
قصة سيدنا يوسف عليه السلام: رحلة الابتلاء والنصر الإلهي
قصة سيدنا يوسف عليه السلام: رحلة الابتلاء والنصر الإلهي
المقدمة: أهمية قصة يوسف في القرآن الكريم

تُعد قصة سيدنا يوسف عليه السلام من أبرز القصص القرآنية التي جاءت مفصلة في سورة كاملة تحمل اسمه، وهي سورة يوسف التي نزلت في مكة المكرمة قبل الهجرة النبوية. لم تكن هذه السورة مجرد سرد تاريخي، بل هي عبرة وعظة للمؤمنين، تُظهر كيف يدبر الله أمور عباده ويُخرجهم من الظلمات إلى النور بفضله وعنايته. يقول الله تعالى في ختام السورة: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
كان سبب نزول السورة استفساراً من كفار قريش لليهود عن انتقال آل يعقوب من الشام إلى مصر، فأوحى الله تعالى بهذه القصة ليُبيّن صدق الرسالة ويُثبت أن القرآن تصديق لما قبله. ورد اسم يوسف عليه السلام في القرآن 26 مرة، 24 منها في سورته، مما يُبرز مكانته الخاصة كـ"الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم" كما ورد في الحديث النبوي الشريف رواه البخاري.
تدور القصة حول رحلة يوسف من الطفولة المحبوبة إلى الغدر الأخوي، ثم الفتنة والسجن، وأخيراً الملك والشمل العائلي. هي قصة مليئة بالعواطف الإنسانية: الحب الأبوي، الغيرة الأخوية، الفتنة الجنسية، الصبر في المحن، والعفو في النصر. في هذا المقال، سنسرد القصة كاملة مستندين إلى النص القرآني، مع تفسيرات ودروس مستمدة منها، لنصل إلى فهم أعمق لرحمة الله في تدبير الأقدار. سنقسم السرد إلى مراحل رئيسية للوضوح، مع الإشارة إلى الآيات الكريمة والتفسيرات الموثوقة.
المرحلة الأولى: الطفولة والرؤيا النبوية (الآيات 1-6)
ولد يوسف عليه السلام في كنف أبيه النبي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وكان له أحد عشر أخاً من أمهات مختلفات، إلا أنه حظي بحب أبيه الخاص لجماله الخارق ولطف خلقه. كان يعقوب يُفضّل يوسف وأخاه الأصغر بنيامين على بقية الإخوة، مما أثار غيرة في قلوبهم. في إحدى الليالي، رأى يوسف رؤيا عجيبة: أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر، يسجدون له. فَقَصَّ الرؤيا على والده قائلاً: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4].
أدرك يعقوب عليه السلام دلالة الرؤيا على نبوة ابنه ورفعة شأنه، فحذّره من إخبار إخوته، قائلاً: {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5]. كانت هذه النصيحة الأبوية تعكس بصيرة النبي يعقوب في فهم طبيعة الغيرة البشرية، وكيف يُغذّيها الشيطان. وأضاف يعقوب: {وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 6].
هذه الرؤيا ليست مجرد حلم، بل بشارة إلهية بأن الكواكب تمثّل الإخوة، والشمس والقمر الوالدين، والسجود رمز للطاعة والاعتراف بالعلو بعد سنوات طويلة. في التفسير، ترمز إلى تحقيق وعد الله بالنصر بعد الابتلاء، كما في قصص الأنبياء السابقين. هنا، يبدأ الدرس الأول: الرؤى الصالحة من الله، وأهمية الحذر من الحسد الذي يُفسد القلوب. كما أن تفضيل الوالد لأحد الأبناء، وإن كان بحسن نية، قد يُولّد خلافات، مما يُعلّم الآباء الحكمة في التعامل مع الأبناء لتجنب الفتن.
المرحلة الثانية: الغدر الأخوي وإلقاء يوسف في الجب (الآيات 7-18)
لم تخفَ محبة يعقوب ليوسف على إخوته، فاجتمعوا يوماً يشكون: {قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ۖ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 8]. اقترح أحدهم قتله أو نفيه إلى أرض خلاء ليخلوا وجه أبيهم لهم، لكن الرجل الأكبر سناً (ربما رُبَيْل) اقترح بديلاً أقل شراً: {لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10].
طلب الإخوة من أبيهم السماح ليوسف بالخروج معهم للّعب والرعي، مدّعين النصيحة والحفظ، لكن يعقوب تردّد خوفاً من الذئب. أقنعوه بقوتهم العددية: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف: 14]. وافق يعقوب على مضض، فخرجوا به إلى الصحراء، وهناك أوحى الله إلى يوسف: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15]، فطمأن الله نبيه بأنه سيُخبر إخوته بفعلتهم يوماً ما دون أن يشعروا.
