العلاقة بين الدين والدولة

العلاقة بين الدين والدولة

0 المراجعات

العلاقة بين الدين والدولة 

مقدمة 

إن العلاقة بين الدين والدولة ليست علاقة عداء ولن تكون ، إن تدينا رشيدا صحيحا واعيا وسطيا يسهم وبقوة في بناء واستقرار دولة عصرية ديمقراطية حديثة تقوم على أسس وطنية راسخة وكاملة ، وإن دولة رشيدة لا يمكن أن تصطدم بالفطرة الإنسانية التي تبحث عن الإيمان الرشيد الصحيح ، وإن من يتوهمون صراعا لا يجب أن يكون بين الدين والدولة ويرونه صراعا محتما إما أنهم لا يفهمون الأديان فهما صحيحا أو لا يعون مفهوم الدولة وعيا تاما ، فالخلل لا علاقة له بالدين الصحيح ولا بالدولة الرشيدة ، إنما ينشأ الخلل من سوء الفهم لطبيعة الدين أو لطبيعة الدولة أو لطبيعتهما معا أو لطبيعة العلاقة بينهما .

الدين والدولة 

الدولة الرشيدة هي صمام أمان للتدين الرشيد ، والعلاقة بين الدين والدولة ليست علاقة عداء ولن تكون ، إن تدينا رشيدا صحيحا واعيا وسطيا يسهم وبقوة في بناء واستقرار دولة عصرية ديمقراطية حديثة تقوم على أسس وطنية راسخة وكاملة ، وإن دولة رشيدة لا يمكن أن تصطدم بالفطرة الإنسانية التي تبحث عن الإيمان الرشيد الصحيح ، على أننا ينبغي أن نفرق وبوضوح شديد بين التدين والتطرف ، فالتدين الرشيد يدفع صاحبه إلى التسامح ، إلى الرحمة ، إلى الصدق ، إلى مكارم الأخلاق ، إلى التعايش السلمي مع الذات والآخر ، وهو ما ندعمه جميعا أما التطرف والإرهاب الذي يدعو إلى الفساد والإفساد ، والتخريب والدمار ، والهدم واستباحة الدماء والأموال ، فهو الداء العضال الذي يجب أن نقاومه جميعا وأن نقف له بالمرصاد ، وأن نعمل بكل ما أوتينا من قوة للقضاء عليه حتى نجتثه من جذوره .

وفي هذه المعادلة غير الصعبة يجب أن نفرق بين الدين الذي هو حق ، والفكر الإرهابي المنحرف الذي هو باطل ، موقنين أن الصراع بين الحق والباطل قائم ومستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، على أن النصر للحق طال الزمن أو قصر ، حيث يقول الحق سبحانه : 

) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)( (الأنبياء) 

إننا لأصحاب قضية عادلة ، قضية دين ، وقضية وطن ، فكل ما يدعو للبناء والتعمير ، والعمل والإنتاج ، وسعادة الناس وتحقيق أمنهم واستقرارهم ، لهو الدين الحق والإنسانية الحقيقية ، وكل ما يدعو للفساد والإفساد ، والتخريب والقتل ، يدعو إلى ما يخالف الأديان وسائر القيم النبيلة والفطرة الإنسانية القويمة .

الدين والدولة لا يتناقضان ، الدين والدولة يرسخان معا أسس المواطنة المتكافئة في الحقوق والواجبات ، وأن نعمل معا لخير بلدنا وخير الناس أجمعين ، أن نحب الخير لغيرنا كما نحبه لأنفسنا ، الأديان رحمة ، الأديان سماحة ، الأديان إنسانية ، الأديان عطاء .

الدين والدولة يتطلبان منا جميعا التكافل المجتمعي ، وأن لا يكون بيننا جائع ولا محروم ولا عار ولا مشرد ولا محتاج .

وختاما نؤكد أن من يتوهمون صراعا لا يجب أن يكون بين الدين والدولة ويرونه صراعا محتما إما أنهم لا يفهمون الأديان فهما صحيحا أو لا يعون مفهوم الدولة وعيا تاما ، فالخلل لا علاقة له بالدين الصحيح ولا بالدولة الرشيدة ، إنما ينشأ الخلل من سوء الفهم لطبيعة الدين أو لطبيعة الدولة أو لطبيعتهما معا .

غير أننا نؤكد على ضرورة احترام دستور الدولة وقوانينها ، وإعلاء دولة القانون ، وألا تنشأ في الدول سلطات موازية لسلطة الدولة أيا كان مصدر هذه السلطات ، فهو لواء واحد تنضوي تحته وفي ظله كل الألوية الأخرى ، أما أن تحمل كل مؤسسة أو جماعة أو جهة لواء موازيا للواء الدولة فهذا خطر داهم لا يستقيم معه لا أمر الدين ولا أمر الدولة .

الحق والواجب 

لا شك أن مبدأ الحق والواجب ، أو الحق مقابل الواجب ، أحد أهم المبادئ العادلة التي تسهم في إصلاح المجتمع ، فهناك الحقوق والواجبات المتبادلة بين الآباء والأبناء ، وبين الأزواج وبين الجيران وبين الأصدقاء ، وبين الشركاء ، وبين المواطن والدولة ، وبين العمال وأرباب العمل ، وبين المعلم والمتعلم .

ورأي بعض الناس رجلا مسنا يزرع نخلة لا ينتظر أن يجني شيئا من ثمارها في حياته ، فقيل له : وهل تنتظر أن تدرك جني شيء من ثمارها ؟ فقال الرجل : زرع من قبلنا فحصدنا ، ونحن نزرع ليحصد من بعدنا . [ افعل ما شئت كما تدين تدان ] .

