من الإعجاز الصوتي في القرآن أنساق الفاصلة في جزء تبارك

من الإعجاز الصوتي في القرآن أنساق الفاصلة في جزء تبارك

0 المراجعات

تمثل الفاصلة القرآنية أثرا من آثار الإيقاع الصوتي في القرآن الكريم، الذي تعدد بتعدد السياقات الصوتية والدلالية في القرآن الكريم، من حيث تماثله وتقاربه أحيانا وتباعده بالانزياح أحيانا أخرى، وهذا المقال يبين تلك الأنماط وآثارها الصوتية والدلالية من خلال جزء تبارك وهو الجزء التاسع والعشرون من القرآن الكريم.

والنسق " مَا جاءَ من الكَلامِ على نِظامٍ واحِد "([1])

والنسق القرآني ليس على نمط واحد ، بل هو متعدد الأنماط ، فتتعدد أنماطه وإيقاعاته، بتعدد السياقات والمشاهد التي يراد تصويرها ، ثم هو لا يعتمد على صوت الفاصلة وحسب في تناسقه الصوتي، حتى تأتي على نمط واحد ، وليس غايته التناسق الشكلي على حساب المعنى المراد ، يقول الدكتور محمود ديب : " في النسق الصوتي القرآني ترد ظاهرة الانسجام المطرد ، والملاءمة بين الصوت والمضمون، دون أن يخضع النظم للضرورات الصوتية في الفاصلة، كما خضع الشعر لها أحياناً كثيرة ، وهو ما يثبت من خلال التطبيق أنَّ النسق الصوتي لم يعد حضوره في النسق العام حضوراً تحسينياً، لفظياً أو معنوياً، مثل ما صنفه الدارسون القدامى في قائمة علم البديع، وإنَّما يشكل في ظاهرتيه : الإيقاعية الداخلية ، من نحو ظاهرة انعدام الرتابة ، التكرار ، التقابل وغيرها ، والإيقاعية الخارجية المتمثلة في مهمات صوتية تؤديها الفاصلة على مستوى المفردة والآية، ونسق السورة ، إضافة لوسائل صوتية أخرى استخدمها النسق للدلالة على المضمون . يشكل هذا وغيره مع الأنساق الأخرى نسيجاً متلاحماً يخدم المضمون، ويحقق الجمالية في آن "([2])

وقد جاءت أنساق الفاصلة القرآنية في جزء تبارك على النحو الآتي : 

  

أولا : نسق التقارب الصوتي للفاصلة في جزء تبارك :

 

وهو نسق يجمع أصواتا مختلفة في نوعها، متفقة في خصائصها الصوتية، مثل نسق التفخيم- الجهر – الهمس – الأصوات المائعة([3]) .

وتظهر أهمية هذا النسق في اتخاذه وسيلة من وسائل إثبات الخصائص الفنولوجية للأصوات  حيث" يرى الدكتور إبراهيم أنيس ، أن الانسجام الموسيقي بين فواصل كثيرة من الآيات القرآنية يهدينا إلى النطق الأصلي لبعض أصوات اللغة وقت نزول القرآن "([4]) ، وقد استدل الدكتور أنيس على التشابه الصوتي بين الضاد والظاء في النطق القديم، بوقوعهما في فاصلتين متواليتين من فواصل القرآن الكريم ، مثل ما جاء في قوله تعالى: (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ .وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)([5]) ، ومن ذلك استدلال أحد الباحثين على كون الهمزة من الأصوات المهجورة بأنه لم يوجد في القرآن الكريم فاصلة بنيت على حرف الهمزة إلا وهي في سياق فواصل بنيت على حروف مهجورة ([6]) .

 ومن هذه الأنساق الصوتية في فواصل جزء تبارك . 

- نسق الغنة

" الغنة في اللغة :"صوت يخرج من الخيشوم لا عمل للسان فيه.

