حفيد قيصر: الصحابي الذي اشترى الجنة بقلبه

الفاتر في ظل القياصرة: النشأة والبحث
لم يُولد صهيب بن سنان الرومي – رضي الله عنه – في أحضان الحرية، بل في قيود الإمبراطورية التي لا تعرف إلا لغة السيف والصليب. نشأ في قصور القياصرة، حيث تُصنع العبودية بأفخر أنواع الحرير وأثقل أنواع السلاسل. كان عبداً رومياً، بجسده الأشقر وعينيه الزرقاوين، لكن روحه كانت تبحث عن سيدٍ غير قيصر، وعبادةٍ لا تكون للأوثان ولا للطغاة. كان قلبه كطائر حبيس في قفص من ذهب، يغني أغنية لا يفهمها سواه، أغنية التوحيد التي ورثها من أصل عربي نزح أهله إلى أرض الروم.
وهكذا، تشكلت شخصية صهيب من تناقضين: مظهر الرومي الأبيض، وجوهر العربي التواق للحرية. لم تكن حريته التي يسعى إليها مجرد انعتاق من عبودية البشر، بل كانت رحلة للوصول إلى عبودية القلب لله وحده. كان يُبصر في فلسفة الروم فراغاً، وفي قوتهم ظلماً، وفي ثروتهم فقراً معنوياً يملأ القصور ويخلي القلوب.
اللقاء المصيري: نور في ظلام مكة
عندما وصل صهيب إلى مكة، بعد محطات من العذاب والتجارة، كانت المدينة تعج بأصنام أكثر مما تعج بالناس. ولكن بين تلك الصخور البكماء، سمع صهيب همسة جديدة، كلمة "الله" تُذكر بلا شرك، و"الرسول" يُبعث بلا ملك. لقد سمع عن محمد ﷺ، ابن عبد الله، الذي جاء بدين إبراهيم الحنيف.
كان لقاء صهيب بالنبي ﷺ لقاء النور بالشمس. لم يكن يحتاج إلى براهين معقدة أو حجج فلسفية؛ فالحقيقة عندما تظهر، تكون بسيطة كالنسيم، واضحة كالشمس في رابعة النهار. لقد رأى في وجه محمد ﷺ صدق الأنبياء، وفي كلماته عدل الحكام، وفي سلوكه رحمة الآباء. فأسلم في دار الأرقم، وأصبح أحد السابقين الأولين، يخفي إيمانه كما يخفي الجائع لقمة الخبز، خوفاً من بطش قريش التي لا تقبل منافساً لدين آبائها.
الفرار الكبير: الهجرة والثمن
لما أمر الله نبيّه بالهجرة إلى المدينة، هاجر المسلمون أرسالاً. وكان صهيب قد هيأ نفسه للرحيل، لكن عيون قريش كانت ترقبه، تعلم مكانته وماله. أرادوا منعه، فجمع كل ثروته – الذهب والفضة والسلع – وحملها معه، كأنه يشتري بها حريته.
وفي الطريق، لحق به فرسان قريش، وقالوا له كلماتهم المشهورة: "جئتنا صعلوكاً فاغتنيت، والآن تريد أن تذهب بمالك ونفسك؟! والله لا يكون ذلك!" فوقف صهيب، وكانت اللحظة الفاصلة في حياته. نظر إليهم نظرة العارف بقيمة الأشياء، وقال كلمته التي دوت في وادي التاريخ: "أرأيتم إن تركت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟" قالوا: نعم.
فأشار إلى مكان كنزه مخبأً بين الصخور، وقال: "فهو لكم". استولوا على كل شيء، وتركوه يذهب. لقد باع دنياه كلها بثمن واحد: أن يلحق برسول الله ﷺ.
اللقاء في قباء: أجمل صفقة
عندما وصل صهيب إلى قباء، منهكاً جائعاً، كان النبي ﷺ جالساً مع أبي بكر الصديق. فلما رأى النبي ﷺ صهيباً مقبلاً، ابتسم ذلك الابتسامة التي تشرق منها أنوار القبول، وقال لأبي بكر: "ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع!" وكانت هذه الكلمات هي الجائزة الحقيقية. لقد ربح صهيب ما لا تساويه كنوز الأرض جميعاً: رضا الله ورسوله، ومكانة الصحبة.
سأله الصحابة بعد ذلك: "يا صهيب، ربحت البيع؟" (يعنون أن قريش أخذت ماله)، فقال بكلمات تحمل فلسفة المؤمن الحق: "والله ما خسرت، لقد اشتريت رضا ربي ورسوله، وما شيء أخاف بعده فقراً أبداً". لقد فهم أن الفقر الحقيقي هو فقر القلب من الإيمان، لا فقر الجيب من الدرهم.
الإرث: جوهر الحرية
لم يكن صهيب الرومي مجرد صحابي أسلم، بل كان رمزاً للحرية الحقيقية. لقد علمنا أن الحرية ليست في امتلاك المال، بل في التحرر من سلطته على القلب. وأن الإيمان هو الصفقة الرابحة التي لا خسارة بعدها. كان – رضي الله عنه – يجسد قول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) [البقرة: 207].
عاش صهيب زاهداً في ما فقد، شاكراً لما وجد، وكان من أحب الصحابة إلى رسول الله ﷺ. توفي في المدينة، حاملاً معه إلى ربه شهادة من نبيه أنه "من السابقين الأولين". لقد باع ذهب الدنيا واشترى ذهب الآخرة، وباع حرية الجسد واشترى حرية الروح.