نظرات في الإسلام

نظرات في الإسلام

0 المراجعات

نظرات في الإسلام 

لقد نظرنا في تاريخ الحركات الدينية ، وتاريخ الرسالات الإصلاحية ، ونظرنا في تاريخ الدولة الناشئة وتاريخ الدعوات الجديدة .. فما رأينا كرسالة الإسلام ، لا في تمكنها واستقرارها ، حيث بلغت من أقطارها ، ولا في عمق نفوذها وبعد آثارها . 

إن هذا النجاح ، ليس مرده في نظرنا إلى سبب واحد من الأسباب ، ولا إلى فضيلة واحدة من الفضائل .. لقد تضافرت عليه شخصية الداعي ، ومنهاج دعوته ، وشخصية الأمة التي تلقت تلك الدعوة ، وطبيعة الدعوة نفسها ، ومن وراء ذلك كله كلاءة الله ورعايته لهذه الرسالة حتى بلغت كمالها أما صاحب الرسالة وما أدراك من صاحب الرسالة ، فحسبك منه أنه عليه الصلاة والسلام ، جمع خلالا كل واحدة منها كانت عنصرا فعالا في هذا النجاح ، خلالا نعد منها ولا نعدها ، ونرسم شيئا من جوانبها ولا نحدها .

نعم إن هذا القلب الذي يمتلئ إيمانا وحكمة ، يفيض في الوقت نفسه حنانا ورحمة ، ويطالع في الأفق دائما أملا باسما في النجاح والفلاح .. لا أقول : إنه يفيض رحمة بأتباعه وحسب . فإنه وإن كان لأتباعه من رحمته النصيب الأوفر ، فهو – كما وصفه الله رحمة للعالمين ، لأعدائه وأوليائه أجمعين ، حريص على خيرهم وسعادتهم ، مشفق على عنتهم وشقوتهم .

مع التشريع الإسلامي

لا جدال في أن التشريع الإسلامي ، إنما يقوم على أسس سليمة متينة ، لا تضعف ولا تتزعزع فهو تشريع مرن يتطور بتطور الحياة ، ويتجاوب مع مصالح الناس وحاجياتهم ، دون أن يفرض عليهم عنتا أو حرجا .

وهو فوق هذا غني بثروته التي لا تنفذ ، هذه الثروة التي تلمسها بنفسك في العقائد والأخلاق والقيم الإنسانية ، وفي أصول القوانين والدساتير والنظم السياسية والاجتماعية .

هناك عنصران يكونان التشريع الإسلامي :

أولهما عنصر العبادات ، وهي التي تتمثل في العبادات بأنواعها : العقلية والروحية والبدنية.

والعنصر الثاني ، عنصر المعاملات ، فالناس في حياتهم مضطرون إلى التعامل ، ولا تقف بنا المعاملات عند حدود البيع والشراء وما إليها ، بل هي شاملة تمتد إلى العلاقات بشتى ألوانها والروابط في مختلف أنواعها .

في العقيدة 

إذ تكلمنا بلغة العلوم الرياضية نستطيع أن نضع هذه المتساوية : إيمان + إسلام = دين .. فالدين حقيقة مركبة من عنصرين ، عنصر نظري هو الاعتقاد ، وهذا هو الإيمان ، وعنصر عملي هو ثمرة الاعتقاد وذلك هو الإسلام .

وإذا تكلما بلسان الصناعات التركيبية ، نقول : إن الدين يمثل بناء شامخا أساسه الإيمان .. والطبقات المقامة على هذا الأساس هي الإسلام .

وإذا تكلمنا بلسان علم الحياة ، نقول إن الدين في جملته يشبه شجرة مباركة جذورها مستقر في أعماق القلوب ، وهذا هو الإيمان ، ثم تمتد فروعها في القلب ، حتى تظهر على اللسان والجوارح .. وهذا هو الإسلام .

وللشجرة المباركة التي قلنا إنها تمثل الدين بعنصرين : الإيمان والإسلام ، الشعيرات الرفيعة التي تنبت من النواة في باطن الأرض قبل أن تبرز ساقها إلى سطح الأرض .. أريد أن أقول لك أن الفروع العملية التي تمثل الإسلام ليست كلها أعمالا ظاهرة يدركها الحس ، بل إن الإيمان يثمر أخلاقا كريمة قبل أن يثمر أعمالا مستقيمة ، فأول ما ينبت منه في النفس فضائل معنوية كالإخلاص ومحبة الله والرسول أشد مما سواهما ، وإرادة الخير للغير ، والرحمة وغير ذلك ، ثم تظهر ثمرات هذه الأخلاق والفضائل النفسية على اللسان والجوارح .

فإذا ما برزت هذه النبتة إلى الخارج وأخذت مظهرها على اللسان والجوارح ، فإنها تتفرع إلى ثلاث شعب رئيسية : 

الشعبة الأولى :

إعلان هذه العقيدة ، والاعتراف بها ،فإن من امتلأت نفسه بعقيدة اندفع إلى التعبير عنها .. وهذه هي الشهادة .

الشعبة الثانية :

العمل بما تمليه هذه العقيدة : بامتثال أوامر الله ، واجتناب محارمه ، والتزام المرء ذلك في سره وعلانيته ، في سيرته الشخصية ، وفي عبادته ، وفي معاملته ، وفي فضله وأحكامه .