 وفي الاصطلاح : صوت أغن مركب في جسم النون، ولو تنوينا والميم مطلقاً – أي أن صوت الغنة لازمة للنون والميم، سواء أكانتا متحركتين أم ساكنتين ، مظهرتين أو مدغمتين أو مخفاتين"([7])،ونسق الغنة هو تتابع صوتي الغنة (الميم والنون) في الفواصل القرآنية .

وقد جاءت سورة القلم على هذا النسق، حيث جاءت فاصلة النون في اثنتين وأربعين آية  وفاصلة الميم في عشر آيات . 

والميم والنون " هما الحرفان الطبيعيان في الموسيقى نفسها "([8]) ، والغنة هي السمة البارزة في صفات الميم والنون ، حيث يختصان بها ، وهما مع ذلك من أشد الأصوات تقارباً في الصفات، فهما من أصوات الجهر والتوسط والترقيق والذلاقة؛ مما يجعل هذا النسق الإيقاعي أكثر قربا من التماثل من أي صوتين غيرهما . 

ومما جاء على هذا النسق في جزء تبارك : 

- قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)([9]).

حيث جاءت فاصلة النون في سبع آيات ، وتخللتها فاصلة الميم في موطنين فقط. 

وكذلك في قوله تعالى: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)([10])

حيث جاءت النون في عشرين فاصلة ، والميم في ثلاث فواصل . 

- ومنه قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)([11]).

فقد جاءت فاصلة الميم مرة واحدة وتلتها النون في ثلاث فواصل متتابعة . 

والملاحظ في هذا النسق كثرته عن غيره ، ودخول الميم على النون في مواضع قليلة  وهو أمر متعلق بالإيقاع؛ إذ الغنة مع النون أقوى منها مع الميم ([12])

ويمكن تفسير ذلك بأمر آخر ، وهو أن النون على المستوى المورفيمي أكثر من الميم  من حيث هي علامة إعراب فرعية في الأفعال الخمسة، وعلامة للجمع مع الياء والواو  وعلامة للتثنية مع الألف والياء ، والميم لا تساوي النون من حيث كونها مورفيما . 

النسق  المعتمد على الأصوات الشديدة : وهو تتابع الأصوات الشديدة (الانفجارية) في الفاصلة القرآنية. 

ومنه في جزء تبارك قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)([13]).

فقد جاءت فواصل هذه الآيات معتمدة على الأصوات الشديدة، حتى إن كلمة الفاصلة في بعض الآيات قد تحتوي على أكثر من صوتين أو ثلاثة من أصوات الشدة ، مثل (طباقا – نباتا – إخراجا – بساطا – فجاجا) ، وكان تردد الأصوات الشديدة في نهاية الفاصلة على النحو الآتي :

الحرف

التردد

الجيم

3

القاف

1

التاء

1

الطاء

1

 

 نسق الأصوات المائعة : الأصوات المائعة هي الأصوات المتوسطة بين الشدة والرخاوة  حين لا يتم انطلاق الصوت انطلاقا تاما ، ولا يتم حبسه حبسا تاما ، وهي أصوات : الراء  والعين ، واللام ، والميم ، والنون ([14]) ،  وأكثرها تقارباً وانسجاما أصوات اللام والراء والنون والميم ، يقول برجشتراسر: " أما الحروف الصوتية المحضة، وهي : ل ر ن م ، فيماثل بعضها بعضا من جهة أن الغالب على نطقها كلها الصوت الناشئ عن اهتزاز الأوتار الصوتية في الحنجرة ، ولهذا السبب، كثيرا ما يستبدل بعضها من بعض ، أو تقدم وتؤخر"([15])

وقد بنيت سورة الإنسان على هذا النسق ، حيث جاءت فواصلها على أصوات (الراء واللام والميم) على النحو الآتي :

الحرف

التردد

الراء

20

اللام

9

الميم

2

 

ومن تتابع الأصوات المائعة في فواصل جزء تبارك قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)([16]).

فقد ترددت الأصوات المائعة (النون والميم واللام) على النحو الآتي :

 الحرف

التردد

النون

15

الميم

4

اللام

1

 - ومنه قوله تعالى: (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)([17])

حيث ترددت الراء في سبع فواصل ، واللام في فاصلة واحدة .

