أم المؤمنين سودة.. الهِبة التي أحيت سنة

أم المؤمنين سودة.. الهِبة التي أحيت سنة

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

الخاتمة الحزينة والقلب الرحب

image about أم المؤمنين سودة.. الهِبة التي أحيت سنة

كان بيت النبي محمد ﷺ في مكة، بعد رحيل السيدة خديجة - رضي الله عنها - أشبه بسماء خالية من نجومها الباهرة. لقد كانت أم المؤمنين الأولى رفيقة الدرب، والمُعين على الشدائد، والسكن الذي يلوذ به من حروب الضلال وسُخف الجاهلية. فمن يا ترى يمكن أن تملأ مكانها؟

أتتها سودة بنت زمعة، الأرملة التي جاوزت الخامسة والثلاثين، لتقدم نفسها للرسول الكريم. قالت له بلغة الصدق التي تُبنى عليها البيوت العظيمة: "يا رسول الله، قد قَدَمتُ على ما لا يخفاك من السن، وإنما أريد أن أُبعث في عِدَاد أزواجك يوم القيامة". كان قلبها أكبر من دنياها، وهمها أعلى من حطام الحياة. تزوجها النبي ﷺ، فأصبحت بيتاً للراحة، ومرفأً للصدر الرحب بعد عناء الدعوة.

الهَبة التي أضاءت السماء

ثم جاءت الخطبة النبوية للصديقة عائشة بنت الصديق، التي كانت لا تزال طفلة في السادسة من عمرها، تنتظر أن تبلغ لتكتمل فرحة الزواج. وهنا حدث المشهد الذي ينم عن سمو النفس، ويُدرك به أن الإسلام لا يبني القصور من الذهب، بل من الأخلاق التي ترقى فوق نوازع النفس الأمارة بالسوء.

جاءت سودة إلى رسول الله ﷺ، وفي عينيها بريق الحكمة التي لا تعرف الحسد، وقالت له كلمات هي من أصفى ما نطق به لسان امرأة في التاريخ: "يا رسول الله، قد وهبت يومي وليلتي لعائشة". أرادت - رضي الله عنها - أن تتخلى عن حقها الشرعي في القسم الذي لكل زوجة من نساء النبي، لتجعل السيدة عائشة تتمتع بليلة إضافية مع رسول الله. لم تطلب مالاً، ولم تبتغِ شهرة، بل كانت هدية خالصة لوجه الله ولإسعاد قلب النبي الشاب الذي أحبه الرسول حباً جمّاً.

وافق النبي ﷺ على هذه الهبة، فكانت سابقة في تاريخ التشريع الإسلامي، وأصبح هذا الفعل سنة تُتبع. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا فعلت سودة ذلك؟ لعل الأجدر بنا أن نقول: كيف لا تفعل ذلك وهي التي رأت في رسول الله ﷺ نوراً يغمر الكون كله، فكيف تبخل عليه بساعة من ساعات عمرها؟

حكمة المرأة التي رأت ما لم يَره الشباب

لطالما صور الأدباء حكمة الشيخوخة على أنها حكمة يأس وتخلي عن ملذات الحياة، لكن سودة قدمت نموذجاً مختلفاً تماماً. لقد كانت حكمتها حكمة عطاء لا حرمان، وتضحية لا أنانية، ورؤية للمصلحة العليا التي تتجاوز شهوة النفس. لقد أدركت أن قلب النبي ﷺ يميل إلى عائشة، فرأت في هذا الميل رحمة إلهية وليست منافسة شخصية.

لقد علمت سودة أن الدنيا فانية، وأن البقاء في ذاكرة الرسول وقلبه خيرٌ من بقاء الليل والنهار. كانت ترى بعين البصيرة ما لا تراه العين المجردة، فوهبت الليلة وحازت محبة أبدية. لقد جعلت من نفسها جسراً للرحمة بين بيت النبوة وقلب الرسول الشاب، فكانت بذلك أمّاً حقيقية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

سودة.. المرأة التي علمتنا أن العطاء انتصار

كم من أناس يظنون أن الامتلاك هو القوة، وأن الاحتفاظ بالحقوق هو الذكاء! لكن سودة بنت زمعة علمتنا أن أعظم القوة هي في القدرة على العطاء، وأن أبلغ الذكاء هو في رؤية الخير الأعم الذي قد يخفى على كثير من الناس.

كانت سودة - رضي الله عنها - امرأة عادية في ظاهرها، لكنها كانت عظيمة في باطنها. لم تلد للنبي ﷺ أولاداً، لكنها ولدت معنىً جديداً للحب والتضحية. لم تترك كتباً تُدرس، لكنها كتبت بفعلها درساً في الإيثار لن ينساه التاريخ. لقد كانت "أم المؤمنين" ليس بالاسم فقط، بل بالفعل والخلق والسلوك.

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
omar تقييم 0 من 5.
المقالات

5

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.