.
---
رابعًا: نتائج غزوة تبوك
1- النصر بلا قتال
أثبت المسلمون هيبتهم دون أن يخوضوا حربًا دامية، وهذا من دلائل حكمة القيادة النبوية.
2- كشف المنافقين
فضحت الغزوة مواقف المنافقين، مثل عبد الله بن أُبيّ وأتباعه، الذين تخلفوا واعتذروا بأعذار واهية.
3- رفع مكانة الصحابة الصادقين
الذين شاركوا في الغزوة اكتسبوا شرفًا عظيمًا، وسُمّوا أهل بيعة الرضوان في تبوك.
4- تأديب المتخلفين من المؤمنين
مثل كعب بن مالك وصاحبيه الذين صدقوا ولم يعتذروا بالكذب، فتاب الله عليهم بعد خمسين ليلة.
5- توسع النفوذ الإسلامي
دخلت مناطق جديدة في دائرة النفوذ الإسلامي، خصوصًا في الشمال، مما مهد لاحقًا لفتوحات الشام والعراق.
---
خامسًا: الدروس والعبر المستفادة
1- قيمة الصدق
ظهر ذلك جليًا في قصة كعب بن مالك وصاحبيه، حيث غفر الله لهم بسبب صدقهم.
2- التضحية في سبيل الله
رغم الحرّ والجوع وبعد الطريق، خرج المسلمون لأن نصرة الدين أعظم من الراحة.
3- دور المال في نصرة الدعوة
تبرعات عثمان بن عفان رضي الله عنه نموذج خالد لدور المال في خدمة الإسلام.
4- قوة الإيمان تصنع النصر
لم يكن النصر بالقوة العسكرية فقط، بل بالإيمان والصبر على المشقة.
5- أهمية القيادة الحكيمة
النبي ﷺ لم يزج بالمسلمين في مواجهة غير محسوبة، بل أدار الغزوة بحكمة فكانت مكاسبها أكبر من القتال.
6- اختبار الإيمان في الشدائد
الغزوة علمتنا أن المحك الحقيقي للإيمان يظهر في أوقات العُسرة، لا في الرخاء.
7- كشف حقيقة المنافقين
الغزوة فصلت الصفوف؛ تمايز فيها المخلصون عن المنافقين.
8- السياسة بجانب الجهاد
إبرام المعاهدات والجزية أبرز أن الإسلام ليس دين حرب فقط، بل دين سياسة وحكمة.
9- أثر الغزوة في التمهيد للفتوحات
هيأت هذه الغزوة الأجواء للانطلاق نحو الشام والعراق بعد وفاة النبي ﷺ.
---
الخاتمة
غزوة تبوك محطة خالدة في التاريخ الإسلامي، جمعت بين الجهاد العسكري والدهاء السياسي والتربية الإيمانية. لم تكن مجرد معركة عسكرية، بل كانت مدرسة عملية في الصبر والتضحية والصدق والإخلاص.
لقد أظهرت للعالم آنذاك أن الدولة الإسلامية قوة لا يُستهان بها، وأن رسول الله ﷺ كان قائدًا محنكًا لا يتهور في قراراته، بل يتعامل مع المواقف بواقعية وحكمة.
وما زالت دروس غزوة تبوك إلى اليوم مصدر إلهام لكل من يسعى لبناء نهضة أو قيادة أمة؛ فهي تعلمنا أن الصعوبات والعوائق ليست إلا امتحانًا للثبات، وأن الصدق مع الله هو طريق النصر الحقيقي.
---