
قلب لا يعرف الانتقام
قلب لا يعرف الانتقام
في إحدى القرى الصغيرة، عاشت فتاة اسمها مريم، نشأت في بيت متواضع، محاطة بتحديات كثيرة منذ طفولتها. فقد كبرت وهي ترى ظلم الناس لها ولسيرتها، وواجهت مواقف قاسية جعلت الكثيرين يتوقعون أن قلبها سيتحجر مع مرور الزمن. لكنها خالفت كل التوقعات، وظلت تحمل قلبًا أبيض، يفيض بالرحمة واللين.
الطفولة المليئة بالجروح
منذ صغرها، كانت مريم تتعرض للسخرية من زميلاتها في المدرسة بسبب بساطة ملبسها وفقر أسرتها. لم يكن لديها ألعاب ثمينة ولا كتب جميلة كأقرانها، لكنها كانت تحمل شيئًا لا يُشترى بالمال: الرضا بقضاء الله، وقلب رحيم لا يعرف الحقد.
كثيرًا ما كانت تعود إلى البيت باكية، فتجلس بجوار والدتها التي كانت دائمًا تذكرها بقول الله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
فتجفف دموعها وتبتسم رغم الألم.
الجرح الأكبر
حين كبرت قليلاً، دخلت مريم مرحلة جديدة من حياتها، وبدأت تعمل لتساعد أهلها. وهناك، في عملها، تعرضت لمكيدة كبيرة من إحدى زميلاتها التي كانت تغار منها بسبب أخلاقها وحب الناس لها. تلك الزميلة اتهمت مريم ظلمًا في أمر لم ترتكبه، حتى وصلت الشكوى إلى الإدارة، وكادت أن تُفصل من عملها.
كان الموقف صعبًا وقاسيًا، دموعها لم تتوقف تلك الليلة، والناس بدأوا ينظرون إليها بنظرة ظالمة. ومع ذلك، لم تدع الكراهية تدخل قلبها، بل كانت تدعو:
"اللهم اكفنيهم بما شئت، ورد عني كيدهم، فأنت حسبي ونعم الوكيل".
بداية الفرج
لم يمض وقت طويل حتى كشف الله الحقيقة، وتبينت براءة مريم، بل وظهرت خيانة تلك الزميلة وكذبها. كان الجميع يتوقع أن تغتنم مريم الفرصة لتفضحها وتنتقم منها، وأن تطلب فصلها من العمل أو معاقبتها. لكن مريم وقفت أمام الإدارة، وقالت بصدق:
"أنا أسامحها، ولا أريد إلا أن يُصلح الله شأنها. فإن الله هو المنتقم العادل".
تعجب الحاضرون من كلامها، وكثير منهم بكى تأثرًا من نقاء قلبها.
اختبار جديد
لم يكن ذلك الموقف الوحيد. فقد ابتلاها الله بعد سنوات بخيانة قريبة من أهلها، إذ وقعت في نزاع مع أحد أقاربها الذي استولى على حقها في الميراث. كان بإمكانها أن ترفع قضية وتُشهر به أمام الجميع، لكنها تذكرت قول النبي ﷺ:
"من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور العين شاء" (رواه أبو داود والترمذي).
فقالت في قلبها: "يكفيني أن ربي يرى مظلمتي، وأنا أعلم أن الله لا يضيع حق أحد".
القوة في العفو
ما كان يميز مريم أن عفوها لم يكن ضعفًا، بل كان قوة إيمانية. كانت تدرك أن الحقد لا يزيد القلب إلا وجعًا، وأن الانتقام لا يجلب السعادة، بل يُثقل الروح. كانت تقول دائمًا:
"الانتقام سهل، لكن العفو يحتاج قلبًا يعرف الله حق المعرفة".
وهكذا، صارت قصتها بين الناس مثالاً للعفو، وصار الكثيرون يقولون: "لو أردت أن ترى أثر الإيمان في القلب، فانظر إلى مريم".
ثمرة الصبر
مرت الأيام، وجاءت لحظة الفرج التي لم تكن في الحسبان. إذ فُتح أمامها باب رزق واسع، ورُفعت مكانتها بين الناس، وصارت مصدر ثقة وأمانة. والأجمل أن أولئك الذين ظلموها بالأمس، عادوا يطلبون رضاها ويستسمحون منها، وقد غمرتهم هي بابتسامة صافية قائلة:
"سامحتكم منذ زمن بعيد، قبل أن تطلبوا العفو".
الخاتمة
هكذا أثبتت مريم أن القلب المؤمن لا يتغير مهما تكاثرت الجروح، وأن الصفح والعفو ليسا ضعفًا، بل قمة القوة الإيمانية. لم تنتقم يومًا ممن ظلموها، بل تركت أمرهم لله، لأنه وحده المنتقم العادل. فجعل الله لها من بعد همٍّ فرجًا، ومن بعد ضيقٍ سعة، ورفعها في أعين الناس، وأحيا قلبها بالسكينة والطمأنينة.
فكانت قصتها رسالة لكل مظلوم: اثبت، واصبر، واغفر، ودع أمرك لله، فهو أعدل من أن يضيع حقك.
