
الأب الغافل وأبناء بلا سند
الأب الغافل وأبناء بلا سند
بداية القصة:
الرزق الذي ضُيّع
في إحدى القرى عاش رجل يُدعى سالم، كان الله قد فتح له أبواب الرزق، فكان راتبه عالياً وتجارتُه رابحة. لم يكن فقيراً ولا محتاجاً، بل كان بإمكانه أن يوفر لأبنائه الأربعة حياةً كريمة، ببيت واسع، ومكاتب للدراسة، وألعاب تُدخل السرور على قلوبهم. لكن سالم كان بعيد النظر عن أهله، قريبا من أهوائه.
فلم يكن يرى في ماله إلا وسيلةً للهو والشراب ومجالسة أصدقاء السوء. يأكل ما يكفيه من الأساسيات، يلبس ما يسدّ حاجته، ويترك زوجته الصالحة أم يوسف تتحمل عبء تربية الأبناء. أما ما تبقى من المال فكان يُبدّده في الحانات والملذات، حتى أصبح حديث الناس:
"انظروا إلى سالم! عنده رزق واسع، لكن بيته خاوٍ وأولاده بلا فراش ولا مكتب ولا حتى فرس يركبونه كأبناء جيرانهم."
الزوجة الصابرة
رغم كل ذلك، لم تيأس أم يوسف. كانت مؤمنة صابرة، تعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. سهرت الليالي مع أبنائها الأربعة: يوسف، أحمد، ليان، ومريم.
كانت تقول لهم:
"أبوك غافل، لكنه يبقى والدكم، فلا تعصوه، بل اجتهدوا في دراستكم، فالعلم سلاحكم في هذه الحياة."
كبر الأبناء على صعوبة الحياة، يذاكرون على الأرض بلا مكتب، يتشاركون المصباح الصغير بينهم، ويكتبون دفاترهم على أرجلهم. ومع ذلك، كانوا من المتفوقين في مدارسهم، بفضل الله ثم بفضل صبر أمهم.
غربة الأب وسط أهله
كبر الأبناء، وتقدّموا في دراستهم. لكن الغريب أن سالم لم يكن يعلم حتى في أي قسم يدرسون. لم يسأل يوماً: "يا يوسف، هل اخترت الطب أم الهندسة؟ يا أحمد، هل دخلت كلية الشريعة أم التجارة؟"
كان غريباً في بيتٍ هو ربّه، جسده بينهم، لكن قلبه مع أصدقاء السوء.
وعندما تخرجوا جميعاً، وأصبح كل واحد يحمل شهادة يفتخر بها، كانوا يرونه يقف حائراً بينهم وكأنه لا يعرفهم.
نزول البلاء
لم تدم متعته طويلاً، فقد قال الله تعالى:
﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: 27].
ضاق رزقه شيئاً فشيئاً. أفلست تجارته، وتخلى عنه أصدقاء المجالس حين نفد ماله. حتى لم يعد قادراً على دفع إيجار البيت، ولا على توفير قوت يومه. عندها شعر سالم بالذلّ الذي لم يعرفه من قبل.
كان يجلس في زاوية البيت، يضع يديه على رأسه ويقول:
"أين مالي؟ أين رزقي الذي كان بين يدي؟ كيف تبعثر؟"
لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أن الله لم يظلمه، بل هو الذي ظلم نفسه وأهله.
الأبناء واللوم المستمر
رغم أن الأبناء كانوا بارّين بوالدتهم، إلا أنهم لم يغفروا لأبيهم تقصيره. كانوا يجلسون أمامه ويقولون:
يوسف: "يا أبي، نحن لم نجد مكتباً نكتب عليه مثل أبناء جيراننا."
أحمد: "لم نفكر يوماً أن نطلب منك فرساً نركبه، فقد علمنا أنك لا تهتم."
ليان: "حتى عند تخرجنا لم تعرف اختصاصنا، كنا غرباء في عينيك."
مريم: "أموال الله التي رزقك بها ذهبت إلى الخمر، لا إلى مستقبل أبنائك."
كان كلامهم كالسكاكين في قلبه. لم يجد ما يرد به إلا دموع الندم.
الزوجة المربية
أما أم يوسف، فقد التفتت لأبنائها قائلة:
"لا تتركوا قسوة أبيكم تفسد قلوبكم، فقد اجتهدتُم وتخرجتم، وكلّ واحد منكم له مستقبل كريم، احمدوا الله على أن رزقكم بالعلم. واعلموا أن الأب سيُسأل عنكم يوم القيامة، فحاسبوه بالحسنى، ودعوا أمره إلى الله."
كانت كلماتها نوراً يهدي الأبناء إلى الصبر، لكن ظل في قلوبهم جرح لا يلتئم: جرح الحرمان العاطفي والاهتمام الأبوي.
العبرة
بدأ سالم يستفيق على الحقيقة بعد فوات الأوان. صار يتأمل قوله صلى الله عليه وسلم:
"كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يقوت" [رواه أبو داود].
فأدرك أن ضياعه لأسرته لم يكن قلة رزق، بل قلة تقوى. وأن الأبناء لا يحتاجون فقط للطعام واللباس، بل يحتاجون أباً يشاركهم أحلامهم، يسمعهم، يشجعهم، ويمسك بأيديهم.
صار يردد وهو يبكي:
"ضيعّتُ الأمانة… والله المستعان."
الخاتمة
وهكذا، عاش سالم بقية عمره يحاول إصلاح ما أفسدته يداه، لكن أثر تقصيره ظل محفوراً في نفوس أبنائه.
ولم يبقَ من قصته إلا عبرة بليغة لكل من وسّع الله عليه في الرزق:
أن المال أمانة،
وأن الأولاد حقّ،
وأن التفريط في مسؤولية الأب جرح لا يندمل.
فالعبرة أن الرزق لا قيمة له إن لم يكن وسيلةً لطاعة الله وعمارة الأسرة.
قال تعالى:
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ﴾ [طه: 132].