فتنة خلق القرآن: تاريخ وعبر
وقد آمن به المسلمون جميعاً، وأجمعوا على أنه كلام الله غير مخلوق، بل هو صفة من صفات الله تعالى، قائم بذاته، لا يشبه كلام الخلق.
ولكن في بعض العصور الإسلامية، ظهرت فتنة عقائدية خطيرة، تسمى فتنة خلق القرآن. وكانت تدور حول مسألة هل القرآن مخلوق مثل سائر المخلوقات، أم هو غير مخلوق كما يقول أهل السنة والجماعة. وقد أثارت هذه الفتنة جدلاً وخلافاً بين المسلمين، وأدت إلى اضطهاد وتعذيب بعض العلماء والفقهاء الذين رفضوا القول بخلق القرآن، وأبرزهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
فما هي فتنة خلق القرآن؟ وكيف نشأت وانتشرت؟ وما هي دور خلافاء العباسيين في إشاعتها وإجبار الناس على قبولها؟ وكيف صبر وثبت الإمام أحمد بن حنبل في مواجهة هذه الفتنة؟ وما هي العبرة التي نستفيدها من هذه التجربة التاريخية؟
هذا ما سأحاول شرحه في هذا المقال، سائلاً المولى عز وجل أن يجعله في ميزان حسناتي،
- فتنة خلق القرآن لم تظهر فجأة، بل كانت لها جذور ومراحل تطورية. وقد يعود أول ظهور لهذه الفكرة إلى الجعد بن درهم، وهو رجل من أصحاب جهم بن صفوان، مؤسس مذهب الجهمية. وكان الجعد يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، وأن كلام الله مخلوق . وقد نفى عنه هذا القول بعض علماء السنة، مثل ابن عباس وابن عيينة وغيرهم.
- وظلت هذه الفكرة راكدة حتى عصر الخلافة العباسية، حيث اشتعلت فتنة خلق القرآن في عهد المأمون، وهو ابن هارون الرشيد. وكان المأمون قد تأثر بفكر المعتزلة، وهي فرقة تأسست على يد واصل بن عطاء، وكانت تؤمن بالحرية التامة للإنسان في اختيار أفعاله، وبالعدالة التامة لله في تصرفاته، وبالاتزان بين العقل والنقل في استدراك المسائل. وكان من أبرز مذاهب المعتزلة قولهم بخلق القرآن، باعتبار أن كلام الله لا يجوز أن يكون قديماً أو غير محدود، فإذا كان كذلك فإنه لابد أن يكون حادثاً أو مخلوقاً .
- وقد أعلن المأمون عام 218 هـ عام الإجماع، وأمر بإجبار العلماء والقضاة على القول بخلق القرآن، وإلا فإنه يحرم على المسلمين التصديق بهم أو التشاور بهم أو التولية لهم. وأرسل إلى كافة بلاد المسلمين رسائل في هذا المضمون، وأمر بإحضار من يخالف هذا القول إلى بغداد. وكان من أشهر من اجتُبِروا على هذا الأمر: أحمد بن حنبل، وعلى بن المديني، وإبراهيم بن إسحاق الحربي،
- من بين جميع العلماء والفقهاء الذين تعرضوا لفتنة خلق القرآن، يبرز اسم الإمام أحمد بن حنبل، وهو أحد أئمة المذاهب الأربعة، وصاحب المسند الشهير، وأحد رواد علم الحديث. وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله مثالاً للصبر والثبات في مواجهة هذه الفتنة، ولم يرضخ للضغوط والتهديدات التي تعرض لها من قبل المأمون وخلفائه.
- فقد اجتُبِر الإمام أحمد بن حنبل على قوله بخلق القرآن على يد المأمون نفسه، وكان ذلك في سنة 218 هـ. وقد رفض الإمام أحمد هذا القول، وأجاب بقوله: "لا أقول بخلق القرآن، ولا أعرف ما هو خلق القرآن". فغضب المأمون منه، وأمر بسجنه وتعذيبه. وكانت هذه المحاكمة تاريخية، فقد شارك فيها عدد من علماء الزمان، مثل يحيى بن معين، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم. وقد شهدوا للإمام أحمد بالعلم والورع والتقوى.
- وظل الإمام أحمد في السجن حتى توفي المأمون في سنة 218 هـ. ثم خلفه المعتصم، وكان أشد من المأمون في إجبار العلماء على قوله بخلق القرآن. فأرسل إلى سجن الإمام أحمد رسولاً يسأله عن رأيه في خلق القرآن. فأجاب الإمام: "لا أعرف ما هو خلق القرآن". فغضب المعتصم من جوابه، وأمر بضربه بالسياط حتى يتغير رأيه. فضُرِبَ الإمام ضرباً شديداً، حتى كاد يفارق الحياة. وكان يصبر على ذلك، ويستغفر الله، ويستشهد بالآيات التي تثبت ان القران كلام الله.
- في هذا المقال، حاولت أن أشرح لك ما هي فتنة خلق القرآن، وكيف نشأت وانتشرت، وما هي دور خلافاء العباسيين في إشاعتها وإجبار الناس على قبولها، وكيف صبر وثبت الإمام أحمد بن حنبل في مواجهة هذه الفتنة.
- وأود أن أختم مقالي ببعض العبر والدروس التي نستفيدها من هذه التجربة التاريخية، وهي:
- أن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، غير مخلوق، بل هو صفة من صفات الله تعالى، قائم بذاته، لا يشبه كلام الخلق. وأن هذا هو عقيدة أهل السنة والجماعة، التي أجمع عليها الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين. وأن من يزعم خلاف ذلك فهو مبتدع مضل، يجب على المسلمين تحذيره وتوبيخه وإنكار بدعته.
- أن فتنة خلق القرآن كانت من أشد الفتن التي ابتُلِي بها المسلمون في تاريخهم. فقد تسببت في انقسام المسلمين إلى فرق وأحزاب، وفي اضطهاد وتعذيب بعض العلماء والفقهاء، وفي تشويه سمعة الإسلام والمسلمين. فلا بد للمسلمين من التعظ بمثل هذه الفتن، والحذر من تكرارها، والالتزام بالكتاب والسنة، والاتباع لسلف الأمة.
- أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كان مثالاً للصبر والثبات في مواجهة فتنة خلق القرآن. فقد رفض الانصياع لأوامر المأمون وخلفائه، وأصر على قول الحق، وصبر على ضربه وسجنه. فكان سبباً في نصرة دين الإسلام، وحفظ كتاب الله، وإطفاء شرارة هذه الفتنة. فلا بد للمسلمين من اتخاذه قدوة في التزام الحق، والدفاع عن عقيدة أهل السنة.
- هذا ما كان لدي من شرح لفتنة خلق القرآن.