وديننا قائم على الإتقان ، والإحسان ، ومراقبة الله (عز وجل) في السر والعلن قبل مراقبة الخلق ، لأن الخلق إن غفلوا عن المراقبة أو المتابعة ، فهناك من لا يغفل ولا تأخذه سنة ولا نوم ، حيث يقول سبحانه وتعالى : ) الله لا إله هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ( (البقرة : 255)

فما أحوجنا إلى ترسيخ مبدأ الحق مقابل الواجب في كل مجالات حياتنا وعلاقاتنا ، وبخاصة في مجال العمل ، إذ لا يمكن للحياة ولا العلاقات أن تستقيم من جانب واحد ، فيكون أحد الشقين معتدلا والآخر مائلا ، إنما تستقيم الأمور باستواء الجانبين معا ، والوفاء بالحقوق الواجبات معا ، نؤدي الذي علينا حتى يبارك الله (U) في الذي لنا .

التدين الشكلي والتدين السياسي

لا شك أن ظاهرة التدين الشكلي وظاهرة التدين السياسي تعدان من أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات العربية والإسلامية ، سواء من هؤلاء الذين يركزون على الشكل والمظهر ولو كان على حساب اللباب والجوهر ، وإعطاء المظهر الشكلي الأولوية المطلقة ، حتى لو لم يكن صاحب هذا المظهر على المستوى الإنساني والأخلاقي الذي يجعل منه القدوة والمثل ، ذلك أن صاحب المظهر الشكلي الذي لا يكون سلوكه متسقا مع تعاليم الإسلام يعد أحد أهم معالم الهدم والتنفير ، فإذا كان المظهر مظهر المتدينين مع ما يصاحبه من سوء المعاملات ، أو الكذب أو الغدر أو الخيانة ، أو أكل أموال الناس بالباطل ، فإن الأمر هنا جد خطير ، بل إن صاحبه يسلك في عداد المنافقين ، يقول نبينا (r) : [ آية المنافق ثلاث ، إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان ] وكذلك من يحصر التدين في باب العبادات والاجتهاد فيها مع سوء الفهم للدين والإسراف في التكفير وحمل السلاح والخروج على الناس به كما حدث من الخوارج الذين كانوا من أكثر الناس صلاة وصياما وقياما غير أنهم لم يأخذوا أنفسهم بالعلم الشرعي الكافي الذي يحجزهم عن الولوغ في الدماء فخرجوا على الناس بسيوفهم ، ولو طلبوا العلم أولا كما قال الإمام الشافعي (رحمه الله) لحجزهم عن ذلك ، فالإسلام دين رحمة قبل كل شيء وكل ما يبعدك عن الرحمة يبعدك عن الإسلام ، والعبرة بالسلوك السوي لا بمجرد القول وقد قالوا : حال رجل في ألف خير من كلام ألف لرجل .

وأخطر من هذا التدين الشكلي التدين السياسي ونعني به هذا الصنف الذي يتخذ الدين وسيلة ومطية للوصول إلى السلطة من خلال استغلال العواطف الدينية وحب الناس وبخاصة العامة لدينهم ، وإيهامهم بأن هدفه من الوصول إلى السلطة إنما فقط هو خدمة دين الله (عز وجل) والعمل على نصرته والتمكين له ، ومع أننا لا نحكم على النوايا ولا نتدخل في أمر النيات فهي ما بين العبد وخالقه ، وكل ونيته ، فإن التجربة التي عشناها والواقع الذي جربناه مع جماعة الإخوان الإرهابية ومن دار في فلكها أو تحالف معها من جماعات الإسلام السياسي ، أكد لنا أمرين ، الأمر الأول : أن القضية عندهم لم تكن قضية دين على الإطلاق إنما كانت قضية صراع على السلطة بشره ونهم لم نعرف لهما مثيلا وإقصاء للآخرين عن عنجهية وصلف وغرور وتكبر واستعلاء ، بما نفر الناس منهم ومن سلوكهم الذي صار عبئا كبيرا على الدين ، وأصبحنا في حاجة إلى جهود كبيرة لمحو هذه الصورة السلبية التي ارتسمت في أذهان كثير من الناس رابطة بين سلوك هؤلاء الأدعية وبين الدين ، الأمر الآخر : أنهم أساءوا لدينهم وشوهوا الوجه النقي لحضارته الراقية السمحة ، وأثبتوا أنهم لا أهل دين ولا أهل كفاءة ، وإلا فهل من الدين أن يخون الإنسان وطنه وأن يكشف أسراره ويبيع وثائقه ؟ وهل من الدين التحريض على العنف والقتل والفساد والإفساد وتشكيل ما يسمى باللجان النوعية التي تعيث في الأرض فسادا في عمالة وخيانة غير مسبوقة ، خيانة للوطن ، وعمالة لأعدائه ؟ 

الخلاف الفقهي والخلاف السياسي 

تحدثنا عن العلاقة بين الدين والسياسة ، وأكدنا مرارا على أهمية ترسيخ مفهوم الدولة الوطنية والبناء الوطني الصلب الذي يسع الجميع على أساس الحقوق الواجبات الوطنية المتبادلة ، وعلى عدم المتاجرة بالدين أو استغلاله في المصالح السياسية أو الحزبية .

