ثلاثة يُحبهم اللهُ تعالى ( 1 )
خطبـة جمعــة بعنــوان
ثلاثة يُحبهم الله تعالى ( 1 )
امّا بعد احبتي الكرام :
ضمن سلسلة ثلاثيات موعدنا اليوم مع ثلاثةِ أصنافٍ من النّاس، لحيث والنّاسُ يتنافسون في أن يُحبهم النّاس، ويتطلبون ذلك عبرَ كل وسيلة :
فدوراتٌ تقام لكسبِ القلوب، وكتبٌ لطرائقِ الوصول لقلوبِ النّاس، وهدايا وعطايا للوصول لمودة الخلق، ولا تثريب في هذا فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه لنبينا : يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا .! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :
“ اللهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْ إِلَيْهِمِ الْمُؤْمِنِينَ “.
كل هذا حَسَنٌ، ولكن ماذا عن محبةِ الله جل وعلا .!
كم هو عظيمٌ أن تكون بين النّاس، والله مِنْ فوق سماواته يُحبك ويرضى عنك ..
إنّه والله لَلشَّرَفُ الأسنى، والغايةُ الأسمى، والربحُ الأعلى أن يحبكَ المولى جل وعلا .
أفلا هل أُحدثُكم إذاً بحديث عن خبرِ ثلاثةٍ يحبهم الله ! مَنْ هم ؟! وما صفتُهم ؟! وما أعمالهم ؟!
علّنا أن نتأسَّى بهم ونقتدي لنكون ممّن يحبهم الله
فروى الترمذي في سننه عن أبي ذر رضي الله عنه
أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثةٌ يحبهمُ اللهُ عزوجل ، وثلاثةٌ يبغضهم الله..
وحديث اليوم سيركزُ على الثلاثةِ الذين يحبهم الله ..
أمّا الثلاثة الذين يبغضهم الله فسيكون لنا موعد معهم في اللقاء القادم إن شاء الله تعالى .
ولأجل هذا فإنّ أولَ صنفٍ من هؤلاءِ الثلاثة الذين يُحبهم الله :
(رجلٌ أتى قوماً فسألهم بالله، ولم يسألهم بقرابةٍ بينهم، فمنعوه، فتخلَّف رجل بأعقابهم فأعطاه سِرًّا، لا يعلم بعطيته إلاّ اللهُ والذي أعطاه) ..
أتدرون من هذا الرجل ؟!
إنّه ذلكم المنفقُ سِرًّا، لا يعلمْ بعطيته إلاّ الله ومن أعطاه، ربما أنفق فلم تعلم شمالُه ما أنفقت يمينُه، من شدةِ إخفائه ..
وما أشرف الصدقة حين يُسَرُّ بها .!
ما أروعها حين تُخفى !
ما أجملها حين لا يطّلع عليها أحد !
وما أشرف العمل حين يكون بينك وبين الله تعالى.
فروّعةُ الصدقة حين يَبذلها المنفق فيخفيها، ثمّ ينساها فلا يذكرها ولا يُشهِّر بها، يقول الله عزوجل :
(وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)[الْبَقَرَةِ: 271].
كثيرون هم الذين يتصدقون، وكثيرٌ هم الذين ينفقون، ولكن أخطرُ داءٍ يُبطلُ الصدقةَ إشاعتُها بغرضِ الرياء والمنّ بها ..
يأتيه المحتاجُ بينه وبينه، فلا يجلس مجلساً إلاّ وأخبر بأنّه هو مَنْ أنفق على هذا الفقير .!
أو هو من أخرجه من السجن .!
أو هو من أنقذه من محنةٍ او مصيبة .!
أو هو من أعانه بطعامٍ او لباس او مال .!
فيظل الفقير يعيشُ مغبةَ تلك الصدقة التي أُلحِقَت بالأذى، ويضل اذى المنفق يلاحقه وربنا يقول :
(لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى)[الْبَقَرَةِ: 264].
لذا حين يُنعمُ اللهُ عليكَ بالمال لا تنسَ المحتاجين من صدقاتك ..
فلئن أعطاك اللهُ مسكناً يلمك، وفراشاً ولباساً يُدفئك، وطعاماً يسد جوعك فإنّ لك إخواناً هنا وهناك ومنهم في بلدك وحواليك فتفقَّد حالهم، وَمُدَّ يدَ العون لهم، واستشعر أنّ الفضل لله الذي أعطاك، ثمّ للصدقةِ، وجعلك المُعطي ولم يجعلك السائل.
وبعدَ هذا فَانْسَ صدقتَكَ، وإحسانك، لانّها مُدخَّرةٌ عند من لا تخفى عليه الخوافي ..
