ولا تيأسوا من روح الله
حين تطول مدة الوباء، ويمتد زمن البلاء – يزداد في بعض النفوس القلقُ، وتكثر الشكاية، ويضعف التوكل، وتقل السكينة، ولربما في هذه الأجواء يملي الشيطان ويوسوس، فيدبُّ في البعض داء اليأس، ذلكم الداء الذي يبعث على الحزن والأسى، ويورِث القلقَ والهمَّ والغمَّ، اليأس الذي يسـد أبواب التفاؤل والأمل، ويغيب معه الرجاء وانتظار الفرج، اليأس الذي يقعد عن الحركة والعمل، ويفوِّت مصالح الدين والدنيا، اليأس تلك البلية الكبرى التي تُبتلَى بها بعض النفوس البشرية، حين ترد عليها المكاره والمصائب والشرور؛ كما أخبرنا بذلك ربنا في قوله: ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ﴾ [الإسراء: 83].
إن أسباب الهموم والمكدّرات في هذه الحياة كثيرة؛ ما يدعو البعض لليأس والقنوط من الفرج بعد الشدة, وزوال البلاء في مظاهر متعددة وألوان شتى، فالبعضُ ليس له شغل إلا أن يُردّد مفردات اليأس والقنوط؛ فيعيش اليأسَ في كل تصرفاته، لا يكاد يفرح بشيء، وسيطرة هذه المشاعر تُقْعد المرء عن القيام بأمورٍ نافعة كثيرة؛ لأنه حكم على نفسه بالفشل، وذبح نفسَه بسكينِ اليأس.
يقول ابن القيم - رحمه الله - : لو كشف الله الغطاء لعبده ، وأظهر له كيف يدبّر الله له أموره ، و كيف أن الله أكثر حرصًا على مصلحة العبد من العبد نفسه ، وأنه أرحم به من أمّه ، لذاب قلب العبد محبةً لله ، ولتقطع قلبه شكرًا لله .
واليأس: هو القُنوطُ وانقطاع الأمل، وإحباطٌ يصيب الروح والعقل معاً؛ فيفقد الإنسان الأمل, ويقعده عن فعل الأسباب والعمل، وهذه حالة بشرية تعتري بني آدم؛ كما قال -تعالى- واصفاً الإنسان: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ)[هود: 9].
وفي القرآن العظيم تحذير من اليأس والقنوط، سواء في أمر التوبة بين العبد وبين ربّه، أو في علاقةِ العبدِ مع أقدار الله المؤلمة، وقد وصف الله اليأس منه ومن رحمته بأنه سبب من أسباب الضلال والكفر؛ فقال -تعالى-: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف: 87]، وقال -تعالى-: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)[الحجر: 56], فاليأسُ بكل حال مَنهيٌ عنه في الإسلام، (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ)[الحجر: 55].
اليأس إساءة ظنَّ بالله -سبحانه-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 216], وسببه جهل الإنسان بربّه، وبحقيقة سُنَنِهِ في عِباده: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[الأعراف: 54].
وفي القرآن نتعلم من نبي كريم من أنبياء الله -تعالى- كيفية التعامل مع البلاء والمصائب التي نزلت به؛ إنه نبي الله يعقوب -عليه السلام-، ففي ظل الضعف وتزايد أسباب اليأس لا استسلام مع الإيمان, وحسن ظن بالله وأخذ بالأسباب، فقَدَ يوسف زمنا، لكنه ثبت وتجلد وأمر أبناءه بالبحث عن يوسف وأخيه, وأنه لا يأس؛ فقال لأولاده لما أبلغوه فقد ابنه الثاني: (يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف: 87].
اليأس من الأمل في فرج الله ورحمته لا يفعله إلا الكافرون بالله, أما المؤمنون فإنهم يأملون في رحمة الله وفرجه في أشد لحظات المصيبة, وقلوبهم مملؤة باليقين، وكما قال يعقوب عندما جاءه البشير: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[يوسف: 96].٠
ولا ييأس مُذنبٌ وهو يسمع هذا النداء الذي يَسري إلى القلب من الرب الرحيم: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53], ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "لو يعلم المؤمنُ ما عند الله من العقوبة؛ ما طمع في جنته أحدٌ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة؛ ما قنط من رحمته أحد"(رواه مسلم).
أي: لو يعلم المؤمن الذي وجبت له الجنة ما عند الله من العقوبة ومن العذاب وما أعد لأهل النار فيها، ما طمع في جنة الله عز وجل، بل لتمنى أن ينجو من النار ومن العذاب، حتى وإن لم يدخل الجنة.
والكافر لو عرف ما عند الله من رحمة ما قنط من جنته، ولكن الكافر لا جنة له إلا أن يتوب ويدخل في دين الله تبارك وتعالى
وحين تأخّر الوحي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال المشركون: "ودَّعَه ربٌّهُ وقلاه"؛ أي: تركه؛ فأنزل الله سورة الضحى تسلية لنبيه -صلى الله عليه وسلم-, وتذكيره بقديم إحسانه عليه فيما سلف من حياته العادية, فهل من المعقول أن يتركه في أوقات الشدّة والكرب؟!.