والمنتظر من العلماء والفقهاء والمفكرين العقلاء في كل زمان ومكان أن يكونوا رجال فكر وعقل ، ودعاة أمن وسلام بحق وصدق وإخلاص ، مستحضرين منهج الإسلام في ترسيخ أسس التعايش السلمي بين البشر جميعا ، مؤثرين المصالح العليا للإنسانية على مصالحهم الشخصية الضيقة ، ولنا في منهج النبي (r) الذي رسخه لأسس التعايش بين أهل المدينة جميعا على اختلاف أديانهم وأعراقهم وقبائلهم أفضل الأسوة ، وذلك حين أعلن (r) أن المسلمين مع يهود المدينة الذين عددهم النبي (r) قبيلة قبيلة ، أمة واحدة وجاء الإنصاف الكامل حين قال النبي (r) : [لليهود دينهم وللمسلمين دينهم] كما آخى (r) بين أصحابه على اختلاف أعراقهم وقبائلهم ، مع ما كان بين الأوس والخزرج من أحسن وعداوات أعراقهم وقبائلهم ، مع ما كان بين الأوس والخزرج من إحن وعداوات تاريخية ، وهو ما ذكره الحق سبحانه في قوله تعالى : ) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) ( (الأنفال) 

فبل أن يكون صوت العلماء هو صوت الحكمة والعقل ووحدة الصف ونبذ الشقاق دائما ، صار صوت بعض المذهبيين المتعصبين منهم غير المدركين لفقه الواقع صوت فرقة وشقاق في بعض الأمور ، وربما كانت الرغبة في إرضاء بعض الحكام ، أو الأهل والعشير ، أو النصير والأتباع والمريدين ، وراء التشبث ببعض الآراء أو الفتاوى ، دون النظر في العواقب الوخيمة التي يمكن أن تترتب على تبني الآراء الشاذة أو العصبية العمياء دون إعمال حقيقي للفكر والعقل والمنطق.

إن الطبيعي أن يكون العلماء أعلام استنارة ، وأعلام سلام ، وأعلام حوار ، وأعلام تقارب ، وأعلام وفاق لا عناوين شقاق ، يجمعون ولا يفرقون ، يبنون ولا يهدمون ، وهو ما يجب أن نسعى جميعا إليه ، ونعمل على تحقيقه .

ضرورة الاجتهاد الجماعي

لقد عانت مجتمعاتنا من الفتاوى الشاذة والآراء الشاذة ، ولهث بعض المحسوبين على العلماء من غير المؤهلين وغير المتخصصين ومن بعض ضعاف النفوس المتطلعين للشهرة أو الجاه أو حب الظهور ، خلف كل شاذ وغريب من الآراء ، ليجذبوا بذلك الأنظار إليهم ، أو ليخدموا به مصالح جماعتهم وتنظيماتهم .

ومن هنا كانت دعوة فضيلة الإمام الأكبر أ . د / أحمد الطيب شيخ الأزهر في كلمته التي ألقاها في افتتاح مؤتمر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمدينة الأقصر تحت عنوان : [ رؤية الأئمة والعلماء لتجديد الخطاب الديني ، وتفكيك الفكر المتطرف ] إلى تبني الاجتهاد الجماعي الذي يدعي إليه كبار العلماء ، من مختلف دول العلماء ممن يحملون هموم الأمة ومشكلاتها ليواجهوا بشجاعة القضايا العالقة مثل قضايا الإرهاب وتحديد مفهوم دار الإسلام ، والالتحاق بجماعات العنف .

ولا شك أن هذا الاجتهاد الجماعي سيسهم بشكل كبير وواضح وبناء في القضاء على الآراء الشاذة ، وعلى إزالة أسباب التطرف التي لخص مؤتمر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية الأخير أهمها فيما يأتي : 

1- الانغلاق ، والجمود ، والتقليد الأعمى ، وسوء الفهم ، الوقوف عند حرفية النص ، والابتعاد عن فقه المقاصد والمآلات ، وعدم فهم القواعد الكلية للتشريع ، وإتاحة الفرصة لتصدر غير المؤهلين وغير المتخصصين لبعض جوانب المشهد الدعوي .

2- متاجرة بعض الجماعات والتنظيمات بالدين ، واتخاذه مطية لتحقيق مصالح سياسية وحزبية ، مع إيثار مصالح الجماعات والتنظيمات على المصالح العليا للدين والوطن ، وغلبة التدين الشكلي والتدين السياسي على التدين الخالص لله (U) .

3- نجاح بعض القوى الاستعمارية في استقطاب عملاء لها في كثير من الدول العربية والإسلامية ، سواء على وجه المصالح المتبادلة ، والوعود الوهمية لبعض الجماعات ، أم عن طريق شراء الذمم والولاءات .

4- على أن هذا الاجتهاد الجماعي يمكن أن يؤدي إلى تحقيق جانب كبير من التقارب بين العلماء ، ويزيل كثيرا من أسباب الفرقة والخلاف ، مما يسهم – وبلا شك – في وحدة صف الأمة ، ولا سيما في مواجهة الأفكار الشاذة والمنحرفة والضالة والمتطرفة .

التعددية السياسية والسلطات الموازية 

أما وجود سلطات موازية في أي دولة ، أو وجود جماعات ضغط ذات مصالح خاصة بها ، أيا كان شكل هذه السلطات والجماعات ، فإن ذلك يشكل خطرا على بنيان الدول وتماسك كيانها ، وبخاصة تلك السلطات التي تتستر بعباءة الدين وتحاول أن تستمد قوتها ونفوذها من خلال المتاجرة به .

وإذا كنا نؤمن بأنه لا إكراه في الدين ، وأن دور العلماء هو البلاغ المبين ، وأنهم دعاة وهداة وليسوا حكاما أو قضاة ، فإن هذا الأمر يتطلب وضوحا في العلاقة بين الدعوة والسلطة ، على أن السلطات الموازية التي تحاول بعض الكيانات خلقها قد تكون دينية أو فكرية أو ثقافية ، وقد تكون اقتصادية ، وقد تكون اجتماعية من خلال أنشطة بعض الجمعيات ، أو تحت أي مسمى آخر.

