
التواضع والحكمة: قصة سيدنا سليمان والنملة
حكمة نبي وملكة حشرة في صحائف الخلود
تُعد قصة سيدنا سليمان عليه السلام مع النملة من أروع القصص القرآنية التي تُجسد معاني الحكمة، والتواضع، والرحمة، والعظمة الإلهية. لم تكن هذه القصة مجرد حكاية عابرة، بل هي لوحة فنية بديعة رسمتها آيات الذكر الحكيم في سورة النمل، لتُقدم للإنسانية دروساً عميقة تتجاوز الزمان والمكان. إنها قصة ملك عظيم، نبي كريم، يُواجه حشرة صغيرة، فتكشف مواجهتهما عن أسرار الكون وتوازن القدر.
كان سليمان بن داود -عليهما السلام- شخصية فريدة، جمع الله له بين النبوة والمُلك، وأعطاه ما لم يُعطِ أحداً من العالمين قبله ولا بعده. كان مُلكه يمتد ليشمل الإنس والجن والطير والرياح، وكان يفهم منطق كل المخلوقات، وهي نعمة عظيمة تدل على قدرة الخالق وعظمته. لم يكن هذا المُلك مجرد سلطة دنيوية، بل كان وسيلة لتحقيق العدل ونشر رسالة التوحيد، وهو ما عكسه دعاؤه المستمر وشكره الدائم لله تعالى.
في يوم من الأيام، بينما كان سليمان -عليه السلام- يسير بجيشه المهيب الذي يضمّ أعداداً لا تُحصى من البشر، والجن، والطيور التي كانت تُظِل جيشه بأجنحتها، حتى وصلوا إلى منطقة عُرفت تاريخياً باسم "وادي النمل". لم يكن هذا الوادي مجرد مكان عادي، بل كان موطناً لمجتمع منظم من النمل، يعيش حياة دقيقة ومُتكاملة.
هنا تتجلى إحدى معجزات سليمان: فبينما كان الجيش يمضي في طريقه، توقف سليمان فجأة. لم يكن ذلك التوقف بسبب عائق بشري أو جني، بل بسبب صوت خفي لم يسمعه سواه. لقد سمع صوت نملة، نملة صغيرة، تتحدث إلى قومها بوضوح تام، وكأنها قائد يوجه جنوده.
قالت النملة بلهجة تحذيرية حاسمة، تحمل في طياتها الخوف على جماعتها والمسؤولية تجاههم: "يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون". هذه الجملة القصيرة كشفت عن عدة جوانب مُهمة: أولاً، وعي النملة بخطورة الموقف وقرب جيش سليمان. ثانياً، قدرتها على التواصل الفعال والسريع مع قومها. ثالثاً، وإدراكها لطبيعة سليمان وجنوده العادلة، حيث أشارت إلى أن أي ضرر قد يقع سيكون "وهم لا يشعرون"، أي دون قصد أو تعمد منهم. هذا يُظهر أن حتى أصغر المخلوقات كانت تدرك حكمة وعدل هذا النبي العظيم.
تفاعل سليمان -عليه السلام- مع هذا الموقف كان درساً بحد ذاته. لم يتجاهل كلام النملة، ولم يتكبر على سماع صوت حشرة. بل إن رد فعله كان مليئاً بالتواضع والشكر: "فتبسَّم ضاحكًا من قولها". لم يكن ضحكه استهزاءً، بل كان ضحك تعجب وسرور وشكر لله على هذه النعمة العظيمة التي أنعم بها عليه، وهي نعمة فهم لغة الكائنات وتفكّر في عظيم خلقه. لقد أدرك أن هذه الحادثة البسيطة كانت تذكيراً من الله بقدرته اللامحدودة، وبأنه سبحانه هو الذي يُسخّر كل شيء.
وبعد هذه اللحظة العابرة التي حملت في طياتها دلالات عظيمة، لم ينسَ سليمان أن يُرجع الفضل كله إلى الله تعالى. توجه بالدعاء الخاشع والمُبارك: "رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين". هذا الدعاء يلخص جوهر العبودية والشكر؛ فلم يطلب سليمان زيادة في مُلكه أو قوته، بل طلب الثبات على الشكر، والتوفيق لعمل الصالحات التي تُرضي الله، وأن يُدخله برحمته في زمرة عباده الصالحين، وهي غاية كل مؤمن
عظمة الخالق في أدق المخلوقات: تُرينا القصة أن لا شيء في خلق الله صغير أو تافه. لكل كائن دوره وحياته وهدفه، وأن الله قد أودع فيه من الحكمة ما يجعله آية تستدعي التفكر.
التواضع رغم العظمة: رغم المُلك الذي لم يُمنح لأحد سواه، إلا أن سليمان ظل متواضعاً وشاكراً. لم يستشعر الكِبر لسماعه كلام نملة، بل زاده ذلك خضوعاً وشكراً لله.
المسؤولية القيادية: أظهرت النملة الصغيرة مثالاً رائعاً للقيادة الواعية والمسؤولة. فقد كانت حريصة على سلامة جماعتها، وذات بصيرة تُمكنها من تقدير الموقف واتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب.
الرحمة والعدل: لم يمس جيش سليمان النمل بسوء، لا بقصد ولا بغير قصد. وهذا يُعلمنا أهمية الرحمة حتى مع أصغر الكائنات، وأن العدل لا يقتصر على البشر وحدهم.
الشكر أساس النعم: دعاء سليمان يُذكرنا بأن الشكر هو مفتاح دوام النعم وزيادتها، وأن الاعتراف بفضل الله هو سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة.
إن قصة سليمان والنملة ليست مجرد قصة تاريخية، بل هي منارة تُضيء دروبنا، وتُعلمنا كيف نُقدر النعم، ونتواضع أمام عظمة الخالق، ونُدرك أن الحكمة قد تأتي من حيث لا نتوقع، حتى من نملة صغيرة في وادٍ مهيب.