الحضارة فريضة إسلامية

الحضارة فريضة إسلامية

0 المراجعات

الحضارة فريضة إسلامية 

(1) تمهيد 

القرآن يقص علينا أن الله بعد أن خلق الإنسان من طين ، أي من مادة ، أضاف إلى هذه المادة عنصرا آخر روحيا بأن نفخ فيه من روحه .

واقتضت إرادة الله أن يعد الله للخلافة في الأرض وأن يكلفه بمعمارتها ، ولما كانت عمارة الأرض لا تكون إلا بالعلم فقد كان التكريم الثاني للإنسان بالعلم ، فعلمه الله الأسماء كلها قبل أن يهبط إلى الأرض ، أي سلحه بالعلم الذي يستطيع به أن يقوم بمهمة إعمار الكون وصنع الحضارة فيه . وجاء هذا التكليف بهذه المهمة في قوله تعالى : ) هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ( (هود : 61) 

(2) على بدء :

وبعد أن استقر الأمر بالإنسان على الأرض وبدأ في ممارسة مهمته فيها في ضوء التعليم الإلهي توالى إرسال الرسل إلى البشر يبلغونهم رسالات الله ويذكرونهم بالمهمة التي كلف الله بها الإنسان ، إلى أن جاء الدور على محمد (r) الذي جعله الله خاتم الأنبياء والمرسلين ، فكان أول الوحي إليه عودا على بدء ، عودا إلى التكليف الإلهي الأول للإنسان ؛ للقيام بهمته التي كلف بها وهي إعمار الأرض ماديا ومعنويا .

فكانت هذه الآيات الأولى عودا على بدء ، وتذكيرا بالعلم وأهميته البالغة في إعمار الكون ، وهذا يعني استمرار التكليف الإلهي واستمرار التركيز على العلم ، فلم تكن هذه الآيات الأولى من الوحي الإلهي مقطوعة الصلة بالبداية الأولى ، وإنما كانت تتويجا لرسالات الأنبياء ممثلة في الرسالة الخاتمة التي اصطفى الله لها محمدا (r) الأمر الذي يؤكد لنا أن رسالة الدين بصفة عامة هي الإعمار والبناء ، هي العمل من أجل الخير والحق والسلام ، وهذا يؤكد لنا من ناحية أخرى أن الدين قد جاء لمصلحة الإنسان ، ومن أجل خيره وسعادته في دنياه وأخراه .

والمطلوب منه القراءة هو الإنسان . فمن هو هذا الإنسان الذي تكرر ذكره مرتين أيضا في هذه الآيات الأولى من الوحي القرآني ؟ 

(2) الإنسان :

لقد شاء  إرادة الله أن يخلق نوعية من الكائنات : أحدهما مسخر لا حيلة له من أمر نفسه ولا حرية له ولا اختيار . وهذا أمر ينطبق على جميع الكائنات الأرضية ما عدا الإنسان . فكل هذه الكائنات مسخرة بأمر ربها تسبح بحمده ولكن لا نفقة تسبيحها والسماوات والأرض .

ولما كان الإنسان مكلفا أي مسئولا فلابد أن يكون حرا من أجل ذلك منحة الله الحرية في الفعل والترك ، حتى في قضية العقيدة الدينية نجد القرآن يؤكد هذه الحرية بكل وضوح في قوله : ) فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ( .

ولأهمية العلم والتعويل عليه في إعمار الكون وصنع الحضارة فيه جعله الإسلام فريضة من فرائض الدين ، وقد جاء الحديث الشريف عن رسول الله (r) : [ من سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله به طريقا من طرق الجنة ؛ فإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ، وإن العلماء هم ورثة الأنبياء ] (رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان وسنده حسن) 

والإنسان يستطيع من منطلق حريته – أن يسخر علمه وفكره وقدراته من أجل خير الناس ، وهنا تكون الفرصة مواتية لصنع الحضارة والتقدم ، كما يستطيع الإنسان أن يفعل العكس في ذلك تماما ويسخر كل إمكاناته للهدم والتخريب والتدمير وهنا تكون الحرب التي تهلك الحرث والنسل وتعصف بكل شيء جميل بناه الإنسان .

(4) الدين : 

ويعد الدين نزعة فطرية أصيلة في نفس الإنسان . وليست هناك أمة في التاريخ عاشت ثم مضت دون أن يكون لها تصور بشكل من الأشكال عن الدين والألوهية والمصير . وإذا كان الدين يلبي حاجات الإنسان الروحية فإن ذلك يعني أنه قد جاء لمصلحة الإنسان .

فالإنسان إذن هو قضية القضايا في الدين ، وهو محور هذا الكون وهو سيد في هذا الكون ، والذي أعطى له هذه المكانة الفريدة هو الله الذي جعل خليفة في الأرض ، وأسند إليه مهمة تعمير الكون وصنع الحضارة فيه .

وإذا كانت تعاليم الإسلام قد جاءت من أجل مصلحة الإنسان فإنها قد نظرت إلى هذه المصلحة بطريقة متوازنة فقد اهتمت بأمر الدنيا كما اهتمت بأمر الآخرة ، وطلبت من الإنسان أن يقيم التوازن بينهما .

وهكذا نجد أن الإسلام ينظر إلى الإنسان نظرة رفيعة : فهو إذ يلبي حاجاته المادية ، فإنه في الوقت نفسه لا يهمل حاجاته الروحية من خلال هذا المزج الفريد المتوازن بين هذين الجانبين تستقيم حياة الإنسان ، وبالتالي يكون شخصية سوية قادرة على القيام بواجبها في إعمار الكون ماديا ومعنويا .

يتحدث مباشرة عن مفاتيح الحضارة : عن القراءة والعلم وتدوينه والإنسان ودوره .

فالدين إذن يدفع الإنسان دفعا إلى طلب العلم – الذي هو فريضة إسلامية – إيمانا منه بأن ذلك الطريق سيوصل في النهاية إلى خالق الكون أي إلى الإيمان بالله .

مفهوم الحضارة 

مفهوم الحضارة مرتبط بمفهوم التقدم ، فالحضارة إذن نقلة تقدمية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى : تقدميه في الفكر وفي السلوك وفي أسلوب التعامل مع الناس والأشياء . وهذا كله في إطار منظومة من القيم تتعدى الإطار القبلي إلى دائرة الإنسانية الأوسع والأرحب .