والخلاصة أن أي كيان يشعر بأنه فوق القانون وفوق المحاسبة ويصل الأمر إلى التحسس والتوجس من محاسبته يعد سلطة موازية تشكل خطرا أو ضغطا على دولة القانون وعلى إنفاذه ، وأن نطبق العدالة الشاملة على الجميع وبلا أي استثناءات هو الحل الأمثل لإنقاذ دولة القانون ، وهذا سيدنا رسول الله (r) يقول [ إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ] .

وأخطر ما يتعلق بالسلطة الموازية هو تلك الجماعات أو الفضائل المذهبية أو العرقية أو الطائفية التي تحاول أن تستمد قوتها وعوامل نفوذها من دول أخرى ، تجعل ولاءها الأول والأخير لها ، تعمل لحسابها من جهة وتستقوى بها من جهة أخرى .

مشروعية الدول الوطنية 

وتعني الدولة الوطنية احترام عقد المواطنة بين الشخص والدولة ، وتعني الالتزام الكامل بالحقوق والواجبات المتكافئة بين أبناء الوطن جميعا دون أي تفرقة على أساس الدين أو اللون أو العرق أو الجنس أو اللغة ، غير أن تلك الجماعات الضالة المارقة المتطرفة المتاجرة بالدين لا تؤمن بوطن وبلا بدولة وطنية ، فأكثر تلك الجماعات إما أنها لا تؤمن بالدولة الوطنية أصلا من الأساس ، أو أن ولاءها التنظيمي الأيديولوجي فوق كل الولاءات الأخرى وطنية وغير وطنية ، فالفضاء التنظيمي لدي هذه الجماعات أرحب وأوسع بكثير من الدولة الوطنية والفضاء الوطني .

وتسوق سائر الجماعات المتطرفة أنها حامية حمى الدين ، وأنها إنما تسعى لتطبيق حكم الله (U) وإقامة شرعه ، ونتساءل : أين ما تقوم به هذه الجماعات من قتل ونسف وتفجير وتدمير وسفك للدماء وانتهاك للأعراض وسبي للحرائر ونهب للأموال وترويع للآمنين من شرع الله وحكمه .

ونستطيع أن نؤكد وباطمئنان على أمور ، أهمها : 

الأول : أن الإسلام لم يضع قالبا جامدا لنظام الحكم لا يمكن الخروج عنه ، إنما وضع أسسا ومعايير متى تحققت كان الحكم رشيدا يقره الإسلام ، وفي مقدمتها مدى تحقيق الحكم للعدل والمساواة وسعيه لتحقيق مصالح البلاد والعباد ، ولا إشكال بعد ذلك في الأسماء أو المسميات ، لأن العبرة بالمعاني والمضامين لا بالأسماء ولا بالمسميات .

الثاني : أنه حيث تكون المصلحة ، ويكون البناء والتعمير ، فثم شرع الله وصحيح الإسلام ، وحيث يكون الهدم والتخريب والدمار فثمة عمل الشيطان وجماعات الفتنة والدمار والخراب.

الثالث : أن العمل على تقوية شوكة الدولة الوطنية مطلب شرعي ووطني ، وأن كل من يعمل على تقويض بنيان الدولة أو تعطيل مسيرتها ، أو تدمير بناها التحتية ، أو ترويع الآمنين بها ، إنما هو مجرم في حق دينه ووطنه معا .

الرابع : أننا في حاجة ملحة إلى إعادة قراءة تراثنا الفكري قراءة دقيقة واعية تفرق بين الثابت والمتغير ، بين ما ناسب عصره وزمانه ومكانه ، من اجتهادات الفقهاء وما يتطلبه عصرنا ومستجداته من قراءة جديدة للنصوص يقوم بها أهل العلم والاختصاص لحل إشكاليات الحاضر وبخاصة فيما يتصل بأحكام المواطنة إلى جانب تأصيل فقه العيش الإنساني المشترك ، وبيان أن أمن الأوطان والمواطنين لا يتجزأ وإنه لا يتحمل التجزئة أو التصنيف ، وقد ذكر الإمام ابن حزم (رحمه الله) أن من كان بيننا من أهل الذمة وجاء من يقصدونهم بسوء وجب علينا أن نخرج لحمايتهم بالسلاح وأن نموت دون ذلك ، لا أن نستحل دماءهم أو أموالهم أو أعراضهم .

المشتركات الإنسانية في الشرائع السماوية 

إن جانبا كبيرا من العنف الذي شهدناه على الساحة المصرية ونشاهده على الساحة الدولية إنام يرجع إلى فقدان أو ضعف الحس الإنساني ، واختلال منظومة القيم ، ما يجعلنا في حاجة ملحة إلى التأكيد على الاهتمام بمنظومة القيم الإنسانية ، والتنوع الثقافي والحضاري ، والانطلاق من خلال المشترك الإنساني بين البشر جميعا.

فقد كرم الحق سبحانه وتعالى الإنسان على إطلاق إنسانيته دون تفرقة بين بني البشر فقال (U) : ) ولقد كرمنا بني آدم ( فالإنسان بينان الرب ، من هدمه هدم بنيانه عز وجل.

كما أجمعت الشرائع السماوية على جملة كبيرة من القيم والمبادئ الإنسانية ، من أهمها : حفظ النفس البشرية قال الله تعالى : ) أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ( (المائدة : 32) 

ولهذا قدر نبينا (r) للنفس الإنسانية حرمتها ، فلما مرت عليه جنازة يهودي وقف لها ، فقيل له : إنها جنازة يهودي ، فقال (r) : أليست نفسا ؟ ! 

