قصة الشفاء من جراح الطفولة

قصة الشفاء من جراح الطفولة

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

قصة الشفاء من جراح الطفولة 

في إحدى المدن الهادئة، عاشت فتاة تُدعى مريم. كانت مريم تبدو للناس فتاة قوية وهادئة، لكن في أعماق قلبها كانت تحمل جروحاً قديمة خلفتها طفولة مليئة بالحرمان والخوف. لم يكن بيتها ذلك المكان الدافئ الذي يُفترض أن يجد فيه الطفل الأمان، بل كان مليئاً بالصراخ والخصام، وأحياناً باللامبالاة.

كبرت مريم وهي تشعر أن شيئاً بداخلها قد انكسر منذ زمن بعيد. كانت ترى زميلاتها في المدرسة يتحدثن عن حب أمهاتهن أو عطف آبائهن، فتبتسم بخجل وتحاول أن تغيّر الموضوع، كي لا ينكشف فراغها العاطفي. لم تكن كلمات القسوة التي سمعتها في صغرها تذوب بسهولة، بل ظلت محفورة في ذاكرتها كأنها وُشمت بالنار.

ومع مرور الأيام، بدأت تدرك أن جراح الماضي أصبحت تؤثر في حاضرها: صعوبة في الثقة بالآخرين، خوف من الفقد، ودموع تسقط في ليل طويل لا يراها فيه أحد. كانت تقول في نفسها:
"لماذا يا الله؟ لماذا خلقتني في هذا المكان؟ لماذا لم أولد في بيتٍ آخر؟"

لكن في ليلة من الليالي، جلست مريم وحدها تقلب صفحات المصحف الذي ورثته عن جدتها. توقفت عند قوله تعالى:
﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ۝ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 137-138].

توقفت طويلاً عند كلمة موعظة. شعرت أن القرآن يخاطبها هي، كأن الله يضع بين يديها دواءً لجرحها. ومنذ ذلك اليوم، بدأت رحلة جديدة نحو التشافي.


 خطوات نحو الشفاء

أول ما فعلته مريم أنها رفعت يديها إلى السماء وقالت:
"اللهم إني أسألك أن تشفي قلبي من كل ما جرحه، وأن تعوضني خيراً مما فقدت، وأن تجعلني قوية بك وحدك."

لم يكن الأمر سهلاً، فذكريات الطفولة كانت تعود أحياناً لتثقل صدرها. لكنها تذكرت قول النبي ﷺ:
"ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همٍّ ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفّر الله بها من خطاياه." [رواه البخاري ومسلم].

بدأت تفهم أن تلك الجراح لم تكن لعنة، بل كانت وسيلة لتمحيصها ورفع درجتها عند الله إن هي صبرت واحتسبت.


 قوة التسامح

مرت الأيام، ومريم تتعلم شيئاً فشيئاً كيف تغفر لمن جرحها. لم يكن سهلاً أن تسامح والديها على قسوتهم، لكن قلبها تذكر قوله تعالى:
﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134].

فقالت في نفسها: "إذا كان الله يحب العافين، فسأعفو لوجهه لا لأجلهم."

وبين ليلة وضحاها، شعرت بخفة في صدرها لم تعرفها من قبل، كأن أثقالاً كانت على قلبها ورفعت فجأة. عرفت حينها أن التسامح لا يعني إنكار الألم، بل يعني تحرير النفس من أسر الماضي.


 بناء حياة جديدة

مع مرور الوقت، بدأت مريم تكتب في دفترها: "أنا لست جروحي. أنا ابنة اليوم، والله هو ولي أمري."
انخرطت في حلقات تحفيظ القرآن، وهناك وجدت أخوات في الله يحيطنها بالحب والرحمة. شعرت لأول مرة أن الأسرة لا تعني فقط رابطة الدم، بل قد يصنعها الإيمان والصدق.

كما بدأت في مساعدة الأطفال الأيتام في أحد المراكز الخيرية. كانت ترى فيهم انعكاساً لطفولتها، فتمد لهم يد العطف التي كانت تتمناها لنفسها. وكلما رأت ابتسامة على وجوههم، أدركت أن الله أخرج من ألمها رسالة، ومن جرحها دواءً لغيرها.


 لحظة السكينة

في إحدى الليالي، جلست مريم تصلي قيام الليل. دموعها تنزل بلا توقف، لكنها كانت دموع طمأنينة هذه المرة. رفعت رأسها نحو السماء وقالت:
"يا الله، شكراً لأنك لم تتركني. كنت معي في ضعفي، وهديتني إلى نورك. أشهدك أني راضية، وأن الماضي لن يقيدني بعد الآن."

وأحست فعلاً بالمعنى العميق لقوله تعالى:
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].


 العبرة 

قصة مريم تعلمنا أن جراح الطفولة مهما كانت عميقة، فإن الشفاء ممكن إذا لجأنا إلى الله بصدق، وواجهنا ألمنا بالإيمان والصبر. وأن المغفرة والتسامح طريق للتحرر الداخلي، وأن أجمل ما نصنعه هو تحويل معاناتنا إلى رسالة أمل ورحمة لغيرنا.

فالماضي لا يُمحى، لكنه لا يجب أن يكون سجناً لنا، بل درساً يفتح لنا أبواب المستقبل. ومن كان مع الله، فلن يضيّعه الله أبداً.

خاتمة 

هكذا أدركت مريم أن الماضي مهما كان مؤلماً لا يملك أن يحكم مستقبلها ما دامت قد جعلت الله ملاذها. تعلمت أن جراح الطفولة قد تكون بداية لطريق يقود إلى الله، وأن التسامح والعفو يحرران الروح من قيودها. لقد وجدت في ذكر الله سكينتها، وفي خدمة الآخرين رسالتها، فعاشت بقلب مطمئن، ولسان شاكر، ونفس مؤمنة أن الشفاء الحقيقي لا يكون إلا بين يدي الرحمن الرحيم.

image about قصة الشفاء من جراح الطفولة
التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

23

متابعهم

11

متابعهم

4

مقالات مشابة
-