نسق الاصوات المجهورة : وهو تتابع الأصوات المجهورة في الفواصل القرآنية، وقد جاءت سورة المزمل في جزء تبارك على هذا النسق ، حيث ترددت أصوات (اللام والميم والباء) على النحو الآتي : 

الحرف

التردد

اللام

16

الميم

3

الباء

1

   


ثانياً : نسق التماثل الصوتي للفاصلة في جزء تبارك

نسق التماثل الصوتي نسق تسير فيه الفاصلة على صوت واحد، من دون تغيير على مدار السورة كلها، و" السور ذات الفواصل المتماثلة في القرآن الكريم إحدى عشرة سورة ، هي : (القمر ، المنافقون ، الأعلى ، الشمس ، الليل ، القدر ، العصر، الفيل ، الكوثر ، الإخلاص ، الناس) " ([18]) ، ولم تأت سورة من سور جزء تبارك على فاصلة متماثلة ، لكن جاءت مقاطع طويلة على فاصلة واحدة متماثلة ، ويمكن عد الإحدى والعشرين آية الأولى من سورة الملك من هذا النسق المتماثل ؛ حيث جاءت جميعها على فاصلة الراء ، كذلك يمكن عد الآيات الاثنتين والثلاثين الأولى من سورة الحاقة من هذا النسق ، حيث انتهت جميعها بصوت الهاء .

ثالثاً : نسق الفواصل المفردة في جزء تبارك

ويعني بهذا النسق انزياح التتابع الصوتي المتقارب أو المتماثل في الفاصلة القرآنية؛ لتأتي فاصلة متباعدة صوتياً تكسر إيقاعه . 

فقد يحدث أن " يكسر النسق القرآني رتابة الإيقاع الذي قد ينتج عن تكرار القالب الصوتي تكرارا زائدا ؛ مما قد يبعث الملالة والسآمة في نفس السامع أو القارئ، حين تتعود الأذن نمطا مألوفا من الإيقاع الموسيقي، فتقل متعة النفس به "([19])، " والقرآن الكريم حين يلجأ إلى كسر هذه الرتابة، يثري التعبير بأنغام موسيقية متنوعة تنحدر فيها موجات النغم ، وتتنوع أصداؤه ، وتتصاعد درجاته، ويلاحظ الدكتور محمود نحلة أن القرآن يلجأ في ذلك وسيلتين : 

الأولى : المراوحة بين القرائن في الكم الموسيقي ، فنجده يأتي بالفواصل المتوسطة الطول  ويتبعها بالفواصل القصيرة ، ثم بالطويلة ، ثم يعود إلى القصيرة أو المتوسطة . 

الثانية: التصاعد النغمي، ويعني به البدء بالفواصل القصيرة ، وإتباعها بفواصل أطول فأطول. 

وقد يتوازن الإيقاع ويتقارب، ولكن أنغامه تختلف ، ولا يمكن أن تحس فيه بشيء من الرتابة  كما في سورة الشرح ([20]) ، ومن ذلك أن القرآن الكريم يكسر رتابة الإيقاع بقافية غريبة عن ما سبقها من فواصل ، بحيث تنفرد بصوت يخالف ما سبقه من أصوات الفاصلة من حيث التماثل والتقارب ، ومما جاء على هذا النسق في جزء تبارك : 

1- فاصلة الهاء في سورة المعارج : 

قال تعالى:( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)([21])  

حيث احتوت هذه الآيات على فواصل مجهورة (العين – الجيم – اللام – الدال -  الباء – النون ـــ الميم) ولم تند عنها سوى فاصلة الهاء المهموسة في الآية الرابعة . 