وشتّان بين من يعمل الطاعة لا يعلم بها إلاّ اللهُ، ومن يعمل العمل فيُذيعه بين النّاس افتخاراً وتعجباً
إمرأةٌ اخرى تبرعت بإقامةِ مسجد كبير في إحدى المناطق، فأراد النّاس أن يعرفوا اسمها ليوافوها بتقارير فقالت : لا أحتاج لكل هذا، المال أعطيته لموثوق وسأجد تقريره يوم أن ألقى الله .
إنّها نماذج بحمدِ الله كثيرة وامثالهم كثير ممّن
لا يرجون من صدقاتهم سمعةً ولاشهرةً ..
ولا يريدون ان يذاع اسماءهم او ينتشر صيتهم على الملأ، او يعلم بصنيعهم القاصي والداني إنّما كل ما يتمنوه هو وجه الله :
( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً ) [الإنسان: 9 ].
فهنيئاً لمن بذلوا الإحسان ..
هنيئاً لمن أنفقوا في وجوه البر ..
هنيئاً لمن أرغموا الشيطان، وأسرّوا بأعمالهم ولم يُطلِعوا عليها أيَّ إنسان، سوى الخـالق سبحانه.
هنيئاً لهم محبةَ الرحمن الرحيم ..
أيُّها الفضلاء الكـرام :
أمّا الصنف الثاني ممّن يحبهم الله جلّ وعلا :
* فهو ذلكم الرجل الذي رَكِبَ مع القوم فساروا يومَهم أكملَه، حتى بلغ بهم العناءُ مبلغَه، وحين وقفوا ليلَهم كان النومُ أحبَّ إليهم ممّا يُعْدَل به، فنزل القومُ وناموا ..
وأمّا هو فلأنه يُحبُّ ربَّه قام يصلي لربه ويتلو آياته، ولا عجب فقد أطار حبُّ اللهِ نومَه، وأذهب فرحُه بمقابلته تعبَه وعناءَه، فتفضل عليه ربُّه بأن أعانه ولعبادته وفقه، وجعل ذلك سبباً لنيلِ محبته ورضوانه:
( تَتَجافَى جُنُوبُهمْ عَنِ المضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَهُمٌ خَوفَاً وَطَمَعاً وَممّا رَزقْناهُمْ يُنْفِقون ..) السجدة
هذا حاله مع قيامِ الليل، التعبُ ينازعه للنوم، والدفءُ يؤزُّه إليه، فيقيمه شوقُه لربه ..
يفرش فراشه، ثمّ يضع يدَه عليه، ويقول :
واللهِ إنّك لَلَيِّنٌ، لكنّ فراش الجنّة ألْيَنُ، فيقوم ليله وما أصعب ذلك إلاّ لمن وُفِّقَ :
إِذَا مَا اللَّيْلُ أَظْلَمَ كَابَدُوهُ
فَيُسْفِرُ عَنْهُمُ وَهُمُ رُكُوعُ
أَطَارَ الْخَوْفُ نَوْمَهُمُ فَقَامُوا
وَأَهْلُ الْأَمْنِ فِي الدُّنْيَا هُجُوعُ
إنّ في قيامِ الليل أسرارًا عظيمة لا يدركها إلاّ أهلها، وهذا ما جعل عبد الله بن عمرو رضي الله عنه
يقول: “ لأن أصلي في جوفِ الليل ركعة أحبّ إليَّ من أن أصلي بالنّهار عشر ركعات“
ولله در الشاعر يوم قال :
لله قومٌ أخلصوا في حبه
فاختصهم ورضا بهم خداما
قومٌ إذا هجمَ الظلامُ عليهمُ
قاموا فكانوا سجداً وقياما
يتلذذون بذكره في ليلهم
ونهارهم لا يفترون صياما
فسيفرحون بوردِ حوضِ محمدٍ
وسيسكُنون من الجنانِ خياما
وسيغنمون عراسًا بعراسِ
ويبوءون من الجنانِ مكانا
وتقرَ أعينهم بما أُخفي لهم
وسيسمعون من الجليلِ سلاما
تذكرتُ وأنا أسمعُ هذا حالَ بعض إخواننا ممّن أصحَّ اللهُ أبدانهم وسلَّم قواهم، وآمَن بلدانَهم، تبحث عنهم في جنباتِ المسجد لصلاةِ الفجر، وهي فريضةٌ فلا تراهم، يتعللُ هذا بالتعب، وهذا بالبرد..
ولو امتلأت قلوبنا حُبّاً لربنا لأيقظنا الشوقُ للقائه، ولكن ضَعُفَ ذلك فعسُر علينا.
واللهِ لا سواء بين من يهجرُ فراشَه ليقوم لبيتِ ربه وللقاء خالقه، وبين من يمكث فيه ويفوِّتُ الصلاة عن وقتها، أو يصلي ولكن في بيته ..
