جعفر بن أبى طالب مع النجاشى ملك الحبشة فى الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
وعلى آله وصحبه أجمعين…
هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة
كان النجاشى الذى يجلس على عرش الحبشة رجلاً يحمل إيماناً مستنيراًوكان فى قرارة نفسه يعتنق مسيحية صافيةً واعيةً بعيدة من الإنحراف، نائية عن التعصب والإنغلاق، وكان ذكره يسبقه وسيرته العادلة تنشر عبيرها فى كل مكان تبلغه.
من أجل هذا إختار النبى صلى الله عليه وسلم بلاده دار هجره لإصحابه، ومن أجل هذا خافت قريش ألا تبلغ لديه ماتريد، فحملت مبعوثيها هدايا ضخمة للأساقفة وكبار رجال الكنيسة هناك، وأوصى زعماء قريش ألا يقابلا النجاشى حتى يعطيا الهدايا للبطارقة أولاً، وحتى يقنعاهم بوجهة نظرهما، ليكونوا لهما عونا عند النجاشى.
وحط الرسولان رجالهما بالحبشة، وقابلا بها الزعماء الروحانيين كافة، ونثرا بين أديهم الهدايا التى حملاها إليهم، ثم أرسلا للنجاشى وحدد يوم يلقيان فيه النجاشى ويواجهان بين يديه خصوم قريش الذين تلاحقهم بكيدها وأذاها.
وفى وقار مهيب وتواضع جليل جلس النجاشى على كرسيه العالى تحف به الأساقفه ورجال الحاشية، وجلس أماماه فى البهو الفسيح المسلمون المهاجرون، تغشاهم سكينة الله وتظلهم رحمته، ووقف مبعوثا قريش يكرران الإتهام الذى سبق أن ردداه أمام النجاشى حين اذن لهم بمقابلة خاصة قبل هذا الإجتماع الحاشد الكبير: يا أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا فى دينك، بل جاءوا بدين إبتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم وآبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم.
جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه فى مواجهة النجاشى
وولى النجاشى وجهة شطر المسلمين ملقياً سؤاله : ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم، وإستغيتم به عن ديننا؟
وهنا نهض جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه قائماً ليؤدى المهمة التى كان المسلمون المهاجرون قد اختاروه لها إبان تشاورهم وقبل مجيئهم إلى هذا الإجتماع ، وألقى نظرات محبة على الملك الذى أحسن جوارهم وقال: يا أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتى الفواحش ونقطع الأرحام ونُسيئ الجوار ويأكل القوى منا الضعيف، حيث بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعنا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كُنا نعبدُ نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، فصدقناه وآمنا به وإتبعناه على ما جاءه من ربه، فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا، فغدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وإلى ما كُنا عليه من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك ورغبنا فى جوارك ورجونا ألا نُظلم عندك.
ألقى جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه بهذه الكلمات المسفرة كضوء الفجر، فملأت نفس النجاشى إحساساً وروعة وألتفت إلى جعفر رصى الله عنه وسأله: هل معك مما أُنزل على رسولكم شيئ؟
قال جعفر رضى الله عنه :نعم
قال النجاشى : فأقرأة على…
ومضى جعفر يتلو آيات من سورة مريم فى أداء عذب وخشوع آسر فبكى النجاشى وبكى معه أساقفة جميعاً.
ولما كفكف دموعه ألتفت إلى مبعوثى قريش :إن هذا والذى جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحده … إنطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما .
عمرو بن العاص يُحدث فتنة بين النجاشى والمسلمين
وأنفض الجمع ولكن عمرو بن العاص مبعوث قريش فى الجاهلية ذهب يفكر ويُدبر وقال لزميله: والله لأرجعن للنجاشى غداً ولآتينه عنهم بما يستأصل خضراءهم.
وأجابه صاحبه :لا تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا.
قال عمرو بن العاص: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد كبقية العباد.
وفى الغداة طلب مقابلة الملك وقال له عمرو بن عاص: أيها الملك إنهم يقولون فى عيسى قولاً عظيماً.
وأضطرب الأساقفة وأهتاجتهم هذه العبارة القصيرة، ونادوا بدعوة المسلمين لسؤالهم عن موقف دينهم من المسيح، علم المسلمون بالمؤامرة الجديدة، ثم أتفقوا على أن يقولوا الحق الذى سمعوه من نبيهم عليه الصلاة والسلام، ولا يحيدون عنه قيد شعره وليكن ما يكون.
جعفر رضى الله عنه فى مواجهة النجاشى مرة ثانية
وسأل النجاشى جعفر رضى الله عنه: ماذا تقولون فى عيسى؟
ونهض جعفر كالمنار المضيئ وقال: نقول فيه ما جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
فهتف النجاشى مصدقاً ومعلناً أن هذا هو ما قاله المسيح عن نفسه، ومضى النجاشى يتابع حديثه قائلاً للمسلمين: أذهبوا فأنتم آمنون بأرضى ومن سبكم أو آذاكم فعليه غُرمُ ما يفعل.
ثم ألتفت صوب حاشيته وقال وسبابته تشير إلى مبعوثى قريش: ردُوا عليهما هداياهُما فلا حاجة لى بها، فوالله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على مُلكى فآخذ الرشوة فيه.
وخرج المسلمون بزعامة جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه ليستأنفوا حياتهم الآمنة فى الحبشة لابثين فيها كما قالوا (بخير دار مع خير جار) حتى يأذن الله لهم بالعودة إلى رسولهم وإخوانهم وديارهم .
تمت بحمد الله وفضله