ويلاحظ في هذه الآيات طول آية الفاصلة المفردة عن الآيات السابقة واللاحقة لها ، يقول الشيخ سيد قطب : " التنويع الإيقاعي في مطلع السورة عميق وشديد التعقيد في الصياغة الموسيقية بشكل يلفت الأذن الموسيقية إلى ما في الصياغة والتنويع المعقد الراقي – موسيقيا – من جمال غريب على البيئة العربية وعلى الإيقاع الموسيقي العربي ، ولكن الأسلوب القرآني يطوعه ويمنحه اليسر الذي يدخل به إلى الأذن العربية، فتقبل عليه ، وإن كان فنا إبداعيا عميقا جديدا على مألوفها الموسيقي " ([22])، وهذا التنوع الموسيقي من خصائص القرآن الكريم التي تميزه عن غيره من النصوص، سواء أكانت مقفاة أم مسجوعة ، فنسق التنوع الموسيقي في فواصل القرآن يعد نسقا إبداعيا إذا ما قورن بغيره من الأنساق الصوتية في نصوص مغايرة، يقول الدكتور محمد الحسناوي : " إن الشعر العربي أفاد من القرآن ، لكنه لم يتزحزح عن القافية الموحدة ، في حين أن السور ذوات الفواصل المتماثلة لا تكاد تتجاوز العشر من مجموع السور" ([23]).  

2- فاصلة الياء في سورة القيامة 

حيث بنيت السورة على مقاطع كل منها يختص بفاصلة محددة ، وجاءت فاصلة الياء زيادة عن فواصل السورة قبلها وبعدها ، والعجيب أن بعض المحدثين قد أبرز وجها من التحامل على إثبات الياء في كلمة (التراقي) ، يقول الدكتور إبراهيم أنيس : " أما المنقوص غير المنون، فقد عكس النحاة حكمه، وجعلوا بقاء الياء أولى من حذفها ، فيقال في حالة النصب (القاضيا) وفي حالة الرفع أو الجر (القاضي) أو (القاض) . 

ولست أدري لم استحسنوا هنا الوقف بإبقاء الياء ؟ وفضلوه على حذفها ، رغم أنا نرى القراءة القرآنية المشهورة قد التزمت هنا أيضا حذف الياء حتى في حالة النصب ، فاستمع إلى قوله تعالى في سورة القيامة: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)([24]) 

ألست ترى معي أن الفواصل هنا تبرز موسيقاها وتطمئن النفوس إليها حين تقف على " القاف " في كل هذه الآيات بالسكون ، وألست([25]) ترى معي أن تردد القاف كان لحكمة فنية أدبية ؛ لتستمتع الأذن بموسيقى هذه الفواصل ، ولا تتحقق تلك الحكمة الفنية حين نقول: (التراقي) كما فعل معظم القراء"([26])

ويمكن الرد على الدكتور إبراهيم أنيس في النقاط الآتية : 

أولا : حمل كلام الدكتور إبراهيم أنيس تناقضا ، حيث قال في أول كلامه : (نرى القراءة القرآنية المشهورة قد التزمت هنا أيضا حذف الياء حتى في حالة النصب) ، ثم قال آخرا : (ولا تتحقق تلك الحكمة الفنية حين نقول: (التراقي) ، كما فعل معظم القراء) ، فكيف يكون حذف الياء قراءة مشهورة ، ومعظم القراء يقرأون بإثباتها؟! .

ثانيا: أن الذي ذكره الدكتور أنيس من قوله: (التراق) بحذف الياء ، ليس قراءة أصلا  ومن هنا يكون قوله : (كما فعل معظم القراء) غير محقق ، والتحقيق في هذا أن أحدا من القراء لم يقرأ (التراق) بحذف الياء، لا وصلا، ولا وقفا([27])

ثالثا : أن الوقف على (التراقي) بحذف الياء فيه مخالفة للرسم العثماني؛ إذ الكلمة في رسم المصحف بالياء ، ومعلوم أن من شروط القراءة موافقة الرسم . 

رابعا : أن ابن محيصن([28]) قرأ قوله تعالى : (وقيل من راق) بالوقف على راق، بإثبات الياء([29]) ، وهو دليل على هذه القراءة (التراقي) من حيث التناسب الصوتي . 

