مابين الروح والعمران:-

مابين الروح والعمران:-

1 reviews

الإسلام: منظومة حضارية تتجاوز حدود الزمان والمكان

في زمنٍ تتسارع فيه الابتكارات التكنولوجية وتنهار أمامه أنماط الاقتصاد التقليدي، يعود سؤال قديم في ثوب جديد: هل الدين – وبخاصة الإسلام – قادر على أن يكون بوصلة للتقدم، أم أنه عبء على حركة العصر؟

النظرة المتأملة تكشف أنّ الإسلام ليس مجرّد طقوسٍ وشعائر، بل مشروع حضاري متكامل ينسجم فيه الإيمان مع العقل، والمادة مع الروح، والحرية مع المسؤولية. إنه نظام للحياة لا يقتصر على جانب العبادة، بل ينسج شبكة قيمٍ أخلاقية وعدالة اجتماعية ونهضة علمية واقتصاد منتج قائم على الكرامة الإنسانية.

ولأن الحضارات تُبنى حين تتكامل الأفكار الكبرى مع التطبيق العملي، فإن الإسلام لم يطرح مبادئ مثالية معزولة، بل صاغ رؤية واقعية قادرة على الجمع بين سمو الروح وقوة المادة.

 

---

الإسلام وفلسفة الإنسان

ينطلق الإسلام من رؤية دقيقة للإنسان: كائنٍ مكرّم يمتلك العقل والاختيار، ويُحمَّل مسؤولية الإصلاح والعمران. ليست الغاية من وجوده مجرد البقاء أو الاستهلاك، بل تحقيق التوازن بين احتياجات الجسد ونور الروح، بين طموح الفرد ومصلحة الجماعة.

ولهذا كان مبدأ الاستخلاف حجر الزاوية في التصور الإسلامي؛ فالإنسان خليفة الله في الأرض، مُطالب بأن يحول مواردها إلى عمران وعدل، لا إلى فساد واستغلال. ويُراد له أن يكون شريكاً في صنع الحضارة لا تابعاً لها، وقائداً للتقدم لا أسيراً لمغرياته.

 

---

القيم الاقتصادية في جوهر الإسلام

يظن البعض أنّ الإسلام يقف عند حدود الوعظ الروحي، غير أنّ نصوصه المؤسسة رسمت معالم نظام اقتصادي عميق يوازن بين الإنتاج والعدالة:

الملكية الفردية مكفولة، لكنها ليست مطلقة، إذ تُقيَّد بحق المجتمع وتُحمَّل بالمسؤولية.

الزكاة والصدقات آلية إلزامية لإعادة توزيع الثروة وتقليل الفوارق الطبقية.

تحريم الربا والاحتكار ليس تعسفًا، بل حماية للاقتصاد من التضخم الوهمي والجشع المنفلت.

تشجيع العمل والإنتاج قيمة أصيلة؛ إذ قال الرسول ﷺ: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكفّ بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه".

 

هذه المبادئ تجعل الاقتصاد في خدمة الإنسان، لا العكس، وتحفظ التوازن بين الكفاءة والعدالة. وقد أثبت التاريخ أن المجتمعات التي طبّقت هذه القيم – ولو جزئياً – شهدت استقراراً اجتماعياً وتماسكاً داخلياً رغم التحديات.

 

---

الإسلام والحضارة العلمية

لم يكن صعود الحضارة الإسلامية مصادفة، بل انعكاسًا مباشرًا لرؤية الإسلام التي تحرر العقل من الوهم وتدعو إلى النظر في الكون باعتباره كتابًا مفتوحًا.

فمن الخوارزمي واضع أسس الجبر، إلى ابن الهيثم مؤسس المنهج التجريبي في البصريات، مرورًا بـ الرازي رائد الطب الإكلينيكي، قامت نهضة علمية جمعت بين البحث العقلي والروح الإيمانية. لم يعرف تاريخ الإنسانية فترة ازدهر فيها العلم والاقتصاد جنبًا إلى جنب كما عرف في عصور بغداد وقرطبة ودمشق والقاهرة، حيث اجتمع الفقه مع الفلسفة، والطب مع الفلك، والتجارة مع العدالة الاجتماعية.

ولأن هذه النهضة لم تكن مجرد تراكم معرفي، بل كانت مشروعاً أخلاقياً أيضاً، فإن العلوم خدمت الإنسان ولم تتحول إلى أدوات دمار كما حدث في عصور لاحقة.

 

---

التحدي المعاصر: كيف نستعيد المعنى؟

اليوم يواجه العالم أزمات اقتصادية وأخلاقية متشابكة: فجوة متسعة بين الأغنياء والفقراء، أنظمة مالية هشة، وانحسار القيم الإنسانية أمام طغيان المادية. في هذا السياق، يبرز الإسلام لا كشعارٍ سياسي أو خطابٍ دعوي، بل كمشروع إصلاحي شامل يقدم بدائل واقعية:

اقتصاد منتج قائم على العدالة.

تنمية تراعي الإنسان والبيئة.

روح توازن بين التقدم العلمي والبعد الأخلاقي.

 

إن استعادة هذه الرؤية ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة حضارية حتى لا يتحول التقدم التقني إلى عبء على الإنسان بدلاً من خدمته.

 

---

كلمة أخيرة

الإسلام ليس مجرد ماضٍ مجيد يُستدعى في كتب التاريخ، بل رؤية مستقبلية صالحة لعصر الذكاء الاصطناعي وثورات الاقتصاد الرقمي. إنه يدعو الإنسان إلى أن يكون خالقًا للنهضة لا أسيرًا لها، وأن يجعل المال وسيلة لا غاية، والعلم نورًا لا سلاحًا، والحضارة جسرًا نحو العدالة لا أداةً للاستغلال.

ويبقى السؤال مفتوحًا: هل نملك الشجاعة لفهم الإسلام كما هو، لا كما صُوّر لنا، وتحويله من شعار إلى مشروع حضاري حي؟

 

 

 

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

1

followings

1

followings

1

similar articles