ألقوه في الجب العميق، ثم عادوا ليلاً يبكون متظاهرين: {يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 17]، وأحضروا قميصه ملطّخاً بدماء كاذبة. لم يُخدَع يعقوب، لكنه قال بصبر جميل: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
في الجب، جلس يوسف ينتظر رحمة الله، حتى مرَّت قافلة تجار، فسحبوا الماء فخرج يوسف مع الدلو. فرحوا به كبضاعة ثمينة: {يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ} [يوسف: 19]، وباعوه بثمن بخس لبعض الدراهم لعزيز مصر (الوزير قَطْفِير أو بوتيفار في التفسيرات). قال العزيز لزوجته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21].
هذه المرحلة تُبرز عظمة الصبر الجميل ليعقوب، الذي لم يُلَمْ إخوته بل سلَّم أمره لله. كما تُظْهِرُ كيف يُحَوِّل الله المؤامرة الشريرة إلى خير، فالجب لم يكن نهاية بل بداية للرفعة. في الدروس، الحسد يُعمي البصيرة، والكذب يُفضَحُ بوقت، ويُعلِّمُنا التوكل على الله في الشدائد. الغيرة الأخوية هنا نموذج نفسي للصراعات العائلية، حيث يُفسَّرُها علماء النفس الإسلاميون كنتيجة لعدم التوازن في التوزيع العاطفي، مما يدعو إلى العدل في التربية.
المرحلة الثالثة: الفتنة في بيت العزيز والسجن (الآيات 19-42)
ترعرع يوسف في بيت العزيز، فبارَكَ الله فيه حتى بلغ أشده، وكان حسن الخَلْقِ والجمالِ. لم تُقَاوِمْ زوجة العزيز فتنته، فَرَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، لكنَّ يوسفَ قَالَ: {مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]. رأى في الفعل خيانة لمن أَحْسَنَ إليه، وظُلْماً لنفسه. أصرتْ هي، فَاسْتَبَقَا الْبَابَ، وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ، فَدَخَلَ الْعَزِيزُ فَرَأَى الْقَمِيصَ مُقْتَضَبًا مِنْ وَرَائِهِ، فَقَالَتْ: {فَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ ۖ وَأَلْفَتْ سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا لَكَ إِنْ كَانَ قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ أَمَامِهِ فَقَدْ صَدَقَ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرِهِ فَقَدْ كَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 25-26].
انتشر الخبر بين نسوة المدينة، فَدَعَتْهُنَّ الزوجةُ إِلَىٰ مَأْدَبَةٍ، وَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ سِكِّينًا، ثُمَّ أَمَرَتْ يُوسُفَ بِالْخُرُوجِ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، قُلْنَ: {حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]. اعترفتْ بالفتنة، وهدَّدَتْ يُوسُفَ بِالسِّجْنِ إِنْ لَمْ يُطِعْ، فَدَعَا: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33].
أُدْخِلَ السِّجْنَ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نِهَايَةً بَلْ مُنْحَةً فِي طَيَّاتِ مَحْنَةٍ. فِي السِّجْنِ، الْتَقَى بِسَاقِي الْمَلِكِ وَخَبَّازِهِ، اللَّذَيْنِ رَأَيَا رُؤْيَا: الأَوْلُ يَعْصِرُ الْعِنَبَ لِلْخَمْرِ، وَالثَّانِي يَحْمِلُ خُبْزًا تَأْكُلُ مِنْهُ الطَّيْرُ. دَعَاهُمَا يُوسُفُ إِلَى التَّوْحِيدِ: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]، ثُمَّ أَوْلَى: النَّاجِيَ يَسْقِي سَيِّدَهُ، وَالْآخَرَ يُصْلَبُ. طَلَبَ مِنَ النَّاجِي ذِكْرَهُ لِلْعَزِيزِ، لَكِنَّهُ نَسِيَ بَعْدَ ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ.
رَأَى الْمَلِكُ رُؤْيَا: سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ تَأْكُلُهَا سَبْعٌ عِجَافٌ، وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ. تَذَكَّرَ السَّاقِي يُوسُفَ، فَأَخْبَرَ الْمَلِكَ، الَّذِي أَمَرَ بِإِحْضَارِهِ. أَبَى يُوسُفُ الْخُرُوجَ إِلَّا بَعْدَ تَبْرِئَتِهِ، فَمَثَلَتِ النِّسْوَةُ أَمَامَ الْمَلِكِ، وَاعْتَرَفَتْ زَوْجَةُ الْعَزِيزِ: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَأَحْسَنَتْهُ} [يوسف: 51]. بُرِّئَ يُوسُفُ، وَأَوْلَى رُؤْيَا الْمَلِكِ بِسَبْعِ سِنِينَ عَوَافَرَ وَسَبْعِ حَرْجٍ، وَأَمَرَ بِتَصْرِيفِ الْغَلَّ لِلْحَرْجِ.