خامسا : أن إثبات الياء هنا متحسن، وحذفها قبيح ، يقول الرضي : " اعلم أن المنقوص المنصوب غير المنون، كرأيت القاضي وَجَوَارِيَ، لا كلام في أنه لا يجوز حذف يائه، بل يجب إسكانه ... قال سيبويه : إنما لم تحذف الياءات؛ لأنها إذا تحركت قويت كالحروف الصحيحة"([30]) ، وقد وصف أبو البركات الأنباري حذف الياء بأنه ضعيف جدا ، يقول : " كان بعض العرب يقف بغير ياء ، وذلك أنه قدر حذف الياء في " قاض " ونحوه ، ثم أدخل عليه الألف واللام ، وبقي الحذف على حاله، وهذا ضعيف جداً ...، فإن كان منصوباً لم يكن الوقف عليه إلا بالياء ، قال الله تعالى : (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ)([31]) ، وذلك؛ لأنه تنزل بالحركة منزلة الحرف الصحيح ، فتحصن بها من الحذف "([32]).

سادسا : أن إثبات الياء هنا قد قصد إليه قصدا من ناحية اللغة ، ومن ناحية الدلالة فمن ناحية اللغة يقول أحد الباحثين : " ولعل اتفاقهم في إثبات الياء في (التراقي) إيماءة إلى كونها منصوبة ، فضلا عن حذف الفاعل دون دليل لفظي ، فآثروا الإثبات ؛ لئلا ينهك الأسلوب بكثرة الحذف "([33]) .

ومن ناحية الدلالة، فالمقام يقتضي إثبات الياء ، حيث السياق سياق إنذار وتهديد، ففي الآية " ردع وزجر عن إيثار العاجلة على الآخرة ؛ أي : ارتدعوا وانزجروا عن ذلك ، وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي ينقطع عنده ما بينكم وبين العاجلة من العلاقة ، فأقلعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة ، فستنقطع الصلة بينكم وبينها ، وتنتقلون إلى الدار الآخرة التي ستكونون فيها مخلدين أبداً "([34]).   

وهذا سياق يستدعى نبرة عالية، تتمثل في انتهاء الآية بمقطع طويل مفتوح، ينتهي بصوت صائت ، حيث يعلو الصوت بالياء ويتمدد صداها ، وهي صوت يشعر بجو الحزن والانكسار ، يقول أحد الباحثين : " ويلفت انتباهنا هنا دور الكسرة في شعر الخنساء ، فقد لاحظت أن للكسرة في شعر الخنساء أهمية كبرى ، ودورا رئيسيا في الإيحاء بجو الحزن والانكسار ، بحيث يمكننا القول بأن الكسرة في شعر الخنساء هي (المعادل الصوتي) للحزن، الذي تزدحم به بكائياتها في أخيها صخر" ([35]) ، وليس كذلك الأمر إذا ما حذفت الياء وانتهت الآية بصوت صامت . 

كل ذلك يؤكد أن الفاصلة القرآنية فريدة في سياقها، لا يقوم غيرها مقامها ، فـ " لا تحسن المحافظة على الفواصل لمجردها إلا مع بقاء المعاني على سدادها ، على النهج الذي يقتضيه حسن النظم والتئامه ، كما لا يحسن تخير الألفاظ المونقة في السمع السلسلة على اللسان إلا مع مجيئها منقادة للمعاني الصحيحة المنتظمة، فأما أن تهمل المعاني ويهتم بتحسين اللفظ وحده، ...، فليس من البلاغة في فتيل أو نقير"([36])


 


([1]) تاج العروس 26/419 (ن س ق) .

([2])  النص القرآني : رؤية في النسق الصوتي للباحث ماهر الشيال ، بحث منشور على موقع البديل بتاريخ 23 أغسطس 2014 على الرابط الآتي : htpp://elbadil.com/ .

([3])  ينظر :الأسلوبية الصوتية في الفواصل القرآنية د/ عمر عبد الهادي عتيق ، بحث منشور في مجلة المنارة / مجلد 16 / عدد 3 / جامعة آل البيت ص3.