وقد كان للإسلام دور كبير في تنبه الأذهان إلى هذه الدائرة الجديدة مؤكدا على العنصر الإنساني الشامل : ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا( (الحجرات:13) 

وهذا التعارف يقتضي التفاهم والتعاون المشترك في سبيل ترسيخ قيم إنسانية مشتركة تسع الناس جميعا في كل زمان ومكان .

(2) الطبيعة المزدوجة للحضارة :

إن الحضارة تعد نقلة تقدمية في الفكر وفي السلوك وفي أسلوب التعامل مع الناس والأشياء.

وليس هناك من شك في أن هناك عوامل كثيرة تشترك معا في تكوين الحضارة ، ويشير (لو ديورانت) في هذا الصدد إلى عوامل جيولوجية وجغرافية واقتصادية ونفسية .

(3) الحضارة وقضية الإنسان :

ولقد لجأ مالك بن نبي في تعريفه للحضارة إلى معادلة رياضية تقول : 

إن الحضارة = إنسان + تراب + وقت .

وبذلك فإن المشكلة الحضارية تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية : مشكلة الإنسان ، ومشكلة التراب ومشكلة الوقت أو الزمن ، وتقوم الفكرة الدينية بعملية المزج بين هذه العناصر الثلاثة .

هو الكائن الوحيد في هذا الكون الذي وصفه الفلاسفة والمفكرون كل في مجال تخصصه بأنه كائن عاقل أو كائن اجتماعي ، أو حيوان متدين ، أو حيوان عقلاني ، بمعنى أن كل صفة من هذه الصفات لا توجد في كائن آخر في هذا الوجود غير الإنسان ، فالإنسان وحده هو الذي ينفرد بها .

ولكن هذه الصفات ليست كل شيء في الإنسان ، فهناك صفات أخرى فريدة يختص بها وهي – على سبيل المثال لا الحصر – التقنية والتراث والتقدم .

وهكذا نجد أن مركز الدائرة الحضارية هو الإنسان ، وأهم خصائصه العقل ، والعقل يعني الكرامة الإنسانية واستقلال الشخصية ، ويعني المسئولية ، ويعني الحرية .

وإذا كانت ضرورة للتحضر – فإنها تصبح عديمة المعنى إذا لم تتوفر للإنسان وسائل العيش من القوت والكساء والمأوى ، وإذا لم يتوفر له الأمن على نفسه وماله وعرضه وعقيدته ، وفي هذه الحرية تكمن كرامته الفريدة وفرصته في تحقيق وجود إنساني يليق بكرامة الإنسان.

(4) الحضارة والميراث الحضاري :

ومما لا شك فيه أن الحضارة تعد امتيازا للإنسان – فالإنسان وحده صانع الحضارة – ولكن الحضارة ليست ببساطة شيئا موروثا أو مجبولا في فطرة الإنسان ، وإنما هي ثمرة جهود تبذلها الأجيال المتعاقبة ، والتربية هي الوسيلة التي تنتقل بها الحضارة من جيل إلى جيل.

(5) الحضارة والالتزام الأخلاقي :

إن الحضارة في جوهرها تعد التزاما أخلاقيا فإننا نعني بذلك أن الحضارة مسئولية ، فهي التزام أخلاقي يجعل المرء على وعي بالمسئولية الكبيرة التي يتحملها الإنسان الفرد ، ليس فقط تحمله المسئولية عن أفعاله الخاصة – وإنما بمعنى معين – تحمله المسئولية عن العالم الذي يعيش فيه ، فكلنا نعيش فوق كوكب أرضي واحد أصبح مثل سفينة تتقاذفها الأمواج من كل جانب ، ونحن جميعا – سكان هذا الكوكب – مسئولون بدرجات متفاوتة عما أصاب هذا الكوكب الأرضي من تلوث في الماء والهواء والغذاء ، وما أصاب طبقة الأوزون من تآكل ينذر بخطر داهم يهدد البشرية كلها .

ومن هنا يعني السعي من أجل سيادة السلوك الأخلاقي في مقابل الحضارة الشيئية البحتة مسئولية يشترك في تحملها كل فرد ، فقد ألقت المقادير في يد الحرية الإنسانية مصير هذا النزاع القديم المتواصل حول سيادة العقل .

والإنسان لا يمكن أن يكون مسئولا إلا إذا كان حرا ومقدرته على أن يكون رائدا للتقدم ، بمعنى أن يفهم ماهية الحضارة وأن يعمل من أجلها ، تتوقف على كونه حرا ؛ إذ ينبغي أن يكون مفكرا ليكون قادرا على فهم مثله وتصورها ، وينبغي أن يكون حرا لكي تتاح له الفرصة لأن يدفع بمثله في الحياة العامة حتى تترجم إلى واقع ملموس .

والحضارة الحقيقية التي تسود فيها القيم الإنسانية من شأنها أن تجعل روح التسامح تسري بين الناس ، وفي ظل هذه الحضارة ينتفي التعصب الأعمى ، ويختفي العنف الجهول والإرهاب الفكري بكل صوره وأشكاله .

(6) الأبعاد الأساسية للحضارة :

1- البعد الإنساني : ونعني بذلك فهما مزدوجا على المستوى الفردي وعلى المستوى العام .

2- البعد الأخلاقي : بمعنى الالتزام بمنظومة القيم الأخلاقية التي تعني سيادة العقل على نوازع الإنسان وما يرتبط بذلك من التزام أخلاقي مسئول بأوسع معاني الالتزام والمسئولية .

3- البعد التقدمي : بمعنى أن الحضارة تعد نقلة تقدمية في مجالات العلم والفكر والسلوك وفي أسلوب التعامل بين الناس .

4- البعد الديني : فالدين يعد أحد العناصر الفعالة وأحد المقومات الأساسية في كل حضارة.

5- البعد الثقافي : بمعنى مراعاة التواصل الحضاري والحفاظ على كل ما هو جوهري في ذاتية الأمة .

6- البعد التوازني : بمعنى ضرورة مراعاة التوازن بين متطلبات الإنسان العقلية والمادية والوجدانية ؛ فالحضارة واحدية الجانب أو التي يختل فيها التوازن تحكم على نفسها بالفناء .

7- بعد التعددية الحضارية : بمعنى إدراك واقع التعددية الحضارية ، والاعتراف بالتمايز الحضاري في العالم ، هذا التمايز الذي لا يعني بالضرورة التناقض أو التضاد ، ويعني من جانب آخر الانفتاح على كل الحضارات والثقافات والأديان والحوار معها بهدف تحقيق الخير للإنسانية ، والعمل على ترسيخ أسس السلام والعدل والاستقرار في العالم .

