معركة حطين الكبرى
معركة حطين
بناء الوحدة الإسلامية
توفي نور الدين محمود، وترك خلفه ولداً صغيراً لم يتجاوز عمره الحادية عشرة، مما أدى إلى نشوب صراع بين الأمراء حول من سيتولى وصاية الأمير الصغير. وقد انحلت الدولة النورية، في حين كان صلاح الدين يراقب الأوضاع في الشام من مصر، منتظراً الفرصة المناسبة لتوحيد الصف الإسلامي. ولم يمض وقت طويل قبل أن تصل إليه دعوة من أمراء دمشق لتولي قيادتها، فتوجه إليها على الفور، وحظي باستقبال حافل من قبل السكان، حيث استلم المدينة وقلعتها في سنة (570هـ = 1174م). بعد ذلك، توجه إلى حمص واستولى عليها، ثم انتقل إلى حماة وضمت أيضاً إلى دولته، وأصبح الآن بالقرب من حلب، وحاول فتحها لكنها كانت منيعة عليه بعدما استغاث قادتها بالصليبيين، لذا تركها في قلبه أمل بالعودة مرة أخرى، ولكن تأخرت عودته لمدة ثماني سنوات حتى تمكن من فتحها وضمها في (18 من صفر 579هـ = 12 من يونيه 1183م). وكانت سيطرة صلاح الدين على حلب والمناطق المحيطة بها خطوة كبيرة نحو تشكيل جبهة إسلامية موحدة، التي أصبحت تحت قيادته تمتد من جبال طوروس في الشمال إلى بلاد النوبة في الجنوب.
لم يتبق لصلاح الدين لتحقيق الوحدة سوى مدينة الموصل، فقام بمحاصرتها عدة مرات، حتى تم التوصل إلى اتفاق بعد أن سعى لذلك والي الموصل "عز الدين مسعود"، قبل أن يصبح جزءًا من صلاح الدين، وتم الاتفاق على ذلك في شهر صفر من عام (582 هـ = 1186 م).
جبهة الصليبيين
خلال الفترة التي كان صلاح الدين يسعى فيها لإعادة إحياء الدولة الإسلامية الموحدة، استعداداً لجهاده الذي خطط له لطرد الصليبيين، أبرم اتفاقية هدنة معهم مدتها أربع سنوات، لكي يتمكن من الانشغال بتنظيم دولته وإصلاح أوضاعها الداخلية بشكل كامل.
لكن أرناط، حاكم الكرك، تصرف بتهور ورفض أن يترك الصليبيين يستفيدون من هذه الهدنة. حيث قام بعمل غير محسوب أدى إلى نقض الهدنة واشتعلت الحرب، مستولياً على قافلة تجارية كانت في طريقها من مصر إلى دمشق، وقام بخطف حراسها ورجالها، واحتجزهم كأسرى في قلعة الكرك.
حاول صلاح الدين أن يتحلى بالصبر، فأرسل رسالة إلى أرناط يعبر فيها عن استيائه من تصرفاته، مهدداً إياه إن لم يعيد أموال القافلة ويطلق سراح الأسرى. بدلاً من أن يأخذ أرناط الأمر بجدية، رد بشكل مهين مبتهجاً بقوته، وأجاب رسل صلاح الدين قائلاً: "قولا لمحمد يحرركم".
عندما حاول ملك بيت المقدس التدخل لتعديل الوضع، أصر أرناط على موقفه، ورفض إعادة أموال القافلة وإطلاق الأسرى، مما زاد من تعقيد الموقف، ولم يكن أمام صلاح الدين خيار سوى الاعتماد على الحرب والانتقام.
مقدمات معركة حطين
عبّر صلاح الدين عن استعداده التام لمواجهة الصليبيين واستعد للقيام بمعركة الجهاد العظيمة التي كان يخطط لها منذ عشر سنوات في انتظار اللحظة المناسبة لتنفيذ مثل هذا العمل. وكانت سياسة أرناط المتهورة بمثابة حجة ظاهرة أثارت حماس صلاح الدين وأججت رغبته في إعلان الحرب على الصليبيين.
في محرم عام 583 هـ (مارس 1187م)، انطلقت قوات صلاح الدين المجمعة من مصر وحلب والجزيرة وديار بكر من مدينة دمشق، متجهة نحو حصن الكرك، حيث قامت بحصاره وتدمير حقوله، ثم توجهت إلى الشوبك لتفعل الأمر نفسه، وبعد ذلك ذهبت إلى بانياس القريبة من طبرية لمراقبة الوضع.
في الوقت نفسه، اجتمعت القوات الصليبية تحت قيادة الملك من بيت المقدس في مدينة صفورية، وانضمت إليهم قوات ريموند الثالث أمير طرابلس، متجاهلاً الهدنة التي كانت تربطه بصلاح الدين، مفضلاً دعم قومه، رغم الخلافات المتأججة بينه وبين ملك بيت المقدس.
