بين يقين القيامة وسراب الوعود: ألا نفيق؟
بين يقين القيامة وسراب الوعود:
ألا نفيق؟
خطوات الشيطان: من همسة إلى هاوية
عجيبةٌ هي النفس البشرية، تتأرجح بين نور العقل وظلمة الهوى. نعلم يقيناً أن النار تحرق، فلا نلمس الجمر بأيدينا، لكننا نعلم يقيناً أن الذنب يُهلك، ومع ذلك نلقي بأرواحنا في لهيب المعصية ببرود عجيب.
إنها الحكاية القديمة المتجددة، حكاية "العدو المُبين" الذي أقسم بعزة الله ليغوينا، فصدقناه وهو الكذوب، وتبعناه وهو العدو، ونسينا عهد الله إلينا.
___________________________
بين همسات الخداع ويقين الزلزلة
سراب "هم" وحقيقة “نحن”
لماذا نسمح للكبرياء أن يعتلي عروش قلوبنا، ونحن نوقن يقيناً لا يخالطه شك بأن الأرض يوماً ما ﴿زُلْزِلَتْ زِلْزَالَهَا﴾؟
هذا السؤال ليس مجرد عتاب عابر، بل هو جرس إنذار يقرع في صدري كلما طرقت سمعي آيات الوعيد. إنها مأساة النفس البشرية؛ نعلم أن القيامة آتية، ومع ذلك نصرُّ على المعصية ببرودٍ عجيب، وكأننا ضمنا الخلود في دنيا فانية.
------------------
فالقلب البشري معرض للوساوس، والعقل معرض للخداع، والروح معرضة للنسيان. هنا يطرق إبليس أبوابنا، يهمس لنا بكلمات رقيقة ظاهرياً، لكنها سمٌ يسري في دمائنا: "سأغويهم وأجعلهم يظنون المعصية بلا حساب".
وهو كاذب في كل وعده، مخادع في كل وسوسة، يعرف نقاط ضعفنا، فيغتنم صغائر ذنوبنا ويجعلها جبالًا شامخات تمنعنا من العودة إلى طريق الحق.
___________________________
الخديعة الكبرى: “هذه ليست لي”
لعلَّ أعظم حيل الشيطان التي انطلت علينا هي "الاستثناء الوهمي،الطمأنينة الكاذبة". حين نقرأ القرآن، ونمر على آيات الوعيد، وقصص المكذبين، وذكر إبليس وأتباعه، يهمس لنا الغرور: "هذه للكفار.. للمشركين الأوائل.. لمن لا يؤمن بالدين". ونبرئ أنفسنا من كل تهمة ، نسينا – وا حسرتاه – أن الشيطان قد اتخذ من صغائر ذنوبنا جبالاً شامخات.
نسينا أن الآيات نزلت لتوقظ فينا نحن الخوف من الزلل.
إنه يأتيك في صورة الناصح، يعدك بالسعادة في المعصية، ويعدك بالتوبة "غداً"، ولكنه في الحقيقة يجرك بحبل الأمل الكاذب. ذنبٌ صغير، فآخر أصغر، حتى تتكون "رواسي" من الخطايا تحجب النور عن القلب، فيصدق فينا قول الحق: ﴿كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.[المطففين:14]
_____________________
فتنة التيه والحيرة
إنها الفتنة العمياء؛ كم مرة نبادر بالإصلاح ونعاهد أنفسنا على التوبة، لكن سرعان ما تتبدد عزيمتنا؟ نسمع عن الفتن، عن قصص من انغمس فيها وسقط،وفي المقابل نرى من تاب عنها ونجا .فتختلط الأمور، ونقف حائرين غير مدركين أي الطريقين هو الصحيح ، فلا ندرك الصواب، وتتقاذفنا أمواج الهوى.
هنا تبدأ الفتنة: ذنب صغير يتلوه آخر، نلحق الذنب بالذنب،حتى تتراكم الجبال في قلبك، وتصبح العودة إلى دار الحق صعبة بعد التيه الطويل.