وفي سيرته -صلى الله عليه وسلم- يجد المتأمل ما يُدهشه من حاله في كل أحواله، بل في أشدّ الأزمات لا تُسمعُ منه كلمة يأسٍ أو قنوط؛ ففي الغار والمشركون على مقربة منه قال أبوبكر الصديق -رضي الله عنه-: "لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا؛ فيقول الواثق المستيقن بربه: "ما ظنك باثنين الله ثالهما!".
ولما كانت بعض النفوس مشحونة في صلح الحديبية بسبب الشروط التي كانت في ظاهرها غبناً للمسلمين, وجاء سهيل بن عمرو عن المشركين، قال -صلى الله عليه وسلم-: "سَهُل لكم من أمركم"(رواه البخاري)؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يعجبه الفأل, ولسان الحال: وماذا يصنع اليأسُ إلا القعود وشماتة العدو والحاسد؟! وماذا يفعل الفأل في النفوس إلا الانطلاق في فسحة الحياة الرحْبة، والعمل المثمر الجاد؟!.
وفي غزوة أُحُد، أُشيعَ أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قُتِل؛ فتزلزلت النفوس، وخمدت الهِمَم؛ فأنزل الله عتابه وتحذيره للمؤمنين بقوله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[آل عمران: 144].
وقد نهى -صلى الله عليه وسلم- عن تمني الموت بسبب البلاء؛ فقال: "لا يتمنين أحدكم الموت لضرر أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا؛ فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي"(رواه البخاري ومسلم).
إن معرفة الله -تعالى- بأسمائه وصفاته هي أعظم دواء لليأس، وكلما قويت المعرفة بالله والصلة به؛ كلما فرّ اليأس والقنوط من القلوب.
والمؤمن يكون بين الخوف والرجاء قال -تعالى- في مدح عباده المؤمنين: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء: 90], ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -عزَّ وجلَّ-: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني", وحسن الظن بالله ورجاء رحمته هو هدي السلف الصالح قال السفاريني: "حال السلف رجاء بلا إهمال، وخوف بلا قنوط, ولابد من حسن الظن بالله -تعالى-", ونص الإمام أحمد -رحمه الله-: "أنه ينبغي للمؤمن أن يكون رجاؤه وخوفه واحدًا؛ فأيهما غلب صاحبه هلك".
وتعلق القلب بالدنيا، والفرح بأخذها، والحزن والتأسف على فواتها، بكل ما فيها من جاه، ومال، وعافية، من أسباب اليأس، قال -تعالى-: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)[الروم: 36].
الزهد في الدنيا من أسباب دفع اليأْس والقنوط؛ فالله يعطي الدنيا لمن لا يحب ومن يحب، ولا يعطي الآخرة إلا لمن أحب، وقد منع أحب الخلق إليه، وأكرمهم عليه، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الدنيا وما فيها، اكتفى من الدنيا بالقليل فكانت عيشته كفافًا، ولقد كان يمر على أهل بيته الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة متتابعات ولا يُوقد في بيته نار, فكان يجوع يومًا, ويشبع يومًا على التمر والماء!.
والمرء لن يأخذ أكثر مما قدر له, فلا ييأس ولا يقنط لفوات شيء, وإذا أيقن المرء أنَّ كل ما حصل له هو بقضاء الله وقدره؛ استراح قلبه، ولم ييأس لفوات شيء كان يرجوه، أو لوقوع أمر كان يحذر منه، قال -تعالى-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[الحديد: 22], وكثير من الهموم والمكدرات التي قيّدتْ بعضَ الناس هي ذاتها أصابت آخرين، ولكنها لم تُقعِدهم؛ بل انطلقوا في فسحة الحياة، ومشوا في مناكبِ الأرض، وهزموا اليأسَ بالتوكل على الله، وذبحوه بحسن الظن، والفأل الجميل، وفعلوا ما بوُسْعِهم من أسبابٍ وعاشوا ولسان حال الواحد يقول:
وَإِنِّي لَأَرْجُو اللَّهَ حَتَّى كَأَنَّما *** أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللَّهُ صَانِعُ
ويبقى الدعاء بيقين وإلحاح على من ضاقت عليه الأسباب، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم؛ ما لم يستعجل"(رواه مسلم), فينبغي استدامة الدعاء وترك اليأْس من الإجابة، وداوم رجائهما، واستدامة الإلحاح في الدعاء؛ فإن الله يحب الملحِّين في الدعاء.
واعلموا أنّ الأمور بعواقبها وخواتيمها، وأنّ البلاء مهما طال وعلا فهو إلى زوالٍ -بإذن الله-، فاصبروا واحتسبوا وأكثروا من ذكر الله -عز وجل- والدعاء والتوسّل إليه؛ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
سيفتحُ الله باباً كنت تحسبهُ *** من شدة اليأسِ لم يُخلق بمفتاحِ
اللهم ادفع عنا البلاء ولا تجعلنا من القانطين, ولا من رحمتك آيسين، ولا تهلكنا بالسنين، وارفع البلاء عنا وعن المسلمين أجمعين.