الإسلام والحضارة 

(1) تمهيد :

فإذا كان الإسلام دين حضارة وتقدم لما وجدنا هذا الوضع المتخلف في عالم الإسلام ، وهكذا يرجع هذا التخلف إذن إلى الإسلام ذاته .

ومن هنا فإن المسلمين إذا أرادوا أن يتحرروا من أسر هذا التخلف فإن عليهم أن يتحرروا من الجمود الإسلامي وأن يأخذوا بالنموذج الغربي الذي دفع بالغرب إلى قمة التقدم والحضارة.

فهذا الدين الذي ظهر في الصحراء لم يعد يستطيع مسايرة الحياة المعاصرة ، ومن هنا فلابد من طرح ما فيه من جمود حتى يمكن للمسلمين اللحاق بركب العصر.

إننا كمسلمين لا نستطيع أن ننكر أن واقع الأمة الإسلامية واقع متخلف ومحزن ويدمي النفس الإنسانية ، ولكن لا نستطيع أن ننكر في الوقت نفسه أن هذا الواقع المحزن منفصل عن النموذج الإسلامي الحضاري بمائة وثمانية درجة .

فما هي الأسباب الكامنة وراء هذه الأزمة الطاحنة المتمثلة في هذا التخلف الحضاري الشامل في العالم الإسلامي .

(2) الحضارة فريضة إسلامية :

فالإسلام قد أقام حضارة زاهرة كانت من أطول الحضارات عمرا في التاريخ ، وقد امتدت من أقصى الصين شرقا إلى أقصى الأندلس غربا ، وهذا يعني أن الإسلام في الواقع العملي ، وليس النظري فقط ، يشتمل على كل المقومات الأساسية لبناء الحضارة .

ونحن نزعم في هذا الصدد أن الحضارة بالمفهوم الذي ارتضيناه تعد فريضة إسلامية لا تقل أهمية عن أي فريضة أخرى في الإسلام ، وأن الخروج من هذه الوهدة التي تردت فيها الأمة الإسلامية يعد واجبا دينيا لا يجوز للمسلمين أن يتهاونوا في شأنه بأي حال من الأحوال .

( أ ) الإنسان والمسئولية الحضارية :

وهذه المسئولية الحضارية ذات أبعاد مختلفة وجوانب عديدة ؛ إذ تعد بمثابة كل مركب من عناصر شتى ، أو بمثابة دائرة مركزها الإنسان ذاته ، ومحيطها كل ما يحيط بالإنسان من كائنات حية وغير حية ، الأمر الذي يبين لنا مدى الشمول الذي تدور فيه هذه المسئولية الحضارية.

فقد بين لنا النبي (r) جوانب أساسية مهمة فيما نطلق عليه : (المسئولية الحضارية) للإنسان بقوله [ لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل به ] (رواه البزار والطبراني والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح) 

العملية الحضارية = الإنسان (بوصفه كائنا عاقلا مسئولا) 

+ العلم + العمل + المال + الزمن + المكان .

وقد كان مبدأ الاجتهاد في الإسلام من المبادئ التي فتحت الباب أمام العقل ليصول ويجول في مجال استنباط الأحكام الشرعية ، وإذا كان الإسلام قد أجاز للعقل هذا الحق في مجال الأحكام الشرعية فمن باب أولى يكون ذلك أمرا حتميا في مجال الأمور الدنيوية ، والاجتهاد في حقيقته دعوة إلى الإبداع في كل مجالات العلوم والفنون والصنائع .

(ب) مجالات النشاط الإنساني :

فكل ما عدا الإنسان في هذا الكون مسخر لخدمة هذا الإنسان ومجال لنشاطه وفي ذلك يقول القرآن الكريم : ) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) ( (الجاثية) 

وقد أعطى الله الإنسان من الطاقات والاستعدادات والإمكانات ما يتناسب مع ما في الأرض من قوى وطاقات وكنوز وخامات ، فهناك تناسق بين القوانين الإلهية التي تحكم الأرض وتحكم الكون كله والقوانين التي تحكم الإنسان ، وما حباه الله به من قوى وطاقات ، حتى لا يقع التصادم بين هذه القوانين وتلك ، وحتى لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون .

ومن هنا فإن الحضارة في المفهوم الإسلامي تعني تحقيق المشيئة الإلهية في عمارة الأرض ماديا ومعنويا ، وبذلك يحقق الإنسان ذاته بوصفه خليفة لله في الأرض .

القيم الحضارية في التصور الإسلامي :

(1) تمهيد :

الحديث عن القيم الحضارية أمرا ضروريا وليس ترفا ، تذكيرا بها ، وتأكيدا على أهميتها البالغة في التحول الحضاري المأمول في حياة الأمة الإسلامية .

( أ ) أهمية القيم في الحياة الإنسانية :

وليست القيم خاصة بالجانب الأخلاقي فقط : فهناك مجالات كثيرة مثل قيم الحق والخير والجمال ، كما أن هناك قيما دينية تتداخل مع هذه المجموعات من القيم التي تحكم حياة الإنسان أو التي ينبغي أن تحكم حياة الإنسان ، والإسلام يهتم بكل القيم التي ترتقي بالإنسان وتهذب من أخلاقه وتسمو بعواطفه وترقق مشاعره وتنمي إحساسه بالجمال .

وقانون الأخلاق في الإسلام يرسم للإنسان منهجا قويما لسلوكه في جميع مجالات نشاطاته وعلاقاته في شتى النواحي الفردية والاجتماعية ، بل وفي علاقته بالكون كله .

والأمر الذي لا جدال فيه أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في هذه الحياة بدون قيم تحكم سلوكه على المستوى الفردي والاجتماعي ، بل وتحكم سلوكه إزاء الكائنات جميعا.

(ب) الوعود الإلهية بالتحقق الحضاري :

وقد وردت هذه الوعود الثلاثة في سورة النور في قوله تعالى : ) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا((النور : 55) 

وغير خاف على أحد إن هذه الوعود الإلهية الثالثة غير متحققة بالنسبة للمسلمين في عالم اليوم بل ومنذ عدة قرون ولكنها كانت متحققة بصفة عامة في القرون الأولى للإسلام وعلى مدى حوالي ثمانية قرون رغم ما شابها في بعض الأحيان من بعض السلبيات .

ويتضح من ذلك أن هذه الوعود لا تتحقق للمسلمين إلا باستيفاء شرطين أساسيين هما : الإيمان والعمل الصالح ، فالإيمان هو الأساس والعمل الصالح هو البناء .