فطوبى للموفَّقين، والمحافظين على الصلواتِ في بيت رب العالمين ورسولنا الحبيب يقول:
"بَشِّرِ المشائينَ في الظُّلَمِ إلى المساجدِ بالنورِ التامّ يوم القيامة“.
أمّا الصنفُ الثالثُ ممّنْ يحبهم ربُّ العزةِ والجلال :
* فهو رجلٌ كان في سَرِيَّة، فلقوا العدوَّ فهُزموا، فأقبل ذلكم الرجلُ بصدره حتى يُقتلَ، أو يفتحَ اللهُ له ..
لسان حالِه إمّا النصر وإمّا الشهادة، قد امتلأ قلبه شجاعةً، وإقداماً، وبحثاً عن مرضاةِ الله تعالى..
يُقدِمُ على الموت، يُلقي بنفسه في الهلكة، لكنها هلكة دنيا ليحيا في الآخرة، وليرفع كلمة الله عالية، فكان جزاؤه أن يكون ممّن يحبهم الله، وذلك وربي غايةُ الشرف..
اللهم أرزقنا حبَّكَ، وعمّر قلوبنا برضاك.
اللهم ارزقنا حبك ، وحبّ من يحبك، وحبّ كل عملٍ يقربنا الى حبك ..
اقـول ماسمعتم واستغفروا الله لي ولكم ويافوز المستغفرين ..
الخطبة الثانية :
أمّا بعد أحبابي الكــرام :
احدثكم اليوم عن ثلاثةٍ من النّاس يحبهم الله فكما روى الترمذي في سننه عن أبي ذر رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله، أمّا الذين يحبهم الله :
فرجلٌ أتى قوماً فسألهم بالله، ولم يسألهم بقرابة بينهم، فمنعوه، فتخلَّف رجل بأعقابهم فأعطاه سِرًّا، لا يعلم بعطيته إلا اللهُ والذي أعطاه ..
وقومٌ ساروا ليلتهم، حتى إذا كان النوم أحبَّ إليهم مما يُعْدَل به، نزلوا فوضعوا رؤوسهم، فقام يتملقني ويتلو آياتي..
ورجلٌ كان في سرية، فلقوا العدو فهُزموا، فأقبل بصدره حتى يُقتل، أو يفتح اللهُ له "..
أيُّها الكرام
إنّنا حينما ننظر ونتأمل جيداً إلى الجامعِ المشترك لهذه الأعمال الثلاثة بعد الإخلاص لله تعالى نجده في (الخفاء والسر) ..
فهي أعمال ثلاثة خفية لا يكاد يطّلع عليها إلاّ صاحبها أو هو ومن فعلت معه، ولم يعرف بها أحدٌ من الخلق.
وعبادةُ السرِّ وطاعاتُ الخفاء أجل القربات، وأعظم ما تفرج به الكربات، وتسمو به الدرجات وتكفّر به السيئات..
عبادةُ السرِّ زينةُ العبد في خلوته، وزاده من دنياه لآخرته ودارُ كرامته.
عبادةُ السرِّ وطاعةُ الخفاء دليلُ الصدق، وعنوانُ الإخلاص، وعلامةُ الإيمان وحبِّ الرحمن؛ ولا تكون إلاّ من صاحبِ قلبٍ ملأ حبّ الله سويداءه، وعمّرت الرغبة فيما عند الله أرجاءه، فأنكر نفسه وتجرد لله لا يرجو إلاّ رضاه.
ولهذا كان هذا النوع من العبادة أشق ما يكون على المنافقين، وأصعب ما يكون على الكذابين ..
ولا مكان له عند المدعين المرائين، لأن المرائي إنّما يعمل ليراه النّاس، ويحسن ليمدحوه أو يحمدوه ..
والمؤمنُ الصادق إنّما يريد وجه الله فيجتهد أن يخفي عمله عن المخلوقين.
جاء رجل إلى حذيفة بن اليمان يسأله :
هل أنا من المنافقين؟
فقال له : أتصلي إذا خلوت، وتستغفر إذا أذنبت ؟ قال : نعم.
قال : اذهب فما جعلك الله منافقا.
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء: 142).
ختاماً ياكرام:
حديثُ لقاءنا القادم إن شاء الله سيكون حول ثلاثة اصنافٍ من النّاس يُبغضهم الله جل وعلا ، وحتى ذلكم الحين اللهم ارزقنا حبك، وحبّ من يحبك، وحبّ كل عملٍ يقربنا الى حبك ..
(( إنَّ اللّهَ وملائِكتَه يُصلونَ على النَّبي يا أيَّها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ))....