من نعيم الدنيا إلى الجنة: مصعب بن عمير
ربح الآخرة و ترك الدنيا
في مكة المكرمة، وقبل أن يشرق نور الإسلام في القلوب، عاش شاب من أنعم شباب قريش حياة مليئة بالترف والراحة. كان مصعب بن عمير مثالًا للأناقة والنعيم، يعرفه الناس من رائحته الطيبة وملابسه الفاخرة، لكن قلبه كان يبحث عن شيء أعظم من متاع الدنيا الزائل.
---
نشأة مصعب بن عمير في نعيم مكة
وُلد مصعب بن عمير في أسرة غنية، وكانت أمه من أشد نساء مكة حرصًا عليه وتدليلًا له. لم يُحرم شيئًا قط، فكان يأكل أطيب الطعام ويرتدي أجمل الثياب، حتى أصبح حديث المجالس وأحد شباب قريش المشهورين بالثراء والرفاهية.
لكن رغم هذا النعيم، لم يكن قلب مصعب متعلقًا بالدنيا وحدها، بل كان يبحث عن الحق والمعنى الحقيقي للحياة.
---
لحظة التحول واعتناق الإسلام
سمع مصعب عن النبي محمد ﷺ وعن دعوته الجديدة، فدفعه فضوله إلى الذهاب سرًا إلى دار الأرقم. هناك سمع آيات من القرآن الكريم، فلامست قلبه قبل عقله، وأدرك أن هذا هو الطريق الحق، فأسلم دون تردد.
أخفى مصعب إسلامه في البداية، لكن أمره لم يلبث أن انكشف، فغضبت أمه غضبًا شديدًا، وحرمته من المال والنعيم، بل وحبسته محاولةً إرجاعه عن دينه، لكنه ثبت وصبر، وفضّل الإيمان على كل ما كان يملكه.
---
أول سفير للإسلام في المدينة
رأى النبي ﷺ في مصعب الحكمة وحسن الخلق، فاختاره ليكون أول سفير للإسلام إلى المدينة المنورة. ذهب مصعب شابًا لا يملك مالًا ولا جاهًا، لكنه حمل معه القرآن والأخلاق الحسنة.
استطاع مصعب بحكمته ولينه أن يدخل الإسلام إلى بيوت كثيرة، وأسلم على يديه كبار الصحابة مثل سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، فانتشر الإسلام في المدينة انتشار النور، ومهّد الطريق لهجرة النبي ﷺ.

---
مشهد الشهادة في غزوة أحد
في غزوة أحد، حمل مصعب بن عمير راية المسلمين، وكان ثابتًا في وجه المشركين. هاجموه فقطعوا يده اليمنى، فحمل الراية باليسرى، فقطعوها، فاحتضن الراية بصدره حتى سقط شهيدًا.
وعندما أراد الصحابة تكفينه، لم يجدوا إلا ثوبًا قصيرًا، إن غطوا رأسه بدت قدماه، وإن غطوا قدميه بدا رأسه، فبكى النبي ﷺ وقال:
﴿من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾.
---
ماذا نتعلم من قصة مصعب بن عمير؟
قصة مصعب بن عمير ليست قصة فقر بعد غنى فقط، بل قصة إيمان صادق واختيار حقيقي. علّمنا أن التضحية في سبيل الحق ليست خسارة، بل هي أعظم ربح عند الله، وأن من صدق مع الله صدق الله معه، وخلّد ذكره في الدنيا والآخرة.
لماذا خُلّدت سيرة مصعب بن عمير؟
لم يُخلَّد اسم مصعب بن عمير لأنه كان غنيًا أو مشهورًا، بل لأنه قدّم نموذجًا نادرًا للإنسان الذي عرف الحق فاتبعه دون تردد. ترك الدنيا وهو قادر عليها، فرفعه الله في الدنيا ذكرًا، وفي الآخرة درجة. تبقى قصته رسالة لكل من يظن أن التمسك بالمبادئ خسارة، بينما هو في الحقيقة طريق للطمأنينة والخلود. فمصعب لم يمت، بل بقيت سيرته حيّة تُلهم القلوب، وتذكّرنا أن الإيمان الصادق قادر على صناعة أعظم التحولات في حياة الإنسان