ومن هنا يمكن القول بأن العمل الصالح هو كل عمل يقوم به الإنسان في هذه الحياة – دينيا كان هذا العمل أو دنيويا .

وإذا تم ذلك تحققت بالتالي الوعود الإلهية الثلاثة المشار إليها وهي :

1- التمكين في الأرض والسيادة عليها ، وهو المعنى المقصود بالاستخلاف في الأرض.

2- أما الوعد الثاني فإنه التمكين للدين ، والتمكين للدين لا يأتي عفوا ولكنه يأتي نتيجة طبيعة للتمكين في الأرض .

3- والاستخلاف في الأرض والتمكين للدين يؤديان في النهاية إلى نشر الأمن والسلام والاستقرار.

(ج) نماذج من القيم الحضارية :

1- التفكير :

ومن خلال النظر في الأساليب القرآنية الواردة في هذا الشأن نجد القرآن الكريم يحفز الناس على التفكير ، ويأمرهم به في سياقات متنوعة ، وعادة يأتي ذلك عقب ذكر العديد من آيات الله الكونية أو الإنسانية ، أو الحديث عمل يتضمنه القرآن الكريم من حكم بالغة ، أو بعد الإشارة إلى بعض الأمثال أو القصص ، أو حتى بعد التنبيه إلى ما بين الزوجين من المودة والرحمة ، أو غير ذلك من أمور تتطلب من الإنسان أن شحذ ذهنه وعقله لفهمها وإدراك ما تنطوي عليه من سنن وأسرار إلهية .

وعلى الرغم من اهتمام الإسلام بقيمة التفكير على هذا النحو الذي رأينا فإن نظم التعليم في عالمنا الإسلامي ، بالإضافة إلى انتشار الجهل والأمية على نطاق واسع ، قد نجحت في تعليم أبناء المسلمين الخوف من التفكير .

ونحن مطالبون بأن نفكر ، وأن يقض التفكير مضاجعنا ويقلقنا في سبيل البحث عن مخرج لأمتنا من أزمتها الحضارية الراهنة .

ومن هنا فإن تقدم الآخرين وتخلف المسلمين الحضاري في القرون الأخيرة يرجع بوجه عام إلى أن الآخرين قد مارسوا التفكير واستخدموا عقولهم جيدا ، بينما توقف المسلمون عن التفكير .

2- العلم : 

هو فريضة لا تقل أهمية عن أي فريضة إسلامية أخرى وقد أكد ذلك النبي (r) في حديثه المشهور : [ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ] .

واهتمام العلم القرآن الكريم بالعلم لا يحتاج إلى تأكيد ، ومن هنا وجدنا القرآن الكريم يوصى النبي (r) بأن يدعو ربه أن يزيده من العلم : ) وقل رب زدني علما ( (طه : 114) 

إن تفسير الأحداث بغير أسبابها الحقيقة واللجوء إلى الأساليب غير العلمية وغير العقلية في العلاج واتخاذ القرارات الشخصية أو ما شابه ذلك يعد تخلفا عقليا وردة جاهلية ، وانتكاسة فكرية ، فضلا عن أنه أمر مخالف للدين جملة وتفصيلا .

وقد احتفل أسلافنا العظام بالعلم في جميع مجالاته وشجعوا على تحصيله بكل السبل ، وأوقف الكثيرون من أهل الخير أوقافا لا حصر لها لدعم كل هد يبذل في طلب العلم وتعليمه ونشره على أوسع نطاق ، وقد أثمرت هذه الجهود ثمارها الرائعة وأدت إلى قيام حضارة إسلامية عريقة قدمت عطاءها الثري للإنسانية كلها.

3- الوقت : يعد الوقت قيمة من القيم الحضارية الني نبه إليها الإسلام ، وحض على الالتزام بها ، وحسن التصرف فيها ، وقد أقسم الله بالوقت في العديد من آيات القرآن الكريم ليبين لنا مدى الأهمية البالغة لهذه القيمة في حياة الإنسان .

ومن أجل التأكيد على أهمية الوقت يخبرنا النبي الكريم (r) بأن الوقت يدخل ضمن المسئوليات الكبيرة التي سوف يسأل عنها الإنسان يوم القيامة ، وفي ذلك يقول النبي (r) : [ لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل به ] .

وهنا أمر مهم في هذا الصدد ينبغي أن ندركه جيدا ، وهو ضرورة التفرقة الواضحة بين وقت الجد ووقت اللهو ، وعدم الخلط بينهما ، فلكل وقته . والإسلام في الوقت الذي يدعو فيه الإنسان ، وحتى عندما توشك الدنيا على الفناء . وفي ذلك يقول الحديث الشريف : [ إذا قامت الساعة وفي يد أحكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل ] .

وقد روي أن عمر بن الخطاب (r) رأى بعض الناس قابعين في المسجد بعد الصلاة بدعوى التوكل على الله ، القادر على أن يرزقهم دون أن يبذلوا أي جهد ( وهذه كلمة حق يراد بها باطل) فعلاهم بدرته وقال كلمته الشهيرة التي تعبر أصدق التعبير عن موقف الإسلام من العمل : [ لا يقعدن أحكم عن طلب الرزق ويقول : اللهم ارزقني . وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة ، وأن الله تعالى يقول : ) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ( .

5- حسن المعاملة : 

من أكثر العبارات شيوعا في حياتنا عبارة (الدين المعاملة) وهي كلمة حق لو طبقت بصدق في دنيا الواقع . فالدين ليس تقوى سلبية تقتصر على صاحبها ، وإنما التقوى الحقيقية تعد ترجمة عملية للدين في التعامل مع الآخرين . سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بأي وسيلة أخرى من وسائل التعامل .

ومن أجل ذلك يحض الإسلام باستمرار على حسن الخلق في التعامل مع الآخرين ، ويروي أن رجلا سأل النبي (r) ما الدين يا رسول الله ؟ فأجابه الرسول بقوله : [ الدين حسن الخلق ] وكرر الرجل السؤال عدة مرات وكانت الإجابة في كل مرة هي أن الدين حسن الخلق .

6- حقوق الإنسان :

وقد تطور مفهوم حقوق الإنسان في الفكر الإنساني على مدى قرون عديدة من خلال صراع طويل داخل الجماعات الإنسانية ، وانتهى الأمر إلى التصور الحديث لهذا المفهوم ، والذي يرتكز بصفة خاصة على الأسس والمبادئ التي نادى بها التنوير الأوروبي .

