
قيام الليل رحله إيمانيه في جوف السكون
قيام الليل: رحلة إيمانية في جوف السكون
في هدأة الليل، حين تسكن الجوارح وتنام العيون، تبقى أرواح تتوق إلى وصال مع بارئها، وقلوب تجد في مناجاته أنسها وسلواها. إنه قيام الليل، تلك العبادة الجليلة التي تمثل زادًا للمؤمن، ونورًا في قلبه، ورفعة في درجاته. هو دأب الصالحين، وتجارة المتقين، ومدرسة الإخلاص واليقين. في هذا المقال، سنبحر في رحاب هذه العبادة العظيمة، نستجلي فضلها، ونتعرف على كيفيتها، ونستلهم من أحوال السلف الصالحين في إحيائهم ليلهم، ونختم بأدعية تلامس أبواب السماء في تلك الأوقات المباركة.
تعريف قيام الليل وحكمه
قيام الليل، بمفهومه الواسع، هو قضاء معظم الليل أو جزء منه في عبادة الله تعالى، سواء كان ذلك بالصلاة، أو تلاوة القرآن، أو الذكر، أو الدعاء، أو أي نوع من أنواع الطاعات. ويبدأ وقته من بعد صلاة العشاء ويمتد إلى طلوع الفجر. ويُطلق عليه أيضًا "التهجد" إذا كان بعد نوم.
أما عن حكمه، فقد أجمع العلماء على أن قيام الليل سنة مؤكدة، حث عليها القرآن الكريم، وواظب عليها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ورغّب فيها أمته. وقد كان في بداية الإسلام فرضًا على النبي وأصحابه لمدة عام، ثم خفف الله عنهم فجعله في حقهم تطوعًا، وبقي فضله وأجره عظيمًا.
فضل قيام الليل في القرآن والسنة
لقد وردت في فضل قيام الليل آيات قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة، تبين عظيم مكانته وجزيل ثوابه عند الله.
من القرآن الكريم:
شهادة الله لهم بالإيمان: قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (السجدة: 15-17). تصف هذه الآيات حال المؤمنين الذين يتركون فرشهم الدافئة، ويهبون لمناجاة ربهم في جوف الليل، فكان جزاؤهم من جنس عملهم، حيث أخفى الله لهم من النعيم ما تقر به أعينهم في الجنة.
صفة من صفات عباد الرحمن: قال تعالى في وصف عباده المتقين: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ (الفرقان: 64). فجعل الله من أبرز صفاتهم التي استحقوا بها فضله ورحمته، أنهم يقضون ليلهم في السجود والقيام بين يديه.
أمر مباشر للنبي صلى الله عليه وسلم: قال تعالى مخاطبًا نبيه الكريم: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ (الإسراء: 79). وفي هذا دلالة على شرف هذه العبادة، وأنها سبب لنيل "المقام المحمود"، وهو أعلى درجات الشفاعة يوم القيامة.
من السنة النبوية المطهرة:
أفضل الصلاة بعد الفريضة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة، الصلاة في جوف الليل" (رواه مسلم). فهذا الحديث يضع صلاة الليل في منزلة لا تضاهيها أي صلاة نافلة أخرى.
شرف المؤمن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس" (حسنه الألباني). فقيام الليل يورث المؤمن عزًا ورفعة في الدنيا والآخرة.
سبب لدخول الجنة: عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، كان أول شيء تكلم به أن قال: "أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" (رواه الترمذي وصححه).
كيفية صلاة قيام الليل
تتميز صلاة قيام الليل باليسر وعدم وجود كيفية محددة ملزمة، إلا أن هناك هديًا نبويًا يمكن اتباعه لنيل كمال الأجر.
عدد الركعات: ليس لقيام الليل عدد محدد من الركعات، فيمكن للمسلم أن يصلي ما شاء، قليلاً كان أو كثيرًا. ولكن الأفضل هو الاقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان غالبًا ما يصلي إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة" (متفق عليه).
صفة الصلاة: السنة في صلاة الليل أن تكون ركعتين ركعتين (مثنى مثنى)، يقرأ المصلي في كل ركعة الفاتحة وما تيسر من القرآن، ثم يسلم بعد كل ركعتين. وله أن يطيل في القراءة والركوع والسجود قدر استطاعته وخشوعه.
الوتر: من السنة أن يختم المسلم صلاة ليله بركعة الوتر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا" (متفق عليه). والوتر يمكن أن يكون ركعة واحدة، أو ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر، على أن يكون العدد فرديًا.
الجهر والإسرار بالقراءة: للمصلي أن يختار بين الجهر بالقراءة أو الإسرار بها، حسب ما يجد فيه قلبه من الخشوع والتدبر، وحسب حال من حوله. فإن كان في جهره تشويش على نائم أو مصلٍ آخر فالأولى الإسرار.
وقت قيام الليل
يبدأ وقت قيام الليل من بعد صلاة العشاء مباشرة، وينتهي بطلوع الفجر الصادق. وينقسم الليل إلى ثلاثة أثلاث:
الثلث الأول: من بعد صلاة العشاء إلى منتصف الليل.