الشعبة الثالثة : 

نشر هذه العقيدة والدعوة إليها ، والأمر بما تعرفه من معروف ، والنهي عما تنكره من منكر.

هذه الشعب الثلاث نجدها مجموعة واضحة في كتاب الله عز وجل : ) ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ( .

نزعة الإلحاد :

أنا نزعة الجحود فإنها في الغالب وليدة الغرور : الغرور بنوع من العلم يظن صاحبه أنه أحاط بكل شيء علما .

هذا الغرور الإنساني بشعاع من العلم يظنه كل العلم أو بنسمة من القدرة يظنها كل القدرة ، هو الذي يثير في الإنسان غالبا نزعة الجحود والإنكار ، ويجعله يكاد يؤله نفسه .

هناك عامل آخر من عوامل الشك والجحود معا ، هو عامل خفي غير مباشر ، ولكنه سبب قوي فعال .. ذلك هو سلطان الهوى على النفوس ، وحب إرضاء الغرائز الدنيا ، والرغبة في النزول على حكم الشهوات ، والتحرر من كل القيود والمسئوليات .

التفاني في العقيدة : 

إن الذي بدون عقيدة ، لا يساوي شيئا ، فالعقيدة أساس له ولا يستقر بناؤه لحظة بدونه ، والعقيدة القوية هي التي تحمل صاحبها على التفاني فيها .. والتضحية من أجلها .

فهناك عقيدة ضامرة ذابلة ضئيلة هزيلة ، زاحمتها شئون الحياة اليومية ، فألجأتها إلى حاشية من حواشي النفس ، وتركتها عاطلة لا عمل لها ، هامدة لا حراك بها ، إلا في فترات قصيرة لا تلبث أن تعود بعدها إلى سباتها العميق .. 

تلك وا أسفاه هي حال العقيدة في نفوس الكثرة الكاثرة منا أفرادا وجماعات ، أليس أكثر الناس يؤمنون بواجب التضافر والتآزر وهم أشتات متفرقون . 

وهناك عقيدة نصف عاطلة تهيمن على جانب واحد من جوانب السلوك ولا سلطان لها على الجانب الآخر منه .. مثال ذلك أننا نرى فريقا من الناس يحسنون معاملة الخلق ، ولا يحسنون معاملة الخلق .

وأخيرا هناك عقيدة سوية قوية حية نامية ، يقظة واعية ، مسفرة مشرفة ، يغمر ضوؤها جوانب النفس ، ويسري ماؤها في أغوار القلب ، فهي للضمير منارة الذي يهديه سواء السبيل ، وهي للإرادة قوتها النازعة الوازعة ، عن أمرها يصدر صاحبها في حركاته وسكناته ، ونحو أهدافها يتوجه في أقواله وأعماله ، يتلقى دائما وحيها ويستلهمه ، ويتوخى إرشادها ويترسمه .

في الصلاة 

الصلاة هي هذه الرابطة الروحية المثلثة : بين المصلي وبين ربه ، وبينه وبين إمامه ، وبينه وبين سائر المؤمنين – هذه الرابطة الروحية كثيرا ما تتمثل في صورة مجسمة ، في جماعة حاضرة ، نراها رأي العين ، ونحس فيها تزاحم المناكب ، وتجاوب الأصوات ، وتناسق الحركات والسكنات ، حتى إذا غابت هذه الجماعة عن الإبصار ، فإنها لن تغيب عن البصائر ، وإذا تجردت من الأشباح ، فإنها لتبقي مائلة في القلوب والأرواح ، ومن ثم لا ينبغي للذي يصلي في خلوته أن يظن نفسه منفردا منعزلا في موقفه .. كلا ، بل ليذكر أن عن يمينه وعن شماله ، ومن أمامه ومن خلفه ألوف الألوف من الصفوف ، في مشارق الأرض ومغاربها يشدون أزره ، ويؤيدونه في جوهر مطالبته .. إنهم معه يستقبلون قبلته ذاتها ، ويرددون مقالته عينها .

هكذا ينبغي لكل مصل أن يعد نفسه عضوا في وفد الرحمن ، لا يناجي ربه بلسانه وحده ، بل بلسان إخوانه المؤمنين ، الحاضرين منهم والغائبين .. ألا أن الوحدة التي يرمي هذا التشريع إلى تحقيقها ، لأوسع مجالا وأبعد مدى ، من أن تقف عند حدود الجيل الحاضر ، أنها تريد أن تنتظم في سياج واحد كل أهل القبلة من الأجيال الماضية والحاضرة والمستقبلة .

في الزكاة 

وإذا كانت الصلاة بمثابة رباط متين بين الإنسان وخالقه ، وترويض للنفس على النظام والطاعة ، وللقلب على الخشوع في غير مذلة ، وتهذيب للخلق وصهره في بواتق الديمقراطية الخالصة.

فإن الزكاة لبمثابة الضريبة الإنسانية ، يدفعها المقتدر إلى مستحقيها ، ليحيى بها نفوسا ، ويشبع بها بطونا ، ويسمح بها دموعا ، ويزيل بها آلافا .

أما الزكاة ، فهي أشبه ما تكون بالضريبة الإنسانية ، يدفعها من يملكون نصابها إلى بين مال المسلمين ، ليتولى صرفها في أوجهها ، وقد روعي في أوجه الصرف هذه أن تمت معظمها إلى الإنسانية بصلة ، فالإسلام دين إنساني قبل كل شيء .