وقد روعي في كل حكم من أحكامها إما حفظ شيء من الضروريات الخمسة وهي : [ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ] والتي تعد أسس العمران المرعية في كل ملة ، وإما حفظ شيء من الحاجيات كأنواع المعاملات ، وإما حفظ شيء من التحسينات التي ترجع إلى مكارم الأخلاق ، وإما تكميل نوع من هذه الأنواع ما يعين على تحققه .

وحفظ هذه الأنواع الثلاثة المشار إليها يعني حمايتها من أي اعتداء عليها . وهذه الحماية حق لكل فرد ، فهي إذن تمثل حقوقا للإنسان بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى . وترجع حقوق الإنسان في الإسلام بصفة عامة إلى حقين أساسيين وهما : حق الإنسان في المساواة ، وحقه في الحرية . وكل حقوق الإنسان الأخرى تنبثق من هذين الحقين .

ومن الملاحظ أن الإسلام يعتمد معيارا للتفاضل بين الأفراد يختلف عن المعايير المتعارف عليها بين الناس . ألا هو معيار الثراء الداخلي للإنسان وما يرتبط به من موقف روحي يحفز الإنسان إلى العمل المثمر وبذل الجهد في سبيل إقرار الحق والعدل والسلام . وهذا المعيار – بتعبير القرآن الكريم والسنة النبوية – يتمثل في التقوى ، التي تعني العمل الصالح الذي يشمل كل عمل يقوم به الإنسان في هذه الحياة – دينيا كان هذا العمل أو دنيويا .

وإذا كانت حقوق الإنسان لا تراعى بصورة كافية في العديد من مناطق العالم الإسلامي ، الأمر الذي يعطي لخصوم الإسلام الفرصة لاتهامه بخلوه من حقوق الإنسان ، فإن الإسٍلام ليس مسئولا عن الممارسات الخطأ حتى وإن كانت ترتكب باسمه ، ومن يريد أن يتعرف على تعاليم الإسلام الحقيقية فليبحث عنها في مصادره الأصلية وليس في سلوكيات منحرفة أو تفسيرات باطلة يرفضها الإسلام رفضا تاما .

7- الجمال :

الإسلام دين يحب الجمال ويدعو إليه في كل شيء ، والنبي (r) يقول : [ إن الله تعالى جميل يحب الجمال ] والقرآن الكريم في العديد من آياته يلفت الأنظار إلى ما في الكون من تناسق وإبداع وإتقان ، وما يتضمنه ذلك من جمال وبهجة وسرور للناظرين ، والإنسان مطبوع على حب الجمال ، سواء كان هذا الجمال في الأشياء أو في الأشخاص.

وإذا كان الله يحب الجمال – كما جاء في الحديث المشار إليه – فإن الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم ، من شأنه أيضا أن يحب الجمال ، مع الفارق الكبير الذي يتمثل في أن الله هو خالق الجمال ، وخالق حب الجمال في الإنسان .

ويعرف الجمال بأنه صفة تلحظ في الأشياء وتبعث في النفس سرورا أو رضا .

والجمال كما يكون في خلق الكون وفي خلق الإنسان يكون أيضا في الأنعام – كما يقول القرآن الكريم : ) ولكن فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ( : (النحل : 6) 

والإسلام عندما يدعو إلى الجمال فإنه من ناحية أخرى يرفض القبح بجميع أشكاله .

8- الحفاظ على البيئة :

والإسلام في معالجته لقضايا الإنسان لم يغفل هذا الجانب لأن الإسلام بطبيعته دين للحياة بكل أبعادها .

وبداية نجد أن الإسلام قد جعل الحفاظ على البيئة جزءا أساسيا من العقيدة . وهذا ما نقرؤه في الحديث النبوي الشريف : [ الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان ] .

ويقرر الإسلام بصفة خاصة أن الناس شركاء في أمور عدة من بينها الماء الذي يعد شريان الحياة . وما دام الماء شركة بين الناس فلا يجوز بأي من الشركاء فردا أو جماعة أن يصدر عنه أي تصرف يتسبب في إلحاق الأذى بالماء ؛ لأن ذلك من شأنه أن يجر وراءه الإضرار بصحة الناس الذين يشربون من هذا الماء ، ومن هنا ينهي الإسلام عن التبول أو التبرز في المياه الجارية ، وينسحب ذلك إلى إلقاء نفايات المصانع وما شاكلها في المياه الجارية . 

9- الرفق بالحيوان :

فالحيوان كائن حي ، وقد خلقه الله الذي خلق الإنسان وخلق كل شيء في هذا الكون . والإسلام له قيمه وتعاليمه الراسخة في تعامل الإنسان مع الحيوان ومع الجماد أيضا . فلا يجوز إساءة استخدام أي شيء من مخلوقات الله .

وفي المقابل يخبرنا النبي (r) بما ينتظر المتعاملين مع الحيوان بالرفق والرحمة من الثواب العظيم والأجر الجزيل . وذلك في قوله (r) : [ بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج ، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى . فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان مني ، فنزل البشر وملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له ] .

10- النظام :

ولا يمكن أن يتصور المرء حضارة من الحضارات بدون نظام يحدد الإطار العام الذي يجوز لكل فرد في المجتمع أن يمارس فيه حياته وحريته دون إضرار بالآخرين . فالإنسان كائن اجتماعي يعيش مع الآخرين . ومن أجل ذلك شرعت القوانين المنظمة للحقوق والواجبات في المجتمعات البشرية لتشكل مع القواعد الأخلاقية الفطرية والقيم الدينية صمام الأمان والاستقرار في المجتمع . والهدف من ذلك كله هو مصلحة .

وقد عنى الإسلام عناية فائقة بهذا الجانب المهم المنظم للحياة الإنسانية من منطلق أنه دين للحياة بأبعادها المختلفة ، ومن هنا جاء بأحكام وتشريعات منظمة لحياة الإنسان في صلته بالله أولا ثم في صلته بسائر أفراد البشر في مختلف شئونهم ؛ وذلك حتى لا يترك الناس للأهواء والمصالح الذاتية تتحكم فيهم وتسيطر على تصرفاتهم وسلوكهم ؛ مما يهدد كيان المجتمع وأمنه واستقراره .

