لقاء تحت الشجرة: قصة الفارسي الذي غيّر مجرى الإسلام

المقدمة: الظمأ الذي لا ترويه آبار فارس
لم يكن سلمان الفارسي – رضي الله عنه – يبحث عن كنزٍ من ذهبٍ أو مجدٍ عابرٍ حين خرج من قصر أبيه الثري في "جيّ" بفارس. كان قلبه يعتلج بأسئلةٍ كالبراكين: من خلق هذا الكون البديع؟ وما الغاية من هذه الحياة؟ لقد شرب من كل معارف الفرس، وقرأ نبوءات المجوس، وتأمل في نار المعابد حتى خبا جمرها في صدره، فلم يجد فيها إلا رماداً. ظمأ روحاني لم تَسْكُهُ فلسفة اليونان ولا طقوس الفرس. هكذا بدأت رحلته التي قادته – بعد شقاء طويل – إلى أرض العرب، عبداً مُباعاً، لكنه حرّ القلب، ينتظر بشائر النبي الأخير الذي قرأ عنها في الكتب المقدسة.
اللقاء المصيري: تحت ظل النخلة
وفي يومٍ قائظ من أيام المدينة النبوية، بينما كان سلمان يعمل عند سيده اليهودي، وصلت إليه أنباء مبعث رجلٍ في مكة يدعو إلى دين جديد. فما كان منه إلا أن ادخر شيئاً من تمره، وخرج يبحث عن الحقيقة. وهناك، عند مشارف المدينة، رأى منظراً لن ينساه ما حيي.
رأى رسول الله ﷺ وهو يغرس شجرة نخيل بيده الكريمة، وحوله أصحابه يعملون. اقترب سلمان حاملاً معه ذلك الصداق المتواضع – حفنة من التمر – وقدمه إليه قائلاً: "تصدق بهذا". فأخذ النبي ﷺ التمر، ووزعه على جميع الحاضرين، ولم يبْقَ منه تمرة واحدة، لكن ابتسامته بقيت. ثم جاء رجلٌ فقير يسأل، فما كان لدى النبي شيء يعطيه، فقال للصحابة: "من يضيف هذا الرجل؟". فنهض سلمان – الذي كان ما يزال غريباً – وقال: "أنا يا رسول الله".
في تلك الليلة، تحت سماء مرصعة بالنجوم، وفي بيت متواضع، جلس سلمان مع ضيفه. نظر سلمان إلى جبين رسول الله ﷺ يلمع في ضوء القنديل، فكأنه رأى الخاتم الذي قرأ عنه في كتب الأحبار. هنا، انكسر حاجز الشك، وانهارت سنوات الترحال. سأل سلمان: أتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله؟ فأجاب النبي ﷺ: "نعم". فانهمرت دموع سلمان، دموع فرحٍ بعد طول انتظار، ودماء جروحٍ بعد سنين الشقاء. قال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله".
الفداء: من العبودية إلى الحرية الحقيقية
لكن العقبة كانت ما تزال قائمة: سلمان كان عبداً. وعندما علم النبي ﷺ بأمره، قال له تلك الكلمات التي غيرت مجرى التاريخ: "كاتب يا سلمان". أي اتفق مع سيدك على مبلغ تعتق به نفسك. وافق سيده اليهودي على أن يغرس سلمان له ثلاثمائة نخلة، ويقدم له أربعين أوقية من الذهب.
هنا، حدثت المعجزة الثانية. جاء النبي ﷺ بنفسه، وغرس مع سلمان تلك النخلات بيديه الشريفتين. ويحلف سلمان فيما بعد: "ما ماتت منها واحدة". أما الذهب، فقد جاءت كنوز الله من حيث لا يحتسب: بعث رسول الله ﷺ إلى سلمان بكرة من ذهب من غنائم إحدى المعارك، وقال: "أدّ يا سلمان". فأوفى دينه، وعتق.
الإرث: حكمة الفارسي في حصن المسلمين
لم يكن تحرر سلمان مجرد خلاص لرجل، بل كان فتحاً للإسلام. ففي معربة الخندق، عندما حاصرت جيوش الأحزاب المدينة، تذكر سلمان تقنية الحفر التي رآها في بلاد فارس. ووقف أمام النبي ﷺ يقترح فكرة حفر الخندق. نظر الصحابة – وهم أبناء الصحراء – إلى الفكرة باستغراب: "ما هذا يا سلمان؟ هذا شيء ما عرفه العرب". لكن النبي ﷺ، الحكيم الذي يعرف قيمة الحكمة وجدت، قال: "سلمان منا أهل البيت". وأمر بالحفر.
وها هو الخندق يُحفر، وتتغير استراتيجية الحرب في الجزيرة العربية للأبد. كان سلمان، بحكمته الفارسية وقلبه العربي الإسلامي، جسراً بين الحضارات، وبرهاناً على أن الإسلام لا يلغي الحكمة، بل يهذبها ويوجهها.
خاتمة الكاتب:
لقد كانت قصة سلمان الفارسي – كما أراها – أكثر من قصة اعتناق دين. لقد كانت إثباتاً على أن القلب الباحث عن الحقيقة، مهما بعدت به الدروب، فإن الله سيهديه إلى نوره. وأن الأمة التي تستوعب حكمة السلمان، وتحتضن إخلاصه، هي الأمة التي تستحق أن تحمل رسالة الإسلام إلى العالمين.