وإذا كان المسلم حرا إزاء الصدقة ، له أن يبذلها متى يشاء وأينما أراد ، فليس له هذه الحرية إزاء الزكاة ، لأنها فرض عين مقدس ، ما دام في الدولة حكومة إسلامية قائمة تنظم سياستها المالية.

إن الشرائع بأسرها ، سماوية كانت أم وضعية ، لم تتضمن تشريعا كتشريع الزكاة الذي تضمنته شريعة الإسلام ، هذا التشريع الإنساني الذي يفرض على المسلم الغني ضريبة مقدسة ، يفيد منها المجتمع الذي يعيش فيه وتفيد منه الدولة التي ينتسب إليها .

إني أدعوكم إلى التفكير مليا في سر هذا التشريع ، لتعلموا أنه تشريع مثالي ، يخلق المجتمع المثالي . انظروا إلى هذه التربية العملية على الوحدة والمساواة مرتين .

تتنازل الأمة كلها جملة واحدة ، لتذوق مع المحرومين طعم العوز والحرمان ، ثم تصعد الأمة كلها آخذا بعضها بأيدي بعض ، لترتفع فوق مستوى العوز والحرمان ، تتذوق مع المتذوقين طعم الارتقاء الذي يليق بالإنسان .

في الصيام

الصوم في الإسلام لا يكفي فيه هذا المظهر السلبي المادي ، الذي يقوم على اجتناب المفطرات لأي باعث كان ، ولأي هدف اتفق .. وإنما هو قبل كل شيء عمل روحي إيجابي ، يتحرى فيه العامل الهدف الذي حددته له الشريعة ، ويجعل نيته فيه ، وفقا لإرادة ربه منه .. فاعرف إذا ماذا أراد ربك من صومك ، وأعمل على أن تكون نيتك وفقا لإرادته ، وليكن أول ما نذكره من ذلك ، أن الله الرحيم لا تعنيه من صومك حرارته ومرارته ، ولا ينال من جسمك ذبوله وهزاله .. وإنه إذا كانت هنالك أديان ونحل ترى في ألم الجسم مقصدا يطلب ، وترى في الارتقاء بالطيبات عدوا يحارب ، فليس الإسلام من بين هذه الأديان .

فجعل الصوم اختبارا روحيا وتجربة خلقية ، وأراد منه أن يكون وسيلتك إلى نيل صفة المتقين ، وأداتك في اكتساب ملكة التقوى .

التقوى .. هذا هو الهدف الحقيقي ، الذي إن أصبته جاءت من ورائه كل الثمرات مكرهة راغمة ، وإن أخطأته فقد أضعت عملك .

المعاني الإيجابية في الصوم :

إن ما في الصوم من كبت وحرمان ، ليس هدفه هذا الكبت والحرمان ، وإنما الصوم وسيلة إلى غاية نبيلة .. إنه التدريب على السيادة والقيادة ، قيادة النفس وضبط زمامها ، وكفها عن أهوائها ونزواتها ، بل إنه التسامي بتلك القيادة على أعلى مراتبها .

ولئن كان الصوم قد علمك كيف تنتصر اليوم على نفسك ، لقد أصبحت به أجدر أن تنتصر غدا على عدوك .. وتلك عاقبة التقوى التي أراد الله أن يرشحك لها بالصيام .

إذا كان من شأن الأمم الحية التي تعني بتاريخها وأمجادها أن تبتهج وتحتفل بذكرى مولد دستورها ، فلم يكن بدعا من الأمر أن يجعل الإسلام شعار رمضان هو الاحتفال بمولد دستوره السماوي ، الذي ختم الله به الشرائع وأتم به مكارم الأخلاق .

المظهر الجماعي في صوم رمضان 

إن هذا الضرب من الصوم يمتاز عن سائر أنواع الصيام في الإسلام ، بأنه لا يخص فردا دون فرد ، ولا فئة دون فئة ، كشأن النوافل والكفارات ، وأنه لم يترك لأحد الخيرة في تحديد بدايته ونهايته ، ولا في جمعه وتفريقه متى شاء وبقدر ما شاء ، ولكنه جعل ضريبة الوفاء على الأمة جمعاء ، في موسم معين من العام ، وفي مقدار معين من الأيام ، وفي وقت واحد وفي نسق واحد.

ونحن حين ننظر إلى فريضة الصيام ، نرى فيها مظهرا من مظاهر هذا التماسك ، وهذه الأخوة والمساواة الإسلامية ، إنهم يصومون معا , ويفطرون معا دون امتياز لأحد .

كذلك تنصهر القلوب المؤمنة كلها في بوتقة الصيام ، فتعود قلبا واحدا في جسد واحد .. وهذا هو المثل الأعلى في وحدة الأمة التي يؤهلنا لها صوم رمضان .

في الحج

في هذه الرقعة الوسط ، وفي هذا الجو الوسط ، تستوطن الشعوب الإسلامية التي جعلها الله أمة وسطا : وسطا في عقيدتها متجافية عن طرفي الخرافة والجحود ، وسطا في شريعتها ، نائية عن طرفي الواقعة الجامدة القلب ، والمثالية الذاهلة العقل ، وسطا في مطامحها ، بعيدة عن طرفي القناعة الذليلة ، والحرص الجشع ، وسطا في موقعها بين المعسكرات المتنافرة المتناحرة ، وسيط سلام بينهما ، وداعية أمن وطمأنينة للإنسانية كلها.