ولكن الأمر الذي نريد أن نؤكد عليه في هذا الصدد هو أن الإسلام لم يجعل من هذه النظم – كما قد يتبادر إلى الأذهان – قيدا على حرية الإنسان في تطوير الحياة وتجديدها . فالإٍسلام في الوقت الذي وضع فيه أحكاما في أمور لا تستقل العقول بإدراكها ، ولا تختلف باختلاف الزمان أو المكان أو الأشخاص ، فوض العقل الإنسان في الوقت نفسه فيما وراء ذلك ، وأتاح له فرصة الاجتهاد في تقرير ما تقضي به المصلحة في حدود أصول الإسلام وثوابته .

د- موقف المسلمين من حضارة العصر :

إن الحضارة المعاصرة إن باعتنا منتجاتها فلا يمكن أن تبيعنا روحها وأفكارها ، وكل المعاني التي لا تلمسها الأنامل ، فعملية التحضر عملية منبعثة من الداخل أساسا ، وهذا يعني أن هناك شيئا ذاتيا أساسيا يجب أن يقود عملية التحضر .

ولهذا يمكن أن نرى بيننا فردا من الأفراد يستخدم كل منتجات الحضارة ، ولكنه لا يسلك سلوكا حضاريا ، ومثل هذا الشخص لا يمكن أن يقال عنه إنه متحضر ، رغم الأكوام الهائلة التي يحيط بها نفسه من منتجات الحضارة .

فماذا يريد المسلمون ؟

هل ينتظر المسلمون انهيار الحضارة المعاصرة حتى يقيموا حضارتهم على أنقاضها ؟ إذا كان الأمر كذلك فسيطول بهم الانتظار .

ومن هنا فإنه لا مناص لنا من أن نتمكن من حضارة العصر بكل منجزاتها المادية ، وتطوراتها العلمية والتقنية ، في الوقت الذي نراجع فيه مواقفنا من الإسلام وتعاليمه ؛ لنزيل الغبش الذي غطى على تعاليم الإٍسلام وقيمه الحضارية فحجب عنا الرؤية السليمة الواضحة لهذه التعاليم وتلك القيم على مدى القرون الماضية .

والصحوة الإسلامية تظل مجرد كلمة خالية من المضمون ما دامت لم تصل إلى مرحلة عودة الوعي بالإٍسلام ، وعودة الوعي هي الحالة التي يمكن أن تكون المنطلق الحقيقي للفهم الشامل للإسلام بوصفه دين العزة والكرامة ، دين التقدم والحضارة ، دين العلم والمدنية ، دين الدنيا والآخرة ، دين التوازن بين الجسم والروح ، دين الاعتدال والسماحة ، دين السمو المادي والمعنوي ، وبصفة عامة بوصفه دين السلوك المسئول على جميع المستويات الفردية والاجتماعية والدينية. والسلوك المسئول هو دائما سلوك حضاري ، والتعاليم التي تنتج هذا السلوك المسئول هي التعاليم التي تدفع معتنقيها إلى صنع الحضارة والمشاركة فيها ، لا بوصفهم مجرد مستهلكين أو متفرجين ، ولكن بوصفهم فاعلين مؤثرين . والتعاليم التي نستطيع أن تصنع ذلك هي تعاليم الإسلام .

مفهوم التجديد وأبعاده في الفكر الإٍسلامي 

1- التجديد سنة الحياة : 

وإن نظرة سريعة على تاريخ الحياة والأحياء ترينا مدى ما قام به الإنسان من توجيه لأحداث التاريخ ومن تغيير لا حدود له في جميع مرافق الحياة . وفي العصر الحديث نجح في إحداث ثورات كبرى في ميادين العلم والتكنولوجيا والمعلومات والاتصالات ، كما نجح في الفترة الأخيرة في اكتشاف خريطة الجينات البشرية ، أو الخريطة الوراثية للإنسان التي ستفيد – كما يتوقع العلماء – في علاج الكثير من الأمراض الوراثية ، وقد قام الإنسان عن طريق بحوث الهندسة الوراثية بإجراء تعديلات في النبات والحيوان ن كما توصل إلى استنساخ الحيوان ، وهو الآن بصدد إجراء ما توصل إليه في عالم الإنسان أيضا . ويبدو أن التطورات في هذه المجالات لن تقف عند حد .

2- الإسلام والتجديد :

والإسلام طبيعته دين يتمشى مع سنن الحياة ولا يصادم الفطرة الإنسانية ومن هنا يشجع الإسلام التجديد المستمر لحركة الحياة والمجتمع من أجل الوصول إلى الأفضل في جميع مجالات الحياة.

وقد جاءت الدعوة إلى التجديد واضحة وصريحة في حديث رسول الله (r) في قوله : [ إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها ] .

وقد يبدو أن هذا الفهم القديم للتجديد لا يشتمل على إضافة جديد ، أو على تجديد بالمعنى المعروف لهذا المفهوم ، ولكننا نستطيع أن نلحظ في الفهم القديم للتجديد – الوارد في الحديث النبوي – تجديدا حقيقيا ؛ لأنه من ناحية مرتبط بالكشف عن الفهم السقيم للدين الذي يعزله عن الحياة ، ومن ناحية أخرى مرتبط بجلاء مرآة الدين وذلك بإزالة كل ما علق بها من شوائب من عادات أو تقاليد غريبة عن جوهر الدين .

ونظرا لأن الإسلام في تعاليمه يعد دينا للحياة بكل أبعادها فإن التجديد المقصود في الحديث النبوي يعد أيضا تجديدا للحياة بكل جوانبها المختلفة .

وقد كان حرص مفكري الإسلام على ذلك واضحا في كل العصور من منطلق غيرتهم الفائقة على الإسلام وتعاليمه وصفاء الفكر الإسلامي ونقائه . ومن هؤلاء على سبيل المثال حجة الإسلام الغزالي الذي يوحي عنوان أهم كتبه بنزعته التجديدية أو الإحيائية فأهم مؤلفاته يحمل عنوان : إحياء علوم الدين – كما هو معروف .

والتجديد في الفكر الإسلامي له صور مختلفة فقد يكون تجديدا شاملا لجميع مناحي الحياة ، وذلك إذا أصاب التدهور مرافق الحياة كلها ، وقد يكون تجديدا في أحد الجوانب التي أصابها الجمود أو الخلل لمنع انتشار عدوى التدهور أو الخلل إلى جوانب أخرى ، وقد يكون تجديدا مرحليا ، وقد يكون جذريا ، وكل صورة من هذه الصور لها ظروفها ومتطلباتها .

