
التربية رسالة عميقة وعهد وثيق
التربية ليستْ مجردَ تعليمٍ للأبناءِ كيف يعيشون، بل هي فنّ بناءِ النفوس، وتهذيبِ القلوب، وصقلِ الأرواح.
رسالةٌ عميقةٌ، وعهدٌ وثيقٌ بينكم وبينَ اللهِ الذي استودعكم هذه الأمانة.
(كلكم راعٍ وكلُّ مسؤولٍ عن رعيته).
فكلُّ كلمةٍ تتلفَّظون بها، وكلُّ تصرُّفٍ يصدرُ عنكم، هو بمثابةِ نقشٍ على لوحةٍ بيضاءَ تُشكِّل عمقَ شخصيةِ أبنائكم ومستقبلهم.
والعاقلُ هو مَن يختارُ بحكمةٍ كيفَ سيكونُ هذا النقش: هل سيكونُ أثرًا من صلابةٍ وحبٍّ وتحمُّلٍ للمسؤوليةِ يدوم، أمْ ندبةً من جرحٍ لا يُمحى، بل وفي عمقِه هزيمةٌ كبرى؟
أيها الوالدان،
تذكَّروا أنَّ الأبناءَ صفحةٌ بيضاءُ يخطُّ عليها المُربِّي حروفًا تبقى، وصورةً تظلُّ حاضرةً في ذاكرتِهم إلى الأبد.
فأيَّ حرفٍ تريدُ أن تكتب؟!
فالحروفُ الراقيةُ التي تتميَّزُ بالصدقِ وحُسنِ الخُلُق وحبِّ المواجهةِ الحكيمةِ لا الهروبِ الهزيل، أصحابُها ينشؤونَ على الطمأنينةِ والثقة. أمّا الحروفُ القاسيةُ المؤلمة، التي تَمتلئُ بالسبِّ والانتقاصِ أو المواجهاتِ الغاضبةِ بغيرِ حكمةٍ ولا تَمهُّل، فإنَّ أصحابَها لديهم قلوبٌ مُثقلةٌ بالألم، تتخبَّطُ في طُرُقِ الحياةِ بلا هدى.
والنهجُ الوسطيُّ هو النهجُ النبويُّ، وقد قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
“ما كان الرفقُ في شيءٍ إلّا زانَه، وما نُزِعَ من شيءٍ إلّا شانَه.”
فبالرِّفقِ تزهرُ القلوب، وبالقسوةِ تذبلُ الأرواح.
إنَّ القلوبَ الصغيرةَ التي بينَ أيديكم أمانةٌ عظيمةٌ، فإنْ أنرتُموها بالحبِّ والاستقامة، استنارتْ حياتُهم، وإنْ أطفأتُموها بالغضبِ والاعوجاج، خيَّمَ عليها الظلام.
إنَّ كلَّ لحظةِ غضبٍ تدفعُكم إلى القسوةِ “المتكررة” على أبنائِكم هي لحظةٌ تزرعونَ فيها خوفًا في قلوبِهم وشَقًّا في أفئدتِهم. فبعدها، أيَّ نتيجةٍ تنتظرون؟!
وتأمَّلوا ما قال اللهُ تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ…} [التحريم: 6].
فحمايةُ أبنائِكم ليستْ فقط من الأخطارِ الدنيوية، بل من الانحرافاتِ النفسيةِ والسلوكيةِ التي قد يكونُ العنفُ والظلمُ أولَ شراراتِها.
ضعوا هذه النصيحةَ نصبَ أعينكم:
إنَّ الأبناءَ الذين يُربَّوْنَ بالحبِّ والتفهُّمِ وتحمُّلِ المسؤوليةِ والجِديةِ ينشؤونَ أقوياءَ الشخصيةِ، ثابتينَ أمامَ تحدياتِ الحياة، يحملونَ في قلوبِهم ذكرى آباءٍ وأمهاتٍ كانوا سندَهم في الشدة، وملاذَهم في الضعف.
أما الذين يُربَّوْنَ بالقسوةِ والإهانةِ والتنقُّصِ والمعايرة، فإمّا أن يصبحوا قنابلَ من الغضبِ والعدوانيةِ تنتظرُ الانفجار، أو ظِلالًا باهِتةً تختبئُ في زوايا الخوفِ والخذلان.
وما زالَ هناكَ أملٌ رغمَ ما مضى؛ فكلُّ لحظةٍ مع أبنائِكم هي فرصةٌ لتغييرِ مسارِ حياتِهم. فَعَدِّلوا من سلوكِكم، وكونوا الموجِّهَ الذي يرفعُهم إلى السماءِ، لا السَّوطَ الذي يطيحُ بهم إلى القاع.
وتذكَّروا أنَّ الأبناءَ نعمةٌ عظيمةٌ، وأثرٌ خالدٌ، وصدقةٌ جارية. فارفقوا بهم، واصنعوا منهم جيلًا يذكُركم بالدعاءِ، ويتذكَّركم بحبٍّ، ويرفعُ رايةَ الاستقامةِ النفسيةِ والسلوكيةِ والإيمانيةِ أينما ذهب.
وفي النهاية:
التربيةُ ليستْ مجردَ دورٍ تقومونَ به، بل هي عبادةٌ تعبُدونَ اللهَ بها.
فاجعلوا من كلِّ كلمةٍ تقولونَها، وكلِّ تصرُّفٍ تفعلونه، لَبِنةً في بناءِ أجيالٍ صالحةٍ تعمرُ الأرض.
واعلموا أنَّ اختيارَكم اليومَ سيبقى صدًى في مستقبلِهم؛ فاجعلوا هذا الصدى خيرًا وبركة. ولا تنسَوا أنَّ اللهَ سيحاسبُكم على هذه الأمانة، فاستعينوا به، وأخلِصوا النيةَ في حَملِها.
واللهُ سبحانه هو الذي يُجازي عبادَه عن مثقالِ الذرّ، وهو الكريمُ الذي لا تنفدُ عطاياه.