أتدري ما هذه البقعة ؟ إنها المحور الذي تلتف حوله أقطار الإسلام على بعد متناسب من كل جانب ، إنها القطب المغناطيسي الروحي الذي تنجذب إليه أفئدة المؤمنين من كل فج عميق ، إنها الكعبة : البيت الحرام ، ومكة : البلد الحرام ، ومنى : معسكر الحرم ، وعرفة : عتبة باب الحرم .. ذلكم هو مهد الإسلام في طفولته ، ومبعث نشاطه في فتوته ، جعل الله الورود إلى هذا المنهل الأول فريضة حتما على كل مسلم يستطيع إليه سبيلا ولو مرة في حياته .

تلك هي تجربة الوحدة الروحية ، تكملها وتتوجها تجربة الوحدة الاجتماعية ، ذلك أن الإسلام لم يجعل الحج عبادة وحسب ولكنه جعله في الوقت نفسه قياما للناس ، وموسما لتبادل مصالحهم ، وفي مختلف وجوهها وأنواعها ، بل إنه لأمر ما ، جعل هذه قبل تلك في معرض بيانه للغاية المنشودة من رحلة الحج .. ألا نسمع إلى قول الله جلت حكمته ) ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله ( (الحج : 28)

إن عامة المسلمين يفهمون من شعائر الحج أنها مادية روحية أعدها الله لعباده عند أول بيت وضعه للناس ليتزودوا فيها من أنواع القربات ، ويتعرضوا فيها لفيض الرحمات ، فكل واحد منهم حين يؤديها إنما يعينه شأن نفسه وتزكيتها ، وشأن واجباته وتأديتها .

الجوانب الاجتماعية في الحج :

هناك ظاهرة عجيبة من ظواهر التشريع الإسلامي ، تلك هي الطبيعة الثنائية ، المادية الروحية ، الإنسانية الربانية ، الفردية الاجتماعية ، التي تسري باطراد ، في شعائر الإسلام ، حتى أن كل قادة قواعدها الأربع ، تمثل قطبا ذا طرفين : طرف يربط المؤمن بربه ، وطرف يربطه بإخوانه المؤمنين .. طاهرة مطردة ، كلما ازددنا في دراستها أمعانا زادتنا إيمانا ، بأن الذي فصل هذه الشريعة على مقياس الإنسان ، هو الذي فطر الإنسان روحا في مادة ، وفردا في جماعة.

هذا العنصر الجمعي ، ، هو إذا ركن ركين ، وعنصر أساسي أصيل ، من دونه لا يكون الحج حجا ، ولا يقع فرضا ولا نفلا وبعد حرص الإسلام على هذا التجمع في الحج ، حرصا يفوق كل حرص ، وجعله هو الحلقة الختامية العليا توج بها سلسلة التجمعات المحلية ، التي دعا المسلمين إليها في مختلف المناسبات .

) ليشهدوا منافع لهم ( ما أعجب هذه الكلمة .. ما أوجزها وما أجمعها . إنها لتتناول شئون الاقتصاد والسياسة والحرب والقانون والعرف ، واللغة ، والآداب ، والعلوم ، وسائر مقومات الحياة الجماعية التي تتأثر أعظم التأثر ، بهذا الاتصال والتلاقي ، كما تتأثر السوائل بتلاقيها في الأواني المستطرقة فتأخذ في التوازن والتعادل طلبا للوصول إلى مستوى واحد .

ولكن .. ولكن هل يظل المسلمون في مواسم حجهم قانعين بهذا الموقف السلبي ، الذي لا يعمل فيه إلا العقل الباطن البطئ الفاتر ؟ أليس يجب أن يتقدموا خطوة إيجابية ، توضع فيها الخطط المفصلة لهذه الوحدة الإسلامية الشاملة ؟ نعم : لقد آن الأمم الإسلامية أن تخرج من سجن هذه الفرديات المنعزلة ، والقوميات المنفصلة ، إلى محيط الجماعة الكبرى ، التي يرون منها ، نموذجا مصغرا غي هذه الرحلة المقدسة .

في حياتنا الاجتماعية 

المجتمع هو الأساس الأول الذي يقوم عليه بناء الدولة ، وحين يكون متينا قويا ، سيظل بناء الدولة إلى الأبد ثابتا والانهيار ، والأفراد هم اللبنات لهذا الأساس ، فمتى كانت هذه اللبنات سليمة ، ظل المجتمع إلى الأبد أيضا متينا قويا .

فالعناية بالفرد أولا ، لأنه لبنة في بناء المجتمع ، ثم العناية ثانيا بالمجتمع في مجموعة أفراده ، وبذلك تتيسر للشعب الدولة الناهضة النابضة بالحركة وبالحياة .

والأخلاق هي المقياس ، والمضطلعون بتقويم المجتمع ، إذا حاولوا أن ينتقلوا بمنهج الحضيض ، وبالمنهج الوسط أيضا إلى القمة ،يجب أن يبدأوا بالأخلاق أولا ، لأنها أول الخيط الذي يصل بهم إلى الغاية .

ويقيم الاتجاه الآخر السلبي ، على قاعدة المقاطعة وفي القرآن مثل واضح للثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو في غزوة تبوك ، وكان أن أمر رسول الله (r) المسلمين بمقاطعتهم ، ونفذت المقاطعة الشاملة إلى أن تاب الله عليهم .