وقد طرأت على عملية التجديد في الفكر الإسلامي في القديم والحديث تيارات عدة تختلف في أهدافها وأسلوبها تبعا لاختلاف رؤى أصحابها ، وبعضها يمكن أن يندرج تحت مفهوم التجديد بمعناه الصحيح ، والبعض الآخر يقترب أو يبتعد عن هذا المفهوم بشكل أو بآخر ، وبعضها يمثل عائقا حقيقيا أمام أي شكل من أشكال التجديد أو الإصلاح .

وقبل أن نختم حديثنا عن صور التجديد في الفكر الإسلامي نود أن نؤكد مرة أخرى على الأمور الآتية :

1- إن أي تجديد للفكر يحمل الصفة الإسلامية لابد أن يكون مرتبطا بثوابت الإسلام ، وأن يتم في إطار الأصول المعروفة لهذا الدين .

2- تجديد الدين بالمعنى الذي سبق أن أوضحناه يشمل تجديد كل مجالات الحياة دون استثناء ، ولا يجوز أن يفهم الدين منفصلا عن الحياة .

3- التجديد في الدين بمعنى الخروج عن إطار الثوابت الإسلامية ، مثل جعل الصلوات الخمس ثلاثا فقط ، أو جعل الحج غير مرتبط بموعد محدد ، أو جعل أنصبة النساء مثل أنصبة الرجال في الميراث ، وغير ذلك من آراء مشابهة يطرحها البعض بين الحين والآخر ، هذا اللون من (التجديد) ينطبق عليه الحديث الشريف : [ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ] .

4- التدرج في التجديد ومراعاة الأولويات :

ويتضح لنا ذلك بجلاء إذا تأملنا العديد من التشريعات الجديدة التي جاء بها الإسلام . وأوضح مثل على ذلك تحريم الخمر ، فقد لجأ الإسلام إلى تحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في نفوس المؤمنين ، وذلك عن طريق لفت الأنظار أولا إلى أن الخمر فيها منافع للناس وفيها مضار ، مع التنبيه إلى أن مضارها أكثر من منافعها .

ولم يلتزم المسلمون بعد ذلك بهذا التحريم فحسب بل جعل منهم اقتناعهم الإيماني والعقلي مدافعين عن هذا التشريع . وهكذا سار الإسلام في الكثير من تشريعاته ولم يكن في ذلك التدرج في التشريع شيء من المهادنة للتقاليد الفاسدة والعادات المرذولة حينذاك ، وإنما هو تعليم للمسلمين بأن معالجة مثل هذه الأمور تتطلب نظرة فاحصة تدرك طبائع النفوس ودقائقها ، وتعلقها بما درجة عليه من عادات ومألوفات ، الأمر الذي يتطلب العلاج بمنهج حكيم . وهل هناك أحد يعلم حق العلم ما ينفع الخلق أو يضرهم غير الله تعالى الذي يقول : ) ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ( (الملك : 14) 

ومن الأمور التي حرص الإسلام على مراعاته في إحداث التغييرات في المجتمع ضرورة التفرقة بين الأمور الجوهرية والأمور الشكلية أو الثانوية .

ومن هنا فإن من العبث بالنسبة للمصلح الديني – على سبيل المثال – أن يوجه اهتمامه ابتداء إلى الشكليات التي لا تقدم ولا تؤخر في حياة المسلمين ، مثل الاهتمام الزائد بإطلاق اللحى وتقصير الثياب وما إلى ذلك من عادات لا دخل لها في التعبد لله – تعالى – وفي الوقت نفسه يتجاهل القضايا الكبرى مثل قضايا الأمية والتخلف العلمي والاجتماعي والاقتصادي وغيرها.

وقد آن الأوان لأن يتيقظ المسلمون جيدا ، ويلتفتوا إلى الإصلاح على جميع المستويات ، وبصفة خاصة إصلاح العقليات واتجاهات التفكير . إن مصيبة الإسلام اليوم ليست في خصومه ، لأن أمرهم معروف وكيدهم مكشوف ،  وإنما مصيبة الإسلام في الجهلاء من أبنائه الذين يتقدمون الصفوف ويدخلون بالمسلمين في دروب وطرق تؤدي إلى الهلاك ، مع أن طريق الإسلام واضح لا عوج فيه ، وهو الصراط المستقيم – كما يقول القرآن الكريم : ) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ( (الأنعام)

5- آلية التجديد في الإسلام :

ومن هذا المنطلق كان مبدأ (الاجتهاد) أهم الخطوات العملية التي قررها الإسلام للمساعدة على تطوير الفكر وتحريكه لاستمرار التقدم وتطوير الحياة ، ويعني الاجتهاد : الاعتماد على الفكر في استنباط الأحكام الشرعية ، وكان ذلك بداية النظر العقلي عند المسلمين ، وقد نما الاجتهاد في رعاية القرآن الكريم والسنة النبوية ، وامتدت سماحة الإسلام إلى إفساح الطريق أمام العقل في مجال الأحكام الشرعية التي لم ترد فيها نصوص قاطعة ، فأباح له الاعتماد على نفسه ، وشجعه على ذلك ودفعه إليه دفعا ، وتقررت في ذلك قاعدة إسلامية تقول : [ إن المجتهد إذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران ] .

وقد أدى الاجتهاد أيضا إلى اعتماد (مبدأ المصلحة) في الفقه الإسلامي . ويعني مفهوم المصلحة لدي الفقهاء ، الخير العام والمنفعة العامة : فكل ما يجلب منفعة ويرد مفسدة ، ويؤدي إلى خير الناس يسمى مصلحة . وشاع في الفقه الإسلامي القول المشهور : ) حيثما توجد المصلحة فثم شرع الله ( .

وهكذا كان اعتماد المسلم على عقله عن طريق الاجتهاد في كل القضايا التي لم يرد في شأنها نصوص شرعية قاطعة هو الدعامة الأولى والركيزة الأساسية التي كانت تمثل بداية انطلاق العقل الإسلامي لبناء حضارة الإسلام وثقافته على امتداد تاريخه خلال القرون التي شهدت قوته وقدرته على الإبداع .

الإسلام والتنوير

1- تمهيد 

ومن المفاهيم الشائعة منذ عشرات السنين والتي تردد كثيرا على الألسنة مفهوم التنوير . وهذا المفهوم يعد من المفاهيم التي صادفت الكثير من سوء الفهم في عالمنا العربي الإسلامي ، فقد ارتبط مضمونه في أذهان الكثيرين بالعديد من السلبيات ، واعتبره البعض مرادفا لكل ألوان التحلل من القيم والمعتقدات ، ومناقضا للإسلام ، ويمثل دعوة إلى التحلل من تعاليمه .