- الفتنة لا تظهر إلا بعد الخلوة، بعد القبائح، بعد أن ننسى أن من يرانا لا يغفل عن شيء: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [التغابن:2]
________________________
العهد القديم والوعد المشؤوم
هل تذكر حين وقف إبليس متحدياً ومقسماً؟ لقد كان صريحاً في عداوته حين قال:
﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَن أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 17].
هو يأتيك في صورة الناصح، يهمس لك أن الله غفور رحيم لينسيك أنه شديد العقاب، يزين لك اللذة العابرة ويخفي عنك حسرة الخاتمة. هو يعدك بالسعادة في المعصية، ويعدك بالوقت الطويل للتوبة، ولكنه في الحقيقة يجرُّك بحبل الأمل الكاذب إلى حافة الهاوية.
________________________
في خلوة الليل: درسٌ من “عُثمان”
في لحظة صدق، وفي جوف الليل حيث ينام البشر وتبقى عين الله يقظة، تذكرتُ حياء ذي النورين "عثمان بن عفان" رضي الله عنه، ذلك الرجل الذي قال فيه رسولنا:
"ألا أستحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة".
كم تمنيتُ خجلاً يشبه خجله، وكم ناديتُ مولاي بذلك الاحساس في جوف الليل يبنما الناس نيام.
“فالحياء ليس كلمة، بل حالٌ يورث انكسارًا بين يدي الله.”
وحدتي كانت فرصة لتذكر الحق، فحين أمسكت المسبحة وذكرت ربي، قررتُ أن أطبق "مقام الإحسان" - أن تعبد الله كأنك تراه -
جاءني الخجل، حتى ضحكت من نفسي، من محاولتي إخفاء ذاتي عنه، لكنه مازال يراني حاضرًا في كل مكان وفي كل لحظة.
فبادرتُ أبحث عن زاوية أخفي فيها ذاتي. ولكن، يا لهول الموقف! وجدتني أتصرف كطفلةٍ ساذجة تحاول إخفاء وجهها بكفيها، تظن أن لا أحد يراها وهي تحت السماء المكشوفة.
حين أذكر ذاك الموقف، لا أعلم هل أضحك أم أبكي! ضحكتُ من سذاجتي؛ ظللتُ أبحث عن مكان أخفي به ذاتي فلم أجد، وكيف أجد والله ﴿أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾؟
وبكيتُ؛ لأنني أدركتُ حينها معنى المعصية الحقيقي.
نحن نظن المعصية فقط في الكبائر، ونسينا أن العصيان قد يكون في نظرة، في كلمة سوء، في عقوق لوالدَين، أو في ظلم لشخص لم تكتَرِث له، لكنه عند الله عظيم.
- كيف ننسى الإحسان؟ وكيف ننسى أن الله ينظر إلينا في خلواتنا قبل جلواتنا؟
_____________________
حين تسقط الأقنعة: خطبة إبليس .
تخيل معي الآن، وقد انتهت الخلوة، وانقضت الدنيا، وقامت القيامة. ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾. [ق:22]
في ذلك اليوم، تسقط الوعود الكاذبة،يزول "الخداع"، وتتلاشى "الهمسات" ، وترى النار التي كنت تظنها بعيدة رأي العين.
وهناك، في مشهد يخلع القلوب، يقف إبليس الذي صدقناه طوال حياتنا، لا ليدافع عنا، بل ليتبرأ منا ليزيدنا حسرة، يخطب في أهل النار خطبته الشهيرة المرعبة:
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم..﴾ [إبراهيم: 22].
في لحظة الصدق الأخيرة تلك، تتجمد الدماء في العروق؛ لقد كان العقد هو “ الخسارة الأبدية، بثمن اللذة الفانية.”
سراب الوعود
يا لها من صدمة تزلزل الكيان! "فلا تلوموني ولوموا أنفسكم". هنا يدرك العاصي أنه باع جنة عرضها السماوات والأرض بوعود كاذبة من عدو لا يملك له ضراً ولا نفعاً.