لو أن المجتمع قامت فيه هاتان القاعدتان اللتان يرتكز عليها الإصلاح الإيجابي ، والإصلاح السلبي ، لأمكنه أن يعيش عيشة يسودها الأمن .. وتغمرها الرفاهية والسلام .

مناهج الناس في السلوك 

الناس على اختلاف مشاربهم ومنازعهم أصناف ثلاثة ، لا زائد عليها :

1- هذا صنف من الناس ، لا يفعل الخير ولكنه يحب أن يحمد به ، ويقترف الإثم ثم يرمي به من هو بريء منه ، إذا كان عليه الحق ضجر به وإذا كان له الحق ، ألح في طلبه ، ولم يقبل في ذلك معذرة ، ولا نظرة إلى ميسرة .

هذا الصنف من الناس ، إن لم يكن هو أكثر الناس ففي أكثر الناس نزعة من نزعته ، لا أقول إنها نزعة الأثرة فحسب : بل نزعة البغي والجشع .

2- وصنف ثان من الناس ، قليل ما هم ، لا يضنون بالحق الذي عليهم ، بل يسارعون إلى أدائه ، ولكنهم يحرصون في الوقت نفسه على الحق الذي لهم ، ولا يتهاونون في اقتضائه ، لا يبدأون أحدا بظلم ولا عدوان . 

3- وصنف ثالث ، هم أقل القليل ، يتجاوزون العدل إلى الفضل ، لا يظلمون أحدا ، بل يعفون عمن ظلمهم ، ولا يبخسون أحدا حقه ، بل يسمحون له ببعض حقوقهم ، فإذاكان لهم دين على معسر لم يكتفوا بإنظاره إلى الميسرة ، بل تجاوزوا له عنه تجاوزا كريما ، وأعطوه إياه عطاء غير ممنون .

وهؤلاء شعارهم في الحياة : أعط ولا تأخذ ، فإن لم تستطع فأعط من نفسك أكثر مما تأخذ .

إن القرآن حين وزع القيم الأخلاقية على هذه المبادئ ، لم يجعل القسمة بينها قسمة ثنائية ، ولكنه جعلها قسمة ثلاثية ، لها طرفان وواسطة ، جعل من بينها فضيلة واحدة رفعها إلى الطرف الأعلى ، تلك هي فضيلة الإيثار ، وجعل من بينها رذيلة واحدة ، وضعها في الطرف الأدنى ، تلك هي رذيلة الاستئثار .

أما الواسطة بين الطرفين وهي مبدأ المقاصة الدقيقة في الحقوق والواجبات ، وتحري المساواة بينهما – تلك القاعدة التي كانت الحكمة اليونانية تعدها أم الفضائل ، فإنها في نظر القرآن ليست فضيلة ولا رذيلة ، إنها لا تستحق عنده مدحا ولا ذما ، وإنما هي رخصة مباحة لا ثواب له ولا عقاب عليها . 

بين العدل والفضل 

لقد قلبنا النظر في جوانب كثيرة من إرشادات القرآن الحكيم ، سواء في نطاق المعاملات المالية ، أو في دائرة الشئون الاجتماعية ، أو في معرض الأحداث الجنائية ، فوجدناه في كل ذلك ينهي عن التزيد في حق النفس ، ويحض على الزيادة في حق الغير ، أما المعاملة بالمثل فلا نجد فيها نهيا عنها ولا تحريضا عليها ، وإنما نجد إذنا وتغييرا ورفعا للحرج ، لا زائد على ذلك .

ثم نظرنا في القرآن حين يتناول أساليب المخالطة والمعاشرة فوجدناه من جهة ينهي عن الفحش والأذى ، والإعراض عن اللغو ويثني الثناء المكرر على مقابلة الإساءة بالإحسان ، أو بالتالي هي أحسن ، أما مقابلة السيئة بالسيئة فيتركها حقا سائغا لمن حرص عليها غير باغ ولا عاد. 

أيترك دولة الإسلام نهبا لأعدائها ، أو يقطعهم شبرا من أرضها ، أو يمنحهم حق التحكم في رقبة من رقاب أهلها ؟ كلا .. إن أرض الإسلام وحقوق المسلمين ليست ملكا لفرد ولا جماعة ، وليست حقا لأمة ولا لجيل من الأمم ، إنما هي حق الأجيال كلها حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، فالتسامح فيها تصرف في حق الغير ، والضن بها والدفاع عنها ليسا مشاحة في حظ النفس وإنما هو غضب لحرمة الله والوطن .

الحلقة المفقودة 

إننا نفهم الحرية الفردية فهما سيئا متطرفا ، ونفهم المسئولية الاجتماعية فهما ناقصا محرفا ، الدولة عندنا هي المسئولة عن كل شيء ، هي التي يجب عليها أن تتعقب المذنبين وأن تتولى عقوبتهم ، فإذا لم يحصل إليها نبأ الجريمة ، أو لم تصل هي إلى كشف معالمها ، أو كانت مما لا يعاقب عليه القانون ، تركنا نحن أيضا صاحبها آمنا مطمئنا ، يلاقي الترحيب والتكريم الذي كان يلاقيه من قبل ، وتركنا كل فرد يسير سيرته الأولى غير شاعر بمسئوليته عن سلوك الآخرين ، ولا حسب حسابا لموقف الآخرين من سلوكه عقد منفرط لا ينظمه سلك واحد ، وجسم مفكك لا يهيمن عليه روح واحدة .