فقد تختلف الشرائع في العبادات وطريقة أدائها وفق طبيعة الزمان والمكان ، لكن الأخلاق والقيم الإنسانية التي تكون أساسا للتعايش لم تختلف في أي شريعة من الشرائع ، يقول نبينا (r) [ إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنعا ما شئت ] (أخرجه البخاري)

بل على العكس فإن جميع الشرائع السماوية قد اتفقت وأجمعت على هذه القيم الإنسانية السامية ، ومن خرج عليها فإنه لم يخرج على مقتضى الأديان فحسب ، وإنما يخرج على مقتضى الإنسانية وينسلخ من آداميته ومن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها .

وفي تعاليم سيدنا عيسى (u) : [ من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ] في دعوة عظيمة للتسامح في كل الشرائع السماوية لكل تعيش البشرية في سلام وصفاء ، لا نزاع وشقاق أو عنف وإرهاب .

قيام الدولة وسقوطها 

لا شيء أخطر في تاريخ البشرية من المراحل الانتقالية في تاريخ الدول ، حتى كتب العديد من الباحثين الكثير من الرسائل حول سقوط دول وقيام أخرى ، تنظيرا وتطبيقا ، ولم يأت الخطر الحقيقي على أي دولة من خارجها ، مثلما كانت عوامل سقوطها نابعة من داخلها سواء بخيانة بعض أبنائها وعمالتهم واستخدامهم لضرب دولهم ، أم بسقطات أبنائها وخروجهم عن طريق الجادة إلى طريق الانحراف أو البغي والطغيان والاستكبار .

فالحكم الرشيد هو الذي يقوم على العدل ، ذلك أن الله (U) ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة ، ويقوم على القيم والأخلاق ، ذلك أن الأمم والحضارات التي لا تقوم على القيم والأخلاق إنما تحمل عوامل سقوطها وانهيارها في أصل بنيانها : ) سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ( .

وقد حاول بعض من كتبوا في شأن الدول أن يبينوا عوامل استقرار الدول وعوامل انهيارها وسقوطها ، فذكر بعضهم أن من أهم الأمور التي تؤدي إلى انهيار الدول :

الأول : انتشار الفساد بكل أشكاله من المجاملة والرشوة والمحسوبية وتقديم الولاء على الكفاءة.

الأمر الثاني : شيوع الظلم سواء على مستوى الأفراد بغياب الأمن أو غياب القضاء العادل أو غياب العدالة في الحصول على الفرص المتكافئة أيا كان نوعها ، أم على المستوى الطبقي الذي يقوم على استبعاد الفقراء والكادحين وتهميشهم مع ازدرائهم والاستخفاف بهم .

الأمر الثالث : غياب الأمن وضعف سلطة الدولة وقيام العصابات أو الجماعات أو الميليشيات بفرض سطوتها على المجتمع أو على بعض المواطنين ، مما يفقد المظلومين المقهورين الولاء للدولة ، لذا فإن دعم المؤسسات العسكرية والأمنية لحفظ الوطن من الأخطار المحدقة به في الداخل والخارج يعد مطلبا شرعيا ووطنيا ، على أن يكون أمن المواطن والحفاظ على كرامته أولوية لأي نظام يبحث عن الاستقرار وتحقيق الولاء والانتماء الوطني.

الأمر الرابع : تدهور القيم ، فإن الحضارات قد تضعف أو تذيل أو تمرض وأطباؤها هم العلماء والمفكرون والفلاسفة وحماة القيم والباحثون عنها ، مع التأكيد على أهمية إعداد وانتقاء واختيار من يشكلون فكر وثقافة المجتمع فقد ذكر بعضهم أن الأنبياء حكام على الظاهر والباطن ، والحكام حكام على الظاهر ، والعلماء حكام على باطن الخاصة ، والوعاظ حكام على باطن الخاصة.

الأمر الخامس : تدهور الأحوال المعيشية للأفراد بما يخل باحتياجاتهم الأساسية ، فمع ضرورة تقدير الأفراد للظروف والتحديات التي تمر بها أوطانهم ، ومع أننا نذكر بأن أصحاب النبي (r) صبروا على الحصار الاقتصادي حتى أكلوا ورق الشجر من شدة الجوع ، فإن ذلك يحتاج منا جميعا العمل على كسر كل ألوان الحصار والتضييق ، بالعمل والإنتاج والجد والاجتهاد وحسن التكافل الاجتماعي ورعاية الضعفاء والضرب بيد من حديد على أيدي المغالين والمحتكرين .

العواصم والحدود وبناء الدول

العلاقة بين عواصم الدول وحدودها هي علاقة تكامل لا علاقة صراع ولا ينبغي أن تكون ، إذ لا غنى لأي دولة من أن يكون لها عاصمة هي القلب والمركز ، وأطراف وحدود بمثابة الأجنحة التي لا تعلو الدول ولا ترتفع بدونها ، لكن المركز يستحوذ في كثير من دول العالم على بؤرة الاهتمام ، فالشواهد والواقع المعاش يؤكدان استحواذ المركز عبر التاريخ على أعلى درجات الاهتمام ، غير أن مستوى هذا الاهتمام يختلف بين الدول المتحضرة والدول المتخلفة ، فالدول المتحضرة لا يمكن أن تهمل جزءا من أطرافها أرضا أو سكانا فتتركه هملا أو فرصة للضياع أو الإهمال أو الاعتداء ، أو حتى مجرد التفكير في الانفلات أو الانفصال ، وقد دخل أحد الشعراء على سيدنا عمر بن عبد العزيز (t) .

أما في ظل اهتمام الدول بالاستثمار في أطرافها ومناطقها الحدودية ، وتوفير الخدمات اللازمة لأبنائها من : الإسكان والصحة والتعليم والثقافة وسائر الخدمات التي تطلبها مقومات الحياة المستقرة بأرضهم وموطن نشأتهم ، مع توفر فرص العمل والإنتاج فإن ذلك كله يؤدي إلى ارتباط أبناء هذه المناطق بأرضهم ، وحفاظهم على كل ذرة رمل أو تراب من ثراها الندي ، مع ولاء وانتماء وطني خالص.