كان صلاح الدين يأمل في إجبار الصليبيين على التقدم نحوه، ليواجههم وهم منهكون في حين يكون قد حافظ على قوته وقوة رجاله. ولم يكن هناك سبيل لتحقيق ذلك سوى مهاجمة طبرية، التي كانت زوجة ريموند الثالث تتواجد في حصنها. تصاعد الغضب بين الصليبيين، وعقدوا اجتماعاً لمناقشة الأمر، ونتج عن ذلك انقسام الحاضرين إلى فريقين: أحدهما رأى الحاجة للتقدم نحو طبرية لمهاجمة صلاح الدين، بينما اعتبر الآخر أن ذلك مخاطرًا بسبب صعوبة الطريق ونقص الماء. وكان يقود هذا الرأي ريموند الثالث، حيث كانت زوجته محاصرة. ومع ذلك، اتهم أرناط ريموند بالجبن والخوف من مواجهة المسلمين، مما جعل الملك يقتنع بضرورة التقدم نحو طبرية.
موقعة معركة حطين
بدأت القوات الصليبية تقدمها في ظروف شديدة الصعوبة في (21 من ربيع الآخر 583هـ = 1 من يوليو 1187م)، حيث كانت أشعة الشمس تضرب وجوههم، وكانوا يعانون من نقص المياه وصعوبة الطريق الذي يمتد حوالي 27 كيلومتراً. في تلك الأثناء، كان صلاح الدين وجيشه يتمتعان بمصادر مائية وفيرة وظلال واسعة، وكانوا يتهياون لما سيأتي. وعندما بلغ صلاح الدين نبأ تقدم الصليبيين، تحرك مع جنوده مسافة تسعة كيلومترات ووقف على الجهة الغربية من طبرية قرب بلدة حطين.
وصل الصليبيون إلى قمة جبل طبرية التي تطل على سهل حطين في (23 من ربيع الآخر 583هـ = 3 من يوليو 1187م)، وهي منطقة تشبه الهضبة ترتفع عن مستوى سطح البحر بأكثر من 300 متر، وتحتوي على قمتين تذكّران القرنين، وهو ما أدى بالعرب إلى تسميتها "قرون حطين".
حرص صلاح الدين على منع الصليبيين من الوصول إلى المياه في وقت تزايد فيه عطشهم، بينما أضرم المسلمون النيران في الأعشاب والأشواك التي تغطي الهضبة. وكانت الرياح تعطر الأجواء بنارهم ودخانهم، مما جعل الصليبيين يقضون ليلة سيئة يعانون فيها من العطش والإرهاق، واستمعوا إلى تكبيرات المسلمين وتهليلهم التي كانت تشق سكون الليل، مما أشاع الرعب في نفوسهم.
صباح معركة حطين
عندما سطعت شمس يوم السبت، الذي يوافق 24 ربيع الآخر 583هـ أو 4 يوليو 1187م، لاحظ الصليبيون أن صلاح الدين استغل ظلمة الليل ليقوم بتطويقهم، وبدأ هجومه العنيف، حيث عملت سيوف جيشه في أعدائهم من الصليبيين، مما أدى إلى اختلال صفوفهم، بينما حاول الناجون إيجاد مأوى في جبل حطين، لكنه تم تطويقهم من قبل المسلمين، وكلما تراجعوا نحو قمة الجبل، زاد الضغط عليهم، إلى أن تبقى منهم ملك بيت المقدس مع مائة وخمسين فارساً، وتم إحضارهم إلى خيمة صلاح الدين، حيث كان برفقتهم أرناط صاحب حصن الكرك وغيرهم من القادة الصليبيين، وجّه صلاح الدين إليهم استقبالاً حاراً، وقدّم لهم الماء المثلج، لكنه لم يعط أرناط أي شيء، وعندما شرب ملك بيت المقدس، أعطى ما تبقى له من الماء إلى أرناط، مما أغضب صلاح الدين، فقال: "هذا الملعون لم يحصل على الماء بإذني ليذهب إلى رغباته". ثم تحدث إليه، مذكراً إياه بجرائمه ومعاتباً إياه على ذنوبه، ثم قام بقتله، قائلاً: "لقد نذرت مرتين أن أقتله إذا أتيحت لي الفرصة: الأولى عندما أراد الذهاب إلى مكة والمدينة، والثانية عندما غدر بقافلة وسلبها".
نتائج معركة حطين
لم تكن هزيمة الصليبيين في معركة حطين مجرد هزيمة عادية، بل كانت فاجعة كبرى لهم؛ حيث فقدوا أفضل فرسانهم، وقتل منهم عدد كبير، وتم أسر مثل هذا العدد، حتى قيل إن من رأى القتلى قال: لا يوجد أسرى، ومن شاهد الأسرى قال: لا يوجد قتلى.
وبعد معركة حطين، أصبحت فلسطين تحت سيطرة صلاح الدين، فبدأ في فتح المدن والبلاد والثغور الصليبية واحدة تلو الأخرى، حتى أنهى جهوده بتحرير القدس في 27 من رجب 583هـ الموافق 12 من أكتوبر 1187م، ولهذا الانتصار العظيم قصة أخرى.