نحن إذن في حاجة ملحة إلى إيقاظ هذا الضمير الاجتماعي في الأمة ، لا عن طريق الدعوة الموعظة فحسب ، بل عن طريق عملي جدي ، نحن بحاجة إل تكوين رأي عام أخلاقي ، له نفوذه واحترامه في نفوس كل الأفراد ، بحيث يشعر كل امرئ أن إساءته – دقت أو جلت – ستلاقي جوابا سريعا علنيا في سلوك المجموع بإزائه ، إننا نريد أن يشعر كل باغ على حق غيره ، وكل خائن لأمانته ، وكل مضيع لواجبه ، وكل خارج على الآداب في صورة من الصور.

إن مفتاح الحل بين المجتمع نفسه ، هو أن يحاول أفراده أن يكونوا يدا واحدة في الصراحة بالحق ، يبدأون ببذل النصيحة بالحسنى لكل من زلت به قدمه ، فيذكرونه كلما نسي ، وينهونه كلما غفل .. حتى إذا عادوا وعاند ، أشعروه بإعراضهم ، وحرموه بشاشة وجوههم ، حتى يفيء إلى أمر الله.

بين المثالية والواقعية 

يمتاز التشريع الإسلامي بأنه تشريع وسط يقوم على أساس من الاعتدال ؛ الاعتدال في كل شيء في التعبد بحيث لا يتطرف المسلم ولا يتحلل .

هكذا يقف الإسلام دينا وسطا ..

لا يجنح إلى المثالية الخيالية ، لأنها أشبه ما تكون بضرب من ضروب المحال ، ولأنها تكليف للنفس فوق طاقتها ، وضد غرائزها وطبائعها .

كما لا يميل إلى الواقعية المتزمتة ، لأن فيها عزوفا عن المثل العليا .

إن الإسلام يرغب في الواقعية الحازمة تطبيقا لمبدأ العدل ، كما يرغب في المثالية المعتدلة ، تطبيقا لمبدأ الإحسان .

مع آداب القرآن 

تصافح وتسامح ، تواضع وتنازل ، تسابق إلى الفضل والإيثار ، قبول للقليل ، وبذل للكثير .. ذلك هو معنى الإحسان ، وذلك هو أدب المعاملة في القرآن . شرعه الله للخلطاء والعشراء القرناء والعملاء ، وجعله بينهم هو الفضيلة الوحيدة ، التي تستحق حمده وثناءه ، وتستوجب عنده تحميل جزائه .

غير أن هذه الفضيلة العلمية الاجتماعية ، على عظم قيمتها ، وجزالة نفعها ، سوف تبقي عملا سطحيا ، وعرضا وقتيا ، لا ثبات له ولا استقرار ، بل سوف تكون أقرب إلى الرياء منها إلى العمل الفاضل ، ما لم تصدر طوعا واختيارا عن نفس راضية مطمئنة ، غير كارهة ولا مكروهة .

فضيلة المحبة الشاملة ، والرحمة السابغة ، التي تضم تحت جناحيها أصناف الخلق كلهم ، قريبهم وبعيدهم عالمهم وجاهلهم برهم وفاجرهم ، بل أقول مؤمنهم وكافرهم .

ليخرج لنا من بين هاتين المقدمتين مصداق القضية التي نقررها ، وهو أن هذه المحبة الشاملة هي الخلق الذي يرضاه الله لسائر المؤمنين . لكأني بمن يقرأ هذا البحث في هذه المحبة والرحمة التامة العامة ، يظنه حديثا عن حلم من الأحلام ، أو عن شريعة غير شريعة الإسلام ، أو عن عالم غير عالم الإنسان ...

إن في أدب القرآن ، مبدأين متعارضين ، أو بعبارة أدق يبدوان متعارضين في بادئ الرأي ؟ 

المبدأ الأول : 

مبدأ الفضيلة الإنسانية والتي تتقاضانا أن نشمل الناس جميعا برحمتنا ومحبتنا تخلقا بأخلاق الله ، الذي وسعت رحمته كل شيْ ، وتأسيا برسول الله ، الذي كان مضرب المثل في الشفقة على الجميع ، والحرص على خير الجميع ، وانتظاما في سلك المؤمنين الأولين ، الذين كانوا يحبون أهل الديانات السابقة وإن كان هؤلاء لا يحبونهم ، وأخيرا عملا بتوجيه القرآن الكريم الذي عقد بين الناس جميعا رحمة الأخوة النسبية ، ثم جعل التذكرة بهذه الأخوة وسيلة لاستدرار عاطفة الرحمة على كل من يشاركنا فيها .

المبدأ الثاني : 

مبدأ الواقعية العملية الذي تتسم به وصايا القرآن في شئون التشريع عامة ، وفي شأن الحب والبغض خاصة .. فالقرآن الكريم يقرر ويكرر أنه دين الفطرة ، وأنه لا يحمل أحدا فوق طاقته ، ولا يكلف نفسا إلا وسعها ، ومعلوم أن النفس البشرية – وقد طبعت على نزعتي الرضا والغضب ، وجبلت على غريزتي المحبة والكراهية ، لا يمكنها أن ترضى عن النقيضين ولا تجمع بين محبة الشيء وكراهيته ، كما ليس في وسعها أن تتحول من العداوة إلى المودة بمحض اختيارها ، ألم يقرر القرآن نفسه أن هذا التحول ليس من صنع البشر ، وإنما هو من صنع الله وحده .