___________________________
الطريق إلى اليقظة: رسالة لإيقاظ النيام
• يا أيها السائرون في دروب الغفلة، نحن في زمنٍ كثرت فيه الظلال، وتشابهت فيه السبل، وخوت القلوب إلا من رحم ربي.
• هنا والآن، يجب التوبة والإصرار. وحيث أن "الكل نيام"، فإن المسؤولية تقع على من استيقظ قلبه ولو قليلاً. يجب أن نوقظ من يحمل "نوماً خفيفاً"، لنذهب معاً إلى الصلاة، لنعود إلى الله، لعلنا باجتماعنا وكثرتنا نحدث ضجيجاً إيمانياً يوقظُ من أثقلته الذنوب وغرق في "عمق المنام".
دعونا نفر من الله إليه، قبل أن يأتي يومٌ:
﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾. [الزلزلة:8]
• ويا أيها السائر في دروب الوهم، يا من تعلم أن القيامة حق وأن الموت يأتي بغتة.. ألم يحن الوقت لتكذيب "الوسواس" وتصديق "الخالق"؟
إن إبليس يريد لك الشقاء، والله يريد لك الجنة. إبليس يعدك الفقر والفحشاء، والله يعدك مغفرة منه وفضلاً. فلا تجعل آيات العذاب تمر عليك مرور الكرام ظناً أنها لغيرك، "فربما تكون أنت المقصود بالإنذار لتعود"
الطريق لا يزال مفتوحاً، والباب لم يغلق بعد. اكسر قيود الشيطان بدمعة ندم، وعد إلى الله قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خلال، يوم يقول فيه الظالم: ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾.
"وبعد هذا كله، دعونا نتأمل ما وقفت عليه عيني يوماً في إحدى إستطلاعاتي ، وهي كلمات تلامس شغاف القلب،
تقول:
------------------
فقط تخيل!!…
أنت الان في جنة الفردوس ،في رفقة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قضي على الموت ، وجمعت بأهلك وأحبابك ،رأيت الانبياء والصحابة والحور العين، هذا قصرك وهؤلا خدمك، ولك ماشاءت نفسك أو اشتهت، وهذا يوم زيارتك لله عز وجل .
-----------------
يا الله! أيُّ شعورٍ هذا؟! أن تنتهي الحياة الدنيا بآلامها و وعثائها، أن تُطوى صفحات القيامة برعبها وشدتها، أن تختفي الآلام وتتلاشى الابتلاءات إلى الأبد!
لقد وصلنا اليوم إلى بيتنا الحقيقي الذي وُعِدنا به، وانقضت ضيافتنا القصيرة في الأرض، ضيافة لم تكن سوى بضع سنين شقينا فيها أو صبرنا.
انظر حولك! لا نصبَ بعد اليوم ولا تعب، لا دمع ولا حزن، لا خوف ولا وداع. كل وعيدٍ زال، وكل وعدٍ قد تحقق.
فهل تذكر الآن أيام غفلتك؟ هل تذكر تلك المعصية التي كادت أن تحرمك هذه النعمة الأبدية؟ إنها مجرد وهم تلاشى، وبقي لك الأنس والنعيم الخالد. احمد الله الذي دلك على بابه، وأعانك على مجاهدة نفسك، حتى أنلتَ هذا المقام الذي لا يفنى!
_____________ _______________ _______________
“إنها معركة الوعي واليقين. لن ننجو بالصراخ أو العتاب، بل بـ 'فِرار' حقيقي من الذنب إلى التوبة. فكلما شعرت أنك غارق، تذكر خطبة إبليس، وتذكر حياء عثمان، وتذكر أن نهاية هذا الطريق ليست تراباً، بل هي " إما جنة الفردوس… وإما حسرة لا نهاية لها.”
《 فاللهم أيقظ قلوبنا من رقدة الغفلة، وارزقنا حياءً كحياء عثمان، وتوبةً قبل الموت، ونجاةً يوم الزلزلة》.
فهل من توبة تمحو ما سلف؟ وهل من عودة قبل أن يُطوى الكتاب؟
“والسلام على قلوبٍ لا تزال تبحث عن الله.”
.....♡♡..…