هُنَا يَتَجَلَّى الْعِفَّةُ كَدَرْسٍ كَبِيرٍ: يُوسُفُ فَضَّلَ السِّجْنَ عَلَى الْفَاحِشَةِ، مُثْبِتًا أَنَّ الْحِفَاظَ عَلَى الْعِرْضِ أَعْلَى قِيَمَاتِ الْإِنْسَانِ. السِّجْنُ كَانَ مَدْرَسَةً لِلتَّأْوِيلِ وَالْدَعْوَةِ، وَيُظْهِرُ أَنَّ الْمَحْنَةَ قَدْ تَكُونُ خَيْرًا مِنَ الرَّاحَةِ إِنْ أَدَّتْ إِلَى الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ. فِي الْعِبْرِ، الْكَيْدُ الْجِنْسِيُّ اخْتِبَارٌ لِلْإِيمَانِ، وَالْحَقُّ يَظْهَرُ بِالْوَقْتِ، كَمَا فِي قَوْلِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ قَمِيصَ يُوسُفِ دَلِيلٌ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَالْفِطْنَةِ. تَتَفَقْ الْقِصَّةُ مَعَ الْيَهُودِيَّةِ فِي التَّوْرَاةِ، لَكِنَّ الْقُرْآنَ يُصَحِّحُ التَّحْرِيفَاتِ، مُؤْكِدًا عَلَى الْعِفَّةِ بَدْلَ الْإِثْمِ.
المرحلة الرابعة: الملك والمجاعة، واختبار الإخوة (الآيات 43-86)
عُيِّنَ يُوسُفُ عَلَى خَزَائِنِ مِصْرَ، فَأَحْسَنَ التَّدْبِيرَ، وَحَصَنَ الْمَدِينَةَ. وَقَعَتْ مَجَاعَةٌ عَالِمِيَّةٌ، فَجَاءَ إِخْوَتُهُ لِلْبَيْعِ دُونَ مَعْرِفَتِهِمْ إِيَّاهُ. أَمَرَهُمْ بِإِحْضَارِ أَخٍ لَهُمْ (بِنْيَامِينَ)، فَعَادُوا إِلَى يَعْقُوبَ الَّذِي وَعَظَهُمْ: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 67] لِدَرْءِ الْحَسَدِ.
فِي الزِّيَارَةِ الثَّانِيَةِ، خَلَا يُوسُفُ بِبِنْيَامِينَ وَأَوْحَى إِلَيْهِ بِمَنْزِلَتِهِ، ثُمَّ دَبَّرَ وَضْعَ الْمِكْيَالِ فِي مَتَاعِهِ. عِنْدَ الْمُغَادَرَةِ، اتهَمُوهُمْ بِالسَّرِقَةِ، وَوُجِدَ الْمِكْيَالُ عِنْدَ بِنْيَامِينَ، فَرَجَوْهُ بِأَخْذِ أَحَدِهِمْ بَدَلًا، لَكِنَّهُ رَفَضَ. عَادُوا إِلَى يَعْقُوبَ الَّذِي بَكَى حَتَّى اسْوَدَّتْ عَيْنَاهُ: {وَاسْتَبْدَلْتُمْ بِالْخَيْرِ الشَّرَّ} [يوسف: 81]، وَصَبَرَ قَائِلًا: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ} [يوسف: 83].
فِي الْزِّيَارَةِ الثَّالِثَةِ، رَجَوْهُ إِطْلَاقَ بِنْيَامِينَ، فَرَقَ يُوسُفُ لَهُمْ قِصَّتَهُ: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ كُنْتُمْ جَاهِلِينَ} [يوسف: 89]. تَعَجَّبُوا، فَأَقَرَّ: {أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي} [يوسف: 90]، وَنَدَمُوا، فَعَفَا عَنْهُمْ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92].
هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ اخْتِبَارٌ لِلتَّوْبَةِ، حَيْثُ دَبَّرَ يُوسُفُ لِيَرَى نَدَامَتَهُمْ. الْمَجَاعَةُ رَمْزٌ لِلْابْتِلَاءِ الْعَالِمِيِّ، وَتُعَلِّمُ أَنَّ الْعَفْوَ أَفْضَلُ مِنَ الْانْتِقَامِ. فِي الْعِبْرِ، الصَّبْرُ لِيَعْقُوبَ نَمُوذَجٌ لِلْتَّفْؤُلِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّهُ لَمْ يَيْأَسْ أَبَدًا. تَتَوَافَقُ مَعَ التَّارِيخِ الْيَهُودِيِّ، لَكِنَّ الْقُرْآنَ يُضِيفُ الْبُعْدَ الْإِلَهِيَّ.
المرحلة الخامسة: الشمل العائلي وتحقيق الرؤيا (الآيات 87-111)
أَمَرَ يُوسُفُ بِحَمْلِ قَمِيصِهِ إِلَى يَعْقُوبَ لِيَرْجِعَ بَصْرَهُ، فَعَادَ الْإِخْوَةُ، وَشَمَّ يَعْقُوبَ رِيحَ يُوسُفَ مِنَ الْقَمِيصِ: {أَنَا لَيَحْزُنُنِّي أَنْ أَذْهَبُ بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 84]، ثُمَّ لُقِيَ عَلَى وَجْهِهِ فَرَجَعَ بَصْرُهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَثْبَتَنِي عَلَىٰ عِلْمِهِ} [يوسف: 96]. سَافَرَ الْعَائِلَةُ إِلَى مِصْرَ، وَالْتَقَى يُوسُفُ بِأَبِيهِ، فَقَبَّلَهُ وَاحْتَفَى بِهِ، وَحَمِدَ اللَّهَ: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [يوسف: 101].
اجْتَمَعَ الشِّمْلُ فِي مِصْرَ، وَتَحَقَّقَتْ رُؤْيَا الْكَوَاكِبِ بِالسُّجُودِ الْمَجَازِيِّ (التَّطَاوُلِ وَالْعَزْلِ). انْتَهَتِ الْقِصَّةُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ عَلَى الْفَضْلِ وَالْعِبْرَةِ.
الدروس والعبر المستفادة من القصة
تَحْمِلُ قِصَّةُ يُوسُفَ عِبْرًا كَثِيرَةً، أَوَّلُهَا الْحِفَاظُ عَلَى الْعِفَّةِ وَالْصَّبْرِ فِي الْمَحْنِ، فَالْمَحْنَةُ مِنْهَا تَرْفَعُ الْمَرْءَ. ثَانِيًا، حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ، كَمَا لَمْ يَيْأَسْ يَعْقُوبُ أَبَدًا، وَهُوَ دَعْوَةٌ لِلتَّفْؤُلِ فِي الْأَزْمَاتِ. ثَالِثًا، الْعَفْوُ وَالْغُفْرَانُ، إِذْ عَفَا يُوسُفُ عَنْ إِخْوَتِهِ رَغْمَ الْغَدْرِ، مُثْبِتًا أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْعَفْوِ. رَابِعًا، أَهَمِّيَّةُ الْعَدْلِ فِي الْأُسْرَةِ لِدَرْءِ الْحَسَدِ، وَخَامِسًا، التَّوْحِيدُ فِي كُلِّ مَوْقِعٍ، كَدَعْوَةِ يُوسُفِ فِي السِّجْنِ.
فِي الْبُعْدِ التَّارِيخِيِّ، تُؤَكِّدُ الْقِصَّةُ عَلَى وَجُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مِصْرَ، وَتُصَحِّحُ الْتَّحْرِيفَاتِ الْيَهُودِيَّةَ. نَفْسِيًّا، تُعَالِجُ الْغَيْرَةَ كَمَرَضٍ يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجٍ رُوحِيٍّ. إِقْتِصَادِيًّا، تَدْبِيرُ يُوسُفِ نَمُوذَجٌ لِلْتَّخَطِيطِ فِي الْأَزْمَاتِ. وَفِي الْآخِرَةِ، تَذْكِيرٌ بِأَنَّ الْقَدَرَ الْإِلَهِيَّ يَتَجَاوَزُ الْكَيْدَ الْبَشَرِيَّ.
الخاتمة: رحمة الله في تدبير الأقدار
قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ سِيرَةٍ، بَلْ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. مِنَ الْغَدْرِ إِلَى الْمُلْكِ، تُعَلِّمْنَا أَنَّ بَعْدَ كُلِّ ضِيقٍ فَرَجًا، وَبَعْدَ كُلِّ سَجْنٍ عِزًّا. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، فَلْنَتَعَلَّمْ مِنْ يُوسُفَ الصَّبْرَ، وَمِنْ يَعْقُوبَ الْجَمِيلَ، وَنَحْمَدَ اللَّهَ عَلَى نِعَمِهِ.