وفي حالة توفر عوامل جذب وحوافز للعمل بهذه المناطق والاستثمار الجاد فيها كما يحدث الآن من اهتمام الدول بمناطق سيناء ومطروح والإسماعيلية الجديدة وحلايب وشلاتين والوادي الجديد ، ومناطق الظهير الصحراوي بصفة عامة ، فإن هذه المناطق ستتحول إلى مناطق جاذبة ، مما يحدث توازنا كبيرا في التوزيع الجغرافي ، والسكاني ، ويوفر حياة كريمة لأبناء هذه المناطق ، ويخفف الضغط على المركز وعلى ما يقدم به من خدمات لا غنى عنها للمقيمين به ، أو ما تتطلبه طبيعة العواصم ومركز الثقل السياسي والاقتصادي بالعالم كله ، من الرقي بها إلى درجة تجعل منها عامل جذب سياحي وإبهار حضاري ودلالة على عظمة الشعوب ورقيها.

النقد بين الإصلاح والهدم

بداية يجب أن نفرق بين النقد الذي يعني تمييز الجد من الرديء ، والنقض الذي يعني الهدم ، فالأول مأخوذ من نقد الذهب والفضة أي تمييز الصحيح من الزائف منها ، والثاني وهو النقض فمعناه الهدم ، يقال : مات فلان تحت الأنقاض ، أي : تحت بقايا الهدم.

على أن النقد في اللغة له معنيان : أولهما : هو العيب والذم والقدح ، ومنه قول أبي الدرداء (t) : إن نقدت الناس نقدوك وإن تركتهم تركوك ، أي إن عبتهم وقدحت فيهم عابوك وقدحوا فيك ، فكلك عورات وللناس ألسن .

أما المعنى الثاني وهو النقد المنصف فيعني التمييز بين الحسن والقبيح ، على أنه قد يكون مدحا واستحسانا ، وقد يكون ذما واستهجانا ، وقد يجمع الناقد بين بيان المحاسب والمثالب.

أما النقد العلمي والمنهجي والموضوعي فهو القائم والمبني على أسس علمية وموضوعية وفنية وهذا النقد يحتاج إلى ثلاثة مقومات أساسية : 

أولها : الأدوات المتصلة بالصناعة أو الفن فناقد العمل الأدبي يحتاج إلى الإلمام بعلوم اللغة من النحو والصرف والعروض وعلوم البلاغة والنقد وأدب الكتاب والثقافة العامة في سائر العلوم الإنسانية والاجتماعية والنفسية وفنون التاريخ والحضارة والعمران وما إلى ذلك .

الأمر الثاني : الذي يجب أن يلم به الناقد هو الخبرة والدربة والملكة .

أما أن يقتحم مجال النقد من لا يمتلك لا الخبرة ولا الحاسة ولا أدوات الصناعة والفن أو مؤهلات النقد ، فتلك الطامة الكبرى التي تؤخر ولا تقدم ، وتفسد ولا تصلح ، وتسيء للناقد قبل المنقود.

الأمر الثالث والأهم هو : الإخلاص والتجرد والبعد عن الأهواء وتصفية الحسابات ، فإن الوقوع في آفات الهوى والميل وعدم الإنصاف طامة كبرى يجب الترفع عنها ، وذلك أن بعض النفوس المريضة لا تعرف سوى الهدم طريقا .

فإذا كانت القيادة مسئولية وأمانة ، فإن ممارسة النقد والتحليل أيضا مسئولية وأمانة ، وكلنا مسئولون أمام الله (U) كل عن الأمانة التي ولاه الله إياها ، كما أننا مسئولون عن بناء وطننا ، والعمل على نهضته ورقيه من خلال سبل البناء والإصلاح لا الهدم والنقض ، ولا النفعية أو حب الظهور ، على أن الغالبية العظمى صارت تميز الغث من السمين ، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم ) فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ( .

قصة التماثيل وهدم الحضارات

بداية لا يوجد مسلم واحد على ظهر البسيطة يعبد تمثالا ، أو يؤمن بذلك ، أو يدعو إليه ، أو يفكر فيه ، بل ولا أحد من أصحاب الديانات السماوية على الإطلاق.

وإذا كان الإسلام قد نهى عن صناعة التماثيل في عصر صدر الإسلام فإن العلة في ذلك كانت تدول حول أمرين ، أولهما أن الناس كانوا لا يزالون حديثي عهد بالإسلام ، قريبي عهد بعبادة الأصنام والأوثان ، ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله (U) كما حكى القرآن الكريم على لسانهم ، حيث يقول سبحانه وتعالى : ) ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ( .

الأمر الآخر : إذا كانت هذه التماثيل تصنع لتعبد ، أو كانت صناعتها مضاهاة لخلق الله (U) ومما يؤكد ذلك أنه باستثناء تطهير الكعبة من الأصنام والأوثان التي كانت تعبد لم يثبت أن الصحابة رضي الله عنهم حطموا معبدا أو تمثالا أو أثرا من الآثار في أي بلد من البلاد التي فتحوها ، ذلك أن فهمهم للإسلام كان فهما صحيحا للمقاصد والغايات ، فلم يجمدوا عند ظواهر النصوص ، وإنما تأملوا بعمق وفهم ووعي في غاياتها ومقاصدها.