فانظر كيف اعترف بموجود العداوة بيننا وبين فريق من الناس ، ثم لم ينهنا عنها ، ولم يأمرنا بالتخلص منها . ولكنه بعث في نفوسنا الأمل بأن عدو اليوم قد يكون حبيب الغد ، إذ شاء الله . وأنه قدير ، وأنه غفور رحيم .

لنبدأ من هذه الأوضاع بأيسرها وأطوعها لمبدأ المحبة المثالية العالمية ، ألا وهو الوضع الأول ، المسالم المحايد ! 

هذه النظرة المحبة الرحيمة ، الشاملة السابغة ، ليست داخلة في حدود الإمكان وحسب ، ولكنها واقعية عملية تعرفها القلوب الراضية المطمئنة ، وإنها عند الله لأفضل من كثير من الصلاة والصيام .

نحو محبة شاملة 

إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع 

وأن كنت تعني أن نطبق هذا المبدأ على الذين عاشرناهم وجربناهم فكانوا علينا رحمة وسلاما ، لم يصل إلينا من عشرتهم سوء ، ولم ينالوا بأذى ، فسمعا وطاعة كذلك ، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ 

هكذا تتنوع الإنسانية في نظرهم إلى أربعة أصناف : صنفان منهم أهل للمحبة والولاء من أولانا وسالمنا ومن جانبنا وحايدنا ، وصنفان أهل للكراهية والعداوة ـ من عادانا وآذانا ، ومن اعتدى على حرماتنا ومقدساتنا ، وإن لم يمس أشخاصنا بسوء .

أما أنه لو كانت نظرة القرآن إلى العقوبة نظرة التشفي والانتقام من المستحقين لها ، إذا لأوقدوها عليهم حربا لا تطفأ نارها ، وما قبل منهم بعد ذلك تبديلا ولا تحويلا ، كيف وهو يقول : 

) فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ( (المائدة : 39) 

الإسلام .. والعلاقات 

هل جاء الإسلام ليكون دينا محليا ، يستوعب جزيرة العرب .. وما حولها ؟

وهل جاء ليدعو إلى إيجاد أمة إسلامية تتعصب لدينها وجنسها ؟

أولا : لم يجيء الإسلام ليكون دين الجزيرة العربية ، لأنه بدأ يخاطب الناس جميعا : وأعلن أن رسالته إلى العالم كافة .

وثانيا : لو جاء ليكون أمة إسلامية وسطا ، تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ، لما كان في ذلك شيء .. وإنما الحقيقة التي يجب أن توضح لكل ذي عينين ، هي أن الإسلام وإن كان قد جاء لتأليف أمة إسلامية ناهضة – إلا أنه قد دعا إلى أخوة عالمية تقوم على أساس من التعارف .

إن هدف الإسلام من إيجاد أمة إسلامية ، إنما لتكون أمة وسطا ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وذلك لتؤدي مهمة نبيلة إنسانية من أجل السلام العالمي ، والأمن الدولي .

الإسلام وكرامة الفرد 

إن الكرامة التي يقررها الإسلام للشخصية الإنسانية ليست كرامة مفردة ولكنها كرامة مثلثة : كرامة هي عصمة وحماية ن وكرامة هي عزة وسيادة ، وكرامة هي استحقاق وجدارة .

كل إنسان له في الإسلام قدسية الإنسان ، إنه في حمى محمي ، وفي حرم محرم .. ولا يزال كذلك حتى ينتهك هو حرمة نفسه وينزع بيده هذا الستر المضروب عليه ، بارتكاب جريمة ترفع عنه جانبا من تلك الحصانة ، وهو بعد ذلك بريء حتى تثبت جريمته وهو بعد ثبوت جريمته لا يفقد حماية القانون كلها ؛ لأن جنايته ستقدر بقدرها ولأن عقوبته لن تجاوز حدها ؟ فإن نزعت عنه الحجاب الذي مزقه هو ، فلن تنزع عنه الحجب الأخرى .

نعم إن الإسلام لم يكتف بأن عرف كل فرد حقه نظريا في هذه الحصانة الإنسانية ، ولكنه أخذ يهيب به أن يدافع عن خذا الحق ، وطفق يحرضه أشد التحريض على أن يقاتل دونه وأن يضحى بنفسه في سبيه .

إلا فلنسمع صوت نبي الإسلام عليه السلام : [ من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ، ومن قتل دون مظلمته فهو شهيد ] .

هذه المرتبة من الكرامة هي كسابقتها منحة طبيعية عامة تولد مع الإنسان ، غير أنه لا يشعر بها على تمامها ، ولا يقدر حق قدرها إلا المؤمن الموحد الذي لا يعرف السجود لحجر ، ولا لشجر ، ولا لشمس ولا لقمر ولا لملك ولا لبشر ، وهكذا يضم كرامة الإيمان إلى كرامة الإنسان .

وهل كانت الصيحة الأولى للإسلام إلا صيحة التحرير من ربقة العبودية ؟ وهل كانت حملتنا الأولى إلى حملة التطهير من ذل الخضوع ، والخنوع لشيء أو لأحد غير الله ؟ 

إن الاسترقاق إهدار للكرامة الإنسانية فكيف يكون من صنع الإسلام الذي أعلن كرامة الإنسان وإن الاستعباد تبديل للفطرة فكيف يكون من نظم الإسلام الذي هو دين الفطرة . 

