المحنة: عندما يصبح الجسد حجّة

لننظر إلى الأمر بعين الفيلسوف الذي يبحث عن المعنى الكامن وراء الحدث: لم تكن "محنة خلق القرآن" في عهد المأمون ثم المعتصم مجرد نزاع لاهوتي، بل كانت في صميمها أزمة سلطة. أرادت الدولة العباسية، في سعيها لترسيخ شرعيتها الفكرية على النمط اليوناني العقلي، أن تفرض تفسيراً واحداً للعقيدة: أن القرآن مخلوق. هنا يتحول السؤال الديني إلى أداة سياسية. والإمام أحمد لم يُجلَد ويُسحب في الأسواق ويعتقل لسنوات لأنه رفض رأياً فقهياً فحسب، بل لأنه رفض أن يكون الدين تابعاً للدولة، والإيمان خاضعاً لأهواء السلطان.
تأمل معي هذه الصورة: رجل نحيل الجسد، قوي الإرادة، مقيد في السلاسل، يواجه جهازاً دولة ضخماً يسنده فلاسفة ومتكلمون. أليس هذا هو جوهر الصراع الأزلي بين حرية الضمير وقهر السلطة؟ لقد حوّل الإمام أحمد جسده إلى "حجة" مشتقة، إلى برهانٍ حي. كل ضربة سوط لم تكن ألماً فقط، بل كانت كلمةً في رسالة واضحة: "الحق لا يُقاس بقوة من يسنده، بل بثبات من يحمله".
وصل الأمر إلى اللحظة الفاصلة. وقف الإمام وحيداً في ساحة الامتحان الكبرى، بين يدي الخليفة المعتصم وحوله القادة والجنود والعلماء المأجورون. العقل السياسي يقول: كلمة واحدة تطلقها شفتاك، "القرآن مخلوق"، فتنال حريتك وموقعك وربما منصبك. لكن العقل الإيماني الأعمق يقول: إنها ليست كلمة، بل هي مبدأ الوجود. اللفظ سيصبح واقعاً، والتنازل سيكون سابقة تذيب كل ثوابت الأمة. فصبر وصمت وتحمل.
الصمود: تشريح نفسي لقوة الرفض
ما الذي يعطى إنساناً هذه القوة غير المعهودة؟ هنا يجب أن نبحث في تكوين الإمام أحمد النفسي والفكري. لقد كان فقيهاً جمع بين منهجين: منهج الناقل الأمين للسنة بكل دقتها، ومنهج العاقل الذي يزن الأمور بميزان المصلحة والواقع. لم يكن رفضه مجرد رد فعل تقليدي، بل كان موقفاً عقلانياً مدروساً. كان يدرك أن القبول بفكرة "خلق القرآن"، وإن بدت لبعضهم مسألة لفظية، سيفتح باباً لا يُسد: تأويل النصوص كلها وفق أهواء الحكام المتعاقبين. ستصبح العقيدة مرنة إلى درجة الانكسار، ويصبح الدين لعبة في أيدي الأمراء.
لذا، كان صموده دفاعاً عن العقلانية ذاتها في مواجهة العقلانية الزائفة التي تلبس ثوب الفلسفة لتخدم الاستبداد. كان يقول بأفعاله: "هناك خط أحمر لا يجوز للعقل تجاوزه، وهو النص القطعي". هذا الموقف جعله ليس بطلاً شعبياً فحسب، بل رمزاً للاستقلال الفكري للأمة. الناس التي تئن تحت وطأة السلطة رأت فيه تجسيداً لرفضها الصامت، فتحولت محنته إلى ملحمة جماعية.
التراث: من المحنة إلى المدرسة
لن نكون مبالغين إذا قلنا إن المذهب الحنبلي وُلد من رحم تلك المحنة. لم تكن أفكار الإمام مجرد آراء فقهية مدونة، بل كانت خلاصة تجربة إنسانية عالية الشحن. الصبر الذي اكتسبه في السجون أصبح منهجاً في التعامل مع النصوص: التريث والتحري ورفض الاستعجال. المعاناة التي عاشها جعلته أقرب إلى هموم العامة ومشاكلهم الواقعية، فتميز فقهه بالوضوح والبساطة والتشدد في حقوق الناس مقابل التسامح في حقوق الله.
انظر إلى إرثه: لم ينتصر بجيش، ولم يأسس دولة، لكنه أسس مدرسة فكرية وأخلاقية امتدت عبر القرون. تلاميذه مثل الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم كانوا امتداداً لذلك الروح المقاوم للانحراف والمدافع عن العقيدة الصافية. حتى يومنا هذا، فإن كل من يقف في وجه محاولات تذويب الثوابت أو استغلال الدين، يستمد – واعياً أو غير واعٍ – شيئاً من روح أحمد بن حنبل ذلك اليوم في ساحة الامتحان.
خاتمة فلسفية: محنة الإمام أحمد تذكرنا أن أعظم انتصارات الفكر لا تحدث في قاعات الدرس فقط، بل تحدث أحياناً في ساحات العذاب. وأن الحقيقة، عندما يتشبع بها الإنسان حتى تصبح جزءاً من كيانه البيولوجي، تصير سلاحاً لا تقهره السيوف. لقد كان انتصار الإمام انتصاراً للمعنى على القوة، وللزمن الطويل على اللحظة العابرة.