([4])  ينظر: المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي د/ رمضان عبد التواب ص72 نقلا عن مقال : "على هدي الفواصل القرآنية " في مجموعة البحوث والمحاضرات لمجمع اللغة العربية بالقاهرة " 

1961/1962" ص 107 – 118 .

([5])  سورة فصلت : الآيتان 50 ، 51 ، وينظر: المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي ص 72 ، 73 نقلا عن معنى القول المأثور " لغة الضاد " ، الدكتور إبراهيم أنيس ص 118 ، 119 البحوث والمحاضرات لمجمع اللغة العربية " الجزء العاشر " القاهرة 1966م .

([6])  ينظر : ظواهر علم اللغة في فواصل القرآن ، د/ عبد المنعم عبد الله حسن ص322 رسالة دكتوراه بالمكتبة المركزية جامعة الأزهر برقم 789 .   

([7])  هداية القاري إلى تجويد كلام الباري 1/ 177 .

([8])  إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي ص 150 .

([9])  الملك : من الآية (22) إلى الآية (30) .

([10])  المعارج : من الآية (22) إلى الآية (44) .

([11])  نوح :  من الآية (1) إلى الآية (4) .

([12])  ينظر: هداية القاري إلى تجويد كلام الباري 1/177 .

([13])  نوح : من الآية (15) إلى الآية (20) .

([14])  علم الأصوات اللغوية د/ عصام نور الدين ص 226 .

([15])  التطور النحوي للغة العربية ص 38 .

([16])  الحاقة : من الآية (33) إلى الآية (52) 

([17])  نوح : من الآية (21) إلى الآية (28) 

([18])  الفاصلة في القرآن د/ محمد الحسناوي ص 297

([19])  ينظر : لغة القرآن الكريم في جزء عم د/ محمود نحلة ص 358 . 

([20])  ينظر: المرجع السابق الصفحة نفسها . 

([21])  المعارج : من الآية (1) إلى الآية (10) 

([22])  في ظلال القرآن 6/3695 . 

([23])  الفاصلة في القرآن ص 299 .

([24])  القيامة من الآية (26) إلى الآية (30) 

([25]) هكذا في النقل (وألست) بتقديم العاطف على همزة الاستفهام ، والاستفهام له الصدارة ، والصواب (أولست) . 

([26])من أسرار اللغة ص 229 ، 230 . 

([27]ينظر: إتحاف فضلاء البشر ص 563 ، والمحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات 2/342 ، والكامل في القراءات والأربعين الزائدة عليها لأبي القاسم الهُذلي ص 654  

([28]) هو محمد ، وقيل عمر بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي مولاهم المكي ، قارئ أهل مكة، مع ابن كثير وحميد الأعرج، وهو في الحديث ثقة، احتج به مسلم، وقرأ القرآن على سعيد بن جبير ، توفي سنة 123هـ . ينظر : معرفة القراء ص 56 ، ولسان الميزان لابن حجر 7/219.

([29])  ينظر: إتحاف فضلاء البشر ص140

([30])  شرح الشافية 2/300 ، ولم أقف على قول سيبويه في الكتاب . 

([31])  القيامة : الآية 26.                 

([32])  أسرار العربية: ص 56                                                           

([33])   متشابه القرآن الكريم وفواصله، دراسة صوتية ودلالية واشتقاقية ، محمود علي السيد محمد ص207 ، رسالة ماجستير في المكتبة المركزية جامعة الأزهر برقم 9977 . 

([34])  تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن ، الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبدالله الهرري 30 /451.

([35])  إبداع الدلالة في الشعر الجاهلي مدخل لغوي أسلوبي ، د/ محمد العبد ص 29

([36]) البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/72  ، وقد عزا هذا القول للزمخشري في الكشاف ، ولم أقف عليه في الكشاف .  

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

2

متابعين

0

متابعهم

1

مقالات مشابة