فماذا صنع محمد (r) حين جاء بالإسلام ؟

إنه أعلنها ثورة غاضبة على هذه الأوضاع كلها .. ولكنها صورة حكيمة منظمة ، كثورته على الخمر وثورته على الربا ، وثورته على سائر النظم الفاسدة المزمنة والرذائل الموروثة المتمكنة .

الإسلام والسلام 

أليس يبرز الإسلام أمامك في شعاب (مكة) ووديانها رافعا راية السلام ، باسطا جناحي رأفة ورحمة يفيء إلى ظلهما الوارف ، أنصاره وأعداؤه على السواء ؟ ألست تسمع كتاب الإسلام وهو يحدد مهمة حامله ؟ فإذا هي هداية وإرشاد ، وموعظة وتذكير ، وإنذار وتبشير ، ويجمع ذلك كله في كلمة واحدة بلاغ : ) ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ( .

أكان محمد متعطشا للدماء بفطرته ، ولم يمنعه من سفكها إذ كان في (مكة) إلا أنه كان من الأعوان في قلة ولم يكن أعوانه في عامة الأمر يومئذ إلا الضعفاء والمستضعفين ، فكان تسامحه حينذاك ضرورة ألجأه إليها العجز وفقد النصير ، حتى إذا واتته الفرصة في موطنه الجديد اهتبلها وغمس يده في الدماء إشباعا لغريزة الثأر والتشفي ؟ 

فالواقع أن أول حرب في الإسلام لم يوقدها المسلمون بل كانوا وقودها ، وأن أعداء الإسلام هم الذين أشعلوا نارها ، وأطاروا شررها ، لا أقول أنهم كانوا سببها البعيد فحسب ، بل كانوا هم معلنيها عمليا . والمتسببين فيها من طريق مباشر ، وما كان من المسلمين إلا أنهم قبلوا التحدي وردوا التعدي .

ولقد قام القرآن بهذه المهمة على أدق وجه في آيات جامعات استبان بها أن الحرب ليست هي القاعدة ، إنما هي استثناء من القاعدة ، وأنها لا يخلقها الإسلام ، ولكن يخلقها أعداؤه بعدوانهم المسلح على دعوته السلمية ، إنها ضرورة تقدر بقدر أسبابها ، وعقوبة تزول بزوال الجريمة التي استوجبتها ، وبالجملة أنها محدودة بحدود الدفاع المشروع لا تستقدم عنه خطوة ، ولا تستأخر خطوة : ) وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ( .

القانون الدولي .. والإسلام 

يكاد يتفق علماء التشريع في الغرب ، ويتابعهم كثير من الشرقيين ، على أن فكرة (القانون الدولي العام) فكرة حديثة العهد ، ابتدعتها أوروبا في العصر الأخير .

كلنا نعرف أن محمدا (r) لبث زهاء عشر سنين في اتصال دائم بأمم وديانات مختلفة ، معادية طورا ومسالما طورا وطبيعي أن هذه الظروف الخاصة التي جعلت للإسلام سلطانا زمنيا وحكما عالميا – إلى جانب كونه عقيدة روحية ، ومبدأ أخلاقيا – كانت تتقاضاه أن يضع تشريعا لقانون السلم والحرب بين الأمم ، وقد كانت إجابته لهذه الحاجة الملحة شافية لغلة المشرعين مرضية للضمائر السليمة لدي الحكماء وذوي الخلق الكريم .

إن الحرب المشروعة في الإسلام هي (الحرب الدفاعية) ويجمل بنا أن نشير إلى أن كلمة الدفاع ينطوي تحتها نوعان قد أشار القرآن إلى كليهما :

1- الدفاع عن النفس وفيه يقول الكتاب المجيد : ) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ( (الحج 39 ،40)

2- الإغاثة الواجبة لشعب مسلم أو حليف عاجز عن الدفاع عن نفسه : 

) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) ( (النساء : 75) .

إن القرآن حين أباح الحرب الدفاعية المشروعة قد ميز تمييزا واضحا بين المحاربين وغير المحاربين ، فأمر بألا يقتل إلا المقاتل ، ولابد أن نفهم من كلمة المقاتلين : أنهم الذين يحضرون ميدان القتال فالفعل ، ويستخدمون فيه قوتهم العدوانية . 

العلاقات السياسية :

رأينا كيف نظم الإسلام حالة الحرب .. فلننظر الآن ، كيف نظم علائق السلم ، وأول ما يعنينا من ذلك طريقة معاملته لمبعوثي أعدائه ، وحاملي رسائلهم ، وممثليهم السياسيين وهي معاملة يحق لنا أن نقول فيها إنها سديدة مستقيمة فالإسلام فوق ما يكفله لهم من صيانة وأمن على الأرواح ، يمنحهم نوعا من الحضانة الاجتماعية التي تخولهم حرية العودة إلى أوطانهم متى شاءوا ، ولا يدع سبيلا إلى حجزهم في بلادنا بحجة أنهم من قوم عدو لنا .

يلي ذلك طريقته في الاستماع لهؤلاء المتفاوضين وحسن استعداده للتفاهم أو التعاقد معهم ، فالقرآن يحض الرسول على قبول مبدأ الصلح متى وجد من العدو ميلاد إليه : ) وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ( .

فإذا نحن رجعنا إلى السنة النبوية وجدناها قد بلغت من الدقة في تطبيقها لهذه التعليمات القرآنية مبلغا ينتزع الاحترام من النفوس .

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

42

متابعين

5

متابعهم

1

مقالات مشابة