وأسوأ ما في هذا الأمر أنه يرتكب باسم الإسلام ، ومن أناس يحسبون أنفسهم عليه ظلما وعدوانا ، وهو منهم براء ، وحتى لو كذبوا على أنفسهم وأوهموا ضحاياهم من الشباب الملتحقين بهم بأنهم على الحق ، فهم كما قال الحق سبحانه وتعالى : )وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( ويقول سبحانه : ) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)( ويقول سبحانه : ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) (

وقد أكد فضيلة الإمام الأكبر أ . د / أحمد الطيب شيخ الأزهر ، كما أكدت كل من وزارة الأوقاف ودار الإفتاء المصرية ، أنه لا يجوز الاعتداء على هذه المعالم الحضارية بأي لون من ألوان الاعتداء هدما أو تشويها أو بيعا أو نهبا أو تدميرا ، وأن الاعتداء عليها هو اعتداء على الحضارة والتراث الإنساني .

بين الكفاءة والولاء

إذا اجتمعت الكفاءة مع الولاء للوطن ، والولاء للعمل ، والولاء للمهنة ، والولاء للمكان الذي يعمل به الإنسان ، فذاك أمل منشود أما إذا كان الولاء لشخص ما أو جماعة ما أو حزب ما هو مناط الاختيار والتقديم على حساب الأمانة أو الكفاية أو الكفاءة فهذا أمر جد خطير ، سواء في مقاييس الشرع ، أم في مقاييس الوطنية ، وهما مرتبطان لا ينفكان يقول نبينا (r) : [ من استعمل رجلا على جماعة هو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه ، فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين ] على أن الولاية أيا كان شأنها كبيرا أو صغيرا تتطلب الأمانة والكفاءة معا ، يقول الحق سبحانه على لسان يوسف (u) ) قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ( ويقول سبحانه على لسان ابنة شعيب (u) في شأن موسى (u) : ) يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ( فلا الأمانة وحدها تجدي ولا العلم وحده يغني .

أما تقديم الولاءات الخاصة فيعيدنا إلى العام الأسود ، عام الأهل والعشير ، وتقديم لمكتب الإرشاد على سائر الكفاءات ، كما يردنا إلى عقود ساد فيها الفساد الإداري الذي ما زلنا نعاني من آثاره ، حيث كان التقديم للوصوليين ولبعض المنافقين والمتزلفين ، ومن يحسنون طرق الرشوة والمحسوبية والواسطة ، فنقدم غير الأكفاء على الأكفاء ، فكان الظلم والإحباط ، وأصبح هم غير الأكفاء أن يستروا عوراتهم بإبعاد الأكفاء عن طريقهم من جهة ، وأن يعملوا على استرداد ما دفعوه من أجل الوصول إلى ما وصلوا إليه أضعافا مضاعفة من جهة أخرى ، ومن هنا تأتي حرب سيادة الرئيس على الفساد والمفسدين ، وحرصه الشديد على اجتثاث الفساد من جذوره .

ولا شك أن هؤلاء الذين يتسلقون على أكتاف الأكفاء بطرق وأساليب غير شرعية ولا قانونية ، لا يعملون إلا على إرضاء من فوقهم حتى لو كان ذلك على حساب دينهم وضميرهم أو على حساب مصلحة العلم أو المصلحة الوطنية .

ولا شك أن هؤلاء النفعيين الوصوليين لا يمكن أن ينهضوا لا بوطن ولا مؤسسة ولا بأمانة ، لأنه لم يكونوا لها أهلا ، ولن يحرصوا على تصعيد الأكفاء ، بل إن نفوسهم في الغالب ستكون مليئة بالحقد على هؤلاء الأكفاء المتميزين ، وسيكونون حريصين كل الحرص على تصعيد الأضعف الذي يدين لهم بالولاء الكامل ، ولا يمكن له أن يراجعهم أو أن يعترض على شيء من تصرفاتهم أو ينتقد عملا من أعمالهم .

نحو توظيف أمثل لأموال الزكاة

لا شك أن الزكاة إذا وظفت توظيفا صحيحا في مصارفها الشرعية تسد ثغره كبيرة في احتياجات الفقراء والكادحين والمصالح العامة للوطن ، وإذا سخت نفس الأغنياء والقادرين بالصدقات والقيام بواجبهم في باب فروض الكفايات من إطعام الجائع ، وكساء العاري ، ومداواة المريض ، وإعانة المحتاج ، والإسهام الجاد فيما يحتاج إليه الوطن من إصلاح وسلاح وعتاد فإن وجه الحياة لأي وطن سيتغير ، ولن يكون بين أبنائه محتاج ولا متسول ، يقول الإمام على بن أبي طالب (t) إن الله عز وجل قسم أقوات الفقراء في أموال الأغنياء ، فما جاع فقير إلا بشح غني ، فإن وجدت فقيرا جائعا فاعلم أن هناك غنيا ظالما لم يخرج حق الله في ماله ، ويم يف بواجبه تجاه مجتمعه .

الزكاة حق أصيل في المال :

وأؤكد على حقائق أولها : أن الزكاة حق أصيل في المال ، وركن رئيسي من أركان الإسلام كالصلاة والصيام سواء بسواء .

الأمر الثاني : أن الإسلام قد دعا إلى الصدقة والإكثار منها يقول سبحانه : )مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ( ويقول (r) : [ ما نقص مال من صدقة ] .

مكمن الخلل وإصلاحه :

لا شك أن الخلل لا يخرج عن أن يكون من جهة الدافع أو جهة ملتقى الزكاة أو من الجهة الوسيطة سواء أكانت شخصا أم جمعية أم مؤسسة .

فالخلل الذي يأتي من جهة الدافع إما أن يكون بعدم الدفع أصلا ، وإما بالتحايل عليه ، وإما بدفعه دون تحميص أو تدقيق في أمر الجهة التي يدفع لها.