الثلث الأوسط: من منتصف الليل إلى ما قبل الثلث الأخير.
الثلث الأخير: وهو أفضل أوقات الليل وأقربها من إجابة الدعاء.
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" (متفق عليه).
لذلك، يستحب للمسلم أن يؤخر قيامه إلى الثلث الأخير من الليل إن كان يثق من نفسه الاستيقاظ، فإن خشي ألا يقوم، فليصلِ في أول الليل قبل أن ينام.
آداب قيام الليل وأسباب معينة عليه
لتحصيل ثمرة قيام الليل على الوجه الأكمل، هناك آداب ينبغي للمسلم مراعاتها، وأسباب تعينه على هذه العبادة الشاقة على النفس.
من الآداب:
إخلاص النية لله تعالى: بأن يكون القصد من القيام هو وجه الله والدار الآخرة، لا رياء ولا سمعة.
البدء بركعتين خفيفتين: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين.
إيقاظ الأهل: من السنة أن يوقظ الرجل أهله لقيام الليل، وأن توقظ المرأة زوجها، فإن أبى أحدهما نضح في وجهه الماء، رحمة به وحرصًا على الخير له.
الدعاء عند الاستيقاظ: يستحب الدعاء بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الاستيقاظ للتهجد.
التدبر والخشوع: فليس المقصود هو كثرة الركعات بقدر ما هو حضور القلب وتدبر الآيات والتذلل بين يدي الله.
إطالة القيام: من السنة إطالة القيام والقراءة والركوع والسجود، فكلما طال وقوف العبد بين يدي ربه، زاد قربه منه.
الدعاء في السجود: فإنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فينبغي الإكثار من الدعاء بخيري الدنيا والآخرة.
من الأسباب المعينة على قيام الليل:
الاستعانة بالله: فما نال أحد طاعة إلا بعون الله.
معرفة فضله وأجره: فمن علم عظيم الثواب، هانت عليه مشقة العمل.
التبكير في النوم: والقيلولة في النهار، فإنها تعين على القيام في الليل.
تجنب كثرة الأكل والشرب قبل النوم: فإنها من أسباب ثقل البدن والكسل عن الطاعة.
البعد عن المعاصي والذنوب: فإنها تحرم العبد من لذة المناجاة والتوفيق للطاعة. قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد، إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ فقال: "قيدتك ذنوبك".
محبة الله والشوق إليه: فمن أحب الله، أحب الخلوة به ومناجاته.
من أحوال السلف مع قيام الليل
لقد كان السلف الصالح، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، يجدون في قيام الليل راحتهم ولذتهم، حتى أصبحت لهم عادة لا يتركونها، وسجيتهم التي يعرفون بها.
النبي محمد صلى الله عليه وسلم: كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه الشريفتان، ولما سألته عائشة رضي الله عنها عن ذلك وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟".
عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان له من الليل حظه، فإذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة وهو يقول لهم: "الصلاة الصلاة"، ويتلو قوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾.
الفضيل بن عياض رحمه الله: كان يقول: "إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم مكبل، كبلتك خطيئتك".
الحسن البصري رحمه الله: كان يقول: "ما وجدت شيئًا من العبادة أشد من الصلاة في جوف الليل". فقيل له: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهًا؟ قال: "لأنهم خلوا بالرحمن، فألبسهم من نوره".
كانت هذه نماذج يسيرة من تعلق القوم بقيام الليل، الذي كان لهم بمثابة الروح للجسد، والنور للقلب.
أدعية جامعة من كنوز قيام الليل
إن وقت السحر، والثلث الأخير من الليل، هو وقت التنزل الإلهي، ووقت فتح أبواب السماء، وإجابة الدعوات. ومن الأدعية المأثورة والجامعة التي يحسن بالمسلم أن يدعو بها في قيامه:
دعاء الاستفتاح: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ".
دعاء جامع للخير: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قَلْبِي، وَتَجْمَعُ بِهَا شَمْلِي، وَتَلُمُّ بِهَا شَعَثِي، وَتَرُدُّ بِهَا أُلْفَتِي، وَتُصْلِحُ بِهَا دِينِي، وَتَحْفَظُ بِهَا غَائِبِي، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي، وَتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي، وَتُبَيِّضُ بِهَا وَجْهِي، وَتُلْهِمُنِي بِهَا رُشْدِي، وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ".
دعاء الكرب والهم: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم".
وختامًا، فإن قيام الليل مدرسة تربوية متكاملة، يتربى فيها المسلم على الإخلاص، والصبر، والمجاهدة، والتعلق بالله وحده. وهو فرصة سانحة للخلوة مع المحبوب، وبث الشكوى إليه، وطلب الحاجات منه. فمن أراد رفعة الدرجات، وتكفير السيئات، ونور الوجه، وصلاح القلب، وسعة الرزق، فليلزم محراب الليل، وليقف بباب الملك الذي لا يغلق بابه، ولا يرد سائله. نسأل الله أن يجعلنا من أهل القيام، وأن يرزقنا لذة مناجاته في الأسحار.