ها أقبل الشتاء
مقدمة
الحمد لله الذي جعل في تعاقب الفصول عبرةً لأولي الألباب، وفضّل بعضها على بعض في المنافع والحكم. ومن تلك الفصول فصل الشتاء،
ومن هذه الحكم تلك الأحكام الفقهية المرتبطة بالبرد والظروف المناخية، مثل التيمم والمسح على الخفين والرخص في الجمع بين الصلوات عند الحاجة وغيرها.
سأتناول فيما يلى
بعض المسائل الذي تحدث عنها أهل العلم
ومنها
أحكام التيمم
جواز التيمم: بدل الغسل أو الوضوء بسبب شدة البرد لقول عمرو بن العاص رضي الله عنه :” احتلمتُ في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلِكَ، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي ﷺ، فقال: يا عمرو، أصليتَ بأصحابك وأنت جُنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله عز وجل يقول: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، فضحِك رسول الله ﷺ ولم يقل شيئًا« رواه أبو داود (334)
أحكام المسح على الخفين والجورب
المسح على الخفين والجوربين هو رُخْصَةٌ وسُنَّةٌ فعلها النبي ﷺ وفعلها أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم- وقال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: إذا توضأ أحدكم، فلبس خفيه؛ فليمسح عليهما وقال فيما رواه مسلم في الصحيح عن علي : يمسح المقيم يومًا وليلة، والمسافر ثلاثًا بلياليها
شخنا ابن باز رحمه الله
الجمع فى المطر
لا حرج في الجمع بين المغرب والعشاء ولا بين الظهر والعصر في أصح قولي العلماء للمطر الذي يشق معه الخروج إلى المساجد، وهكذا الدحض والسيول الجارية في الأسواق لما في ذلك من المشقة. والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ جمع في المدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء زاد مسلم في روايته: من غير خوف ولا مطر ولا سفر شخنا ابن باز رحمه الله
حال النبىﷺ عند هبوب الرياح
عَنْ أَبي المُنْذِرِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هذِهِ الرِّيحِ، وخَيْرِ مَا فِيهَا، وخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وشرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ رواه الترمذي وقَالَ: حَديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عنْهَا قَالَتْ:
ما رَأَيْتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضَاحِكًا حتَّى أَرَى منه لَهَوَاتِهِ، إنَّما كانَ يَتَبَسَّمُ، قالَتْ: وكانَ إذَا رَأَى غَيْمًا أوْ رِيحًا عُرِفَ في وجْهِهِ، قالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أنْ يَكونَ فيه المَطَرُ، وأَرَاكَ إذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ في وجْهِكَ الكَرَاهيةُ؟! فَقالَ: يا عَائِشَةُ، ما يُؤْمِنِّي أنْ يَكونَ فيه عَذَابٌ؟ عُذِّبَ قَوْمٌ بالرِّيحِ، وقدْ رَأَى قَوْمٌ العَذَابَ، فَقالوا: هذا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا.
صحيح البخاري
هدى النبى عند نزول المطر
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: "أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَطَرٌ، قَالَ: «فَحَسَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَهُ، حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ»، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى»".
رواه مسلم
الدعاء عند نزول المطر
جاء في حديث حسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة: اطلبوا إجابة الدعاء عند التقاء الجيوش وإقامة الصلاة ونزول المطر.
وقال شخنا ابن باز رحمه الله
إذا سمع الرعد يقول: سبحان من سبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته جاء هذا عن الزبير وعن بعض السلف، فإذا قال المؤمن ذلك فحسن.
أما عند نزول المطر فيقول: اللهم صيبًا نافعًا مطرنا بفضل الله ورحمته هكذا جاءت الأحاديث عن الرسول ﷺ
الشتاء عند السلف
يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام”
ولهذا سمى أبو هريرة الصوم فيه بـــــ”الغنيمة الباردة” وكان رضي الله عنه يقول: ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى فيقول: الصيام في الشتاء”
ومعنى كونها غنيمة باردة كما قال الحافظ ابن رجب: إنها غنيمة حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقة، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفواً صفواً بغير كلفة
وكان عطاء الخرساني ينادي أصحابه بالليل يا فلان ويا فلان ويا فلان قوموا فتوضئوا وصلوا، فقيام هذا الليل وصيام هذا النهار أهون من شرب الصديد ومقطعات الحديد غدا في النار
وكان بعض السلف: يكسو نحو ألف نفس من الفقراء في الشتاء.
وكان الليث يطعم الناس في الشتاء الهرايس بعسل النحل وسمن البقر؛ تاريخ دمشق ( ص٢١/ ٢٥٢).
وفى الشتاء أيات .. تأمل
أولًا: نعمة نزول الماء من السماء
في فصل الشتاء؛
قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الروم: 24].
قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - أي: ومن آياته أن ينزل عليكم المطر الذي تحيا به البلاد والعباد، ويُريكم قبل نزوله مقدماته من الرعد والبرق الذي يُخَاف ويُطْمَع فيه.
ثانيًا: تذكير العباد بنعمة اللباس
الذي يقي الجسم برد الشتاء وشكرها
، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [النحل: 5].
قال الإمام البغوي - رحمه الله تعالى - في تفسيره على هذه الآية: قوله تعالى: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ﴾؛ يعني الإبل والبقر والغنم، ﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ﴾؛ يعني: من أوبارها وأشعارها وأصوافها ملابسَ ولحفًا تستدفؤون بها؛ انتهى.
ثالثًا: تذكَّر نعمة البيوت
وما فيها من الدفء ووسائل الدفء من الأغطية والماء الدافئ والمدافئ التي تكون من النار وغيرها؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴾ [النحل: 80].
رابعًا: في حال شدة البرد يتذكر العبد عذابَ الله
ومنه الزمهرير، وهذا شعور يحمله على تقوى الله وخشيته، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ)؛ رواه البخاري ومسلم.
خامسا: يتذكَّر العبد المؤمن حال إخوانه
من الفقراء والمساكين والمشردين، ويُحس إحساسَهم ويشعر بهم في هذا الجو البارد، ويقدِّم لهم ما يستطيع، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10].
• وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)؛ رواه مسلم.
سادسا: تضاعف الأجر والثواب بالمشقة الحاصلة بأداء بعض العبادات في الشتاء.
ومن ذلك إسباغ الوضوء على المكاره:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ)؛ رواه مسلم
سابعا وبها أختم
وصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشتوية:
فهذه الوصية قد ذكرها ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في لطائف المعارف، فقال: وروى ابن المبارك عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حضر الشتاء تعاهَدهم وكتب لهم بالوصية: إن الشتاء قد حضر، وهو عدو، فتأهبوا له أُهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا؛ فإن البرد عدو سريع دخوله بعيد خروجه؛ لطائف المعارف (ص ٣٧٦).