2- مفهوم التنوير في الفكر الأوروبي :

إن من المعروف أن أوروبا في العصور الوسطى كانت تعيش في حالة من الظلام الفكري الدامس ، وكانت واقعة تحت ضغط سلطة كنيسة طاغية تتعقب المفكرين أينما كانوا ، وقد ظل الصراع هناك محتدما بين العلم والدين ، وبين المفكرين واللاهوتيين قرونا عديدة . وقد تمخض هذا الصراع عن انتصار الفكر وتقلص سلطة الكنيسة واستقلال العلم عن الدين .

ومن الواضح أن مفهوم التنوير كما شاع في الفكر الأوروبي قد ركز على العقل الإنساني ، وضرورة التمسك به ، والتحرر من كل شكل من أشكال السلطة المقيدة لحرية هذا العقل بما في ذلك سلطة الدين نفسه ، وليس فقط السلطة الكنيسة المتمثلة في اللاهوتيين . ولكن ذلك لم يكن يعني إطلاقا رفضا للدين من حيث هو دين .

3- مفهوم التنوير في الإسلام :

إن مصطلح التنوير بالمعنى الذي يستخدم به اليوم مصطلح حديث نسبيا في اللغة العربية ، ولكنه ليس غريبا عنها ، فهو مشتق من النور الذي هو ضد الظلام وضد الجهل الذي هو شكل من أشكال الظلام . وإذا بحثنا في المعاجم العربية سنجد أن التنوير يعني الإنارة ويعني الأسفار. ويقال : نور الصبح تنويرا ظهر نوره ، ونور الشجر تنويرا أخرج نوره أي : زهره .

وإذا تصفحنا آيات القرآن الكريم سنجد أن الله – سبحانه وتعالى – قد أرسول محمدا (r) ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، من ظلمات الجهل والعقائد الفاسدة والتقاليد البالية إلى نور العلم والعقائد الصحيحة والتقاليد المبنية على صحيح الدين وصريح العقل . وهناك العديد من الآيات القرآنية في هذا الشأن تبين أن الدين بما يشتمل عليه من الوحي الإلهي قد جاء ليضيء للناس طريقهم في الحياة ، وليزيل الغشاوة عن الأعين والقتامة عن القلوب.

ولم يكن العلم هو السلاح الوحيد الذي سلح الله به الإنسان للقيام بالدور المنوط به في هذا الوجود ، بل كانت هناك ميزات أخرى عديدة حبا الله بها الإنسان ، وكلها تجعله قادرا على تحقيق المعجزات في هذا العالم الذي نعيش فيه ، والذي نحن شهود على ما تحقق فيه حتى الآن ، وستكون الأجيال القادمة أيضا شاهدة على ما سوف يتحقق فيه في المستقبل من منجزات تعد في نظرنا اليوم في عداد المستحيلات .

والقرآن عندما يخاطب العقل فإنه يخاطب بكل ملكاته وخصائصه ، فهو يخاطب العقل الذي يعصم الضمير ، ويدرك الحقائق ، ويميز بين الأمور ، ويوازن بين الأضداد ، ويتأمل ويعتبر ويتعظ ويتدبر ويحسن التدبر والروية .

أولا : رفض التبعية الفكرية والتقليد الأعمى فالإسلام عندما أمرنا بالنظر واستعمال العقل فيما بين أيدينا من ظواهر الكون نهانا في الوقت نفسه عن التقليد الذي فيه تعطيل للعقل عن أداء دوره في الوجود . فالتقليد ضلال يعذر فيه الحيوان ، ولا يصح بحال من الأحوال من الإنسان القادر على التفكير والتمييز ، ولهذا عاب القرآن على المشركين تقليدهم الأعمى لأعرافهم وتقاليدهم وأسلافهم مستنكرا مثل هذا التقليد .

ثانيا : القضاء على كل شكل من أشكال الدجل والشعوذة والاعتقاد في الخرافات والأوهام ، فلا ضرر ولا نفع إلا بإرادة الله الذي يقول لنا في القرآن الكريم : ) إنه أقرب إلينا من حبل الوريد ( وإنه قريب يجيب دعوة من دعاه . والرسول (r) يقول : [ إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ] وليس هناك مخلوق يتحكم باسم الدين في رقاب العباد .

ثالثا : تركيز الإسلام على المسئولية الفردية ، فكل فرد مسئول عن أعماله مسئولية تامة ، ولا يتحمل أحد مسئولية عمل غيره ، وآيات القرآن في هذا الشأن واضحة وصريحة ، وهذه المسئولية الفردية لا تقوم إلا على أساس حرية الفرد واطمئنانه على حقوقه في الأمن على نفسه وعقله وماله.

رابعا : حرر الإسلام الفرد المؤمن بعقيدة التوحيد من الخوف الذي لا مبرر له ، ورفعه إلى مقام العزة التي يقول القرآن فيها : ) ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ( (المنافقون : 8) وتحقيقا لهذا المبدأ يطلب الرسول (r) من المؤمنين ألا تكون الحاجة سبيلا إلى التنازل عن شيء من كرامتهم حين يقول : [ اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير ] كما قرر الإسلام أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وأن المؤمن لا يخشى في الحق لومة لائم.

4- التنوير في الفكر الإسلامي :

( أ ) التلازم بين العقل والدين :

وفي ضوء هذه التعاليم وجدنا الفكر الإسلامي يشق لنفسه طريقا واضحا مشددا فيه على ضرورة التلازم بين العقل والدين ، ولم يجد هناك مبررا لوجود أي تعارض بينهما ، فالعقل كالأساس والشرع كالبناء .

(ب) التنوير لدي ابن رشد :

ونصوص ابن رشد هذه صريحة واضحة لا تحتاج إلى تأويل أو اجتهاد في فهمها ، وهي تدلنا على أن تنوير ابن رشد له جناحان : جناح ديني وجناح فلسفي ، وكما أن الطائر لا يستطيع أن يطير بجناح واحد فكذلك تنوير ابن رشد لا يجوز أن يفهم فهما أحاديا ، فالتنوير العقلي مطلوب ، والتنوير الديني مطلوب أيضا في الوقت نفسه ، ولسنا نبالغ إذا قلنا : إن كلا منهما مرتبط ارتباطا وثيقا بالآخر ، وإن نجاح أي منهما في عالمنا الإسلامي متوقف على نجاح الآخر .

 

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

42

متابعين

5

متابعهم

1

مقالات مشابة