
"بلال بن رباح.. المؤذن الأول وصوت التوحيد"
بلال بن رباح.. من العبودية إلى نور الإسلام
كان بلال بن رباح رضي الله عنه عبداً حبشياً في مكة، أسود البشرة، ضعيف الجسد في أعين الناس، لكنه في الحقيقة كان قوي الإيمان عظيم القلب. كان يعمل عند أمية بن خلف، أحد كبار زعماء قريش وأشدهم عداوة للإسلام.
حينما بعث الله نبيه محمد ﷺ برسالة التوحيد، بدأ بلال يسمع كلمات القرآن تتردد بين المؤمنين في مكة، فتأثر قلبه بنور الإيمان، خاصةً وأنه كان يرى ظلم قريش وعبادتهم للأصنام التي لا تسمع ولا تبصر. ومع الأيام شرح الله صدره للإسلام، فذهب خفيةً إلى النبي ﷺ وأعلن إسلامه، فكان من أوائل السابقين إلى الهداية.
لكن خبر إسلامه لم يمرّ بسلام، فقد علم أمية بن خلف بما فعل بلال، فاشتد غضبه، وبدأ رحلة تعذيب طويلة له. أراد أن يرده عن الإسلام بالقوة، فكان يأخذه في حرّ الظهيرة، ويطرحه على الرمال الملتهبة، ثم يضع فوق صدره حجارة ضخمة حتى يكاد يختنق. ويصرخ فيه قائلاً: “أكفر بمحمد وارجع إلى عبادة اللات والعزى!”
لكن بلالاً كان ثابتًا، ولسانه لا ينطق إلا بكلمة واحدة خالدة: "أحدٌ.. أحد".
كان يقصد أن الله واحد لا شريك له، وأنه لن يعبد إلا الله، مهما كان العذاب. هذه الكلمة البسيطة رجّت قلوب المشركين وأغضبتهم، لأنهم كانوا يتوقعون أن يصرخ أو يستسلم، لكنه ازداد قوةً وثباتًا.
ولم يكتفوا بوضع الحجارة، بل كانوا يجرّونه في طرق مكة، ويعذبونه بالسياط، والناس ينظرون إليه متعجبين: ما الذي يجعل عبدًا ضعيفًا يصبر على كل هذا العذاب؟ كان الجواب في قلب بلال: إنه الإيمان بالله.
وذات يوم مرّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه على بلال وهو يعذب، فلم يملك قلبه الصادق أن يرى هذا المشهد المؤلم. فذهب إلى أمية بن خلف وقال له: "ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ إلى متى تعذبه هكذا؟" فقال أمية ساخرًا: "أنت الذي أفسدته، فإن شئت فأنقذه". فعرض أبو بكر أن يشتريه، فوافق أمية لكنه بالغ في الثمن، ومع ذلك دفع أبو بكر المال واشترى بلالاً، ثم أعتقه في سبيل الله.
ومن يومها أصبح بلال بن رباح حرًا، يعيش مع النبي ﷺ والمسلمين، وقد رفعه الإسلام من عبد مملوك إلى سيد كريم في ميزان الله.
بعد الهجرة إلى المدينة، اختاره النبي ﷺ ليكون أول مؤذن في الإسلام، لما كان في صوته من جمال ورهبة. فصار بلال يرفع الأذان خمس مرات في اليوم، صوته يصدح في سماء المدينة: "الله أكبر.. الله أكبر"، فيسمعه المؤمنون فيزدادون إيمانًا، ويسمعه المنافقون والمشركون فتضيق صدورهم.
ولم ينس بلال يوم الفتح الأعظم، حين دخل النبي ﷺ مكة منصورًا بعد سنوات من الأذى. صعد بلال إلى ظهر الكعبة، ورفع الأذان فوقها لأول مرة، ليعلن أن مكة التي كانت معقل الأصنام صارت بيتًا للتوحيد. وكان هذا المشهد من أعظم الانتصارات للإسلام ولبلال نفسه، الذي عُذّب في طرقات مكة من أجل كلمة "أحد".
أما مكانته عند النبي ﷺ، فقد كانت عظيمة، حتى قال له يومًا:
"يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك في الجنة".
فقال بلال: "ما عملت شيئًا أرجى عندي من أني ما توضأت وضوءًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الوضوء ما كتب لي أن أصلي".
فنال بلال بهذا شرفًا عظيمًا، وبشارة بالجنة من فم النبي ﷺ.
وبعد وفاة الرسول ﷺ، لم يستطع بلال أن يؤذن، فقد كان كلما نطق بـ "أشهد أن محمدًا رسول الله" تنهمر دموعه، فيبكي ويبكي من حوله. وظل يعيش بعد ذلك زاهدًا في الدنيا، حتى توفي رضي الله عنه، ودُفن في بلاد الشام