وهنا ينبغي أن يركز الخطاب الديني على وجوب الزكاة وأهمية إخراجها ، والإثم الشديد المترتب على منع حق الله عز وجل في المال مع التأكيد على أن الغني لا تبرأ ذمته بمجرد إلقاء المال أي إلقاء وكيف تأتي له ، فبعض الفقهاء على أن الغني إذا دفع المال إلى من ظنه فقيرا فبان خلافه لم تسقط عنه الزكاة ، فعليه أن يتحرى في المصارف الشرعية وفي أمانة ودقة وشرعية الجهة التي يدفع إليها زكاته حتى تبرأ ذمته أمام الله عز وجل ، وتسهم زكاته في الثمرة المرجوة التي شرعت من أجلها الزكاة .

والخلل الذي يأتي من جهة الآخذ إنما يأتي من ضعف الوازع الديني لدي بعض من تسول لهم أنفسهم الحصول على المال من أي طريق حتى لو كان فيه إراقة ماء وجوههم وهؤلاء علينا أن نذكرهم بمنهج الإسلام وبالحس الإنساني السليم الذي ينأى بالقادر عن العمل على التسول أو دناءة النفس ، يقول نبينا (r) :[ إن المسألة لا تحل إلا لذي فقر مدقع أو ذي غرم مفظع ، أو دم موجع ] .

أما جهة الخلل الثالثة فهي آلية الجمع والتوزيع فمع إيماننا بدور بعض مؤسسات المجتمع المدني في التخفيف من معاناة الفقراء والكادحين سواء من خلال نفقات أم من خلال مشروعات خدمية وبخاصة الطبية منها ، فإنني أدى أن هذه الجهات تحتاج إلى الآتي :

أ- أن تكون تحت مراقبة دقيقة لأجهزة الدولة وأن تقوم هذه الأجهزة بالمتابعة والمراقبة على الوجه الأكمل ، وأن تكون هناك شفافية واضحة في إعلان الميزانيات ، والنفقات والمكافآت مع ترشيد الإنفاق الإداري إلى أقصى درجة ممكنة.

ب- أن تكون هناك خارطة واضحة لوجود هذه الجمعيات ، ونطاقها الجغرافي ، وأنشطتها ، بحيث لا تصب كلها في مجال واجد أو مجالات محدودة ، مع إهمال مجالات ربما تكون أكثر أهمية وحيوية للمجتمع.

ج- أن تتولى جهة ما ، ولتكن وزارة التضامن الاجتماعي شبكة ربط وتنسيق إلكترونية تربط من خلالها المستفيدين بالمنطقة ، وبمؤسسات المجتمع المدني في نطاقها الجغرافي أو الخدمي ، بحيث تنتفي ظاهرة المقيدين أو المستفيدين بحرفية تسولية من جهات أو جمعيات متعددة في حين لا تصل الزكاة والصدقات إلى مستحقيها الحقيقيين .

د- أن تحدد أهداف وأغراض واضحة قد يتضافر فيها المجتمع ، أو تخصص كل جهة أو جمعية لغرض منها ، كإطعام الجائعين وعلاج المرضى ، وسداد ديون الغارمين ، وهي مناط الحملة التي بدأت بها وتبنتها وزارة الأوقاف المصرية .

الجمال والبهجة والذوق السليم

الإسلام دين الحضارة والرقي ، دين الكمال والجمال ، دين البهجة والسعادة ، وكل نصوصه وتوجيهاته وطرقه ومسالكه تؤدي إلى ذلك ، بل إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد أكدا هذه المعاني ، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : )وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) ( (النحل) ويقول سبحانه وتعالى : ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) ( (طه) ) وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ( ويقول سبحانه وتعالى : )وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ( ، ويقول سبحانه : ) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)( (الغاشية) ، ) ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ( ويقول سبحانه في شأن السماوات العلا : ) وزيناها للناظرين ( ، ) وزينا السماء الدنيا بمصابيح ( .

بل لقد أمرنا القرآن الكريم بأن نتجمل أحسن التجمل ، وأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد ،فقال سبحانه : )يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) ( (الأعراف) 

وعندما قال نبينا (r) : [ لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثال ذرة من كبر ، قال الرجل : إن الرجل ، يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، قال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس ] ولما أخبره سيدنا المغيرة بن شعبة (t) أنه خطب امرأة فقال له النبي (r): [ انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ] .

على أن الجمال الحقيقي لا يقف عند حدود الشكل إنما يتجاوزه إلى جمال الجوهر ، وجمال المعدن ، وجمال الأخلاق ، وجمال الطباع ، يقول مصطفى صادق الرافعي (رحمه الله) : إن خير النساء من كانت على جمال وجهها في أخلاق كجمال وجهها وكان عقلها جمالا ثالثا فهذه المرأة إن أصابت الرجل الكفء يسرت عليه ثم يسرت ثم يسرت .

فيجب علينا جميعا أن نتجمل بجمال الإسلام في سمتنا ، وفي مظهرنا ، وفي بيئتنا ، وفي مدارسنا ، وفي معاهدنا ، وفي حدائقنا ، وفي متنزهاتنا ، وفي أماكننا العامة ، وألا نشوه معالم الجمال والبهجة بما ينفر الطبع السليم والذوق الراقي .

الصديق الذي نبحث عنه

الصديق الذي نبحث عنه هو من قال عنه مصطفى صادق الرافعي (رحمه الله) هو من إذا غاب لم تقل إن أحدا غاب عنك ولكن تشعر أن جزءا منك ليس فيك ، فهو قطعة منك ، ليس ذلك الصديق الذي يماسحك كما يماسحك الثعبان ، ويراوغك كما يرواغك الثعلب ، أو يقبع منك كما يقبع القنفذ ، فهؤلاء الأصدقاء لا تجدهم إلا على أطراف مصائبك ، فهم كالذباب لا يقع إلا حيث يكون العسل .

البغي وسوء العاقبة

والبغي قد يكون بغي أفراد ، وقد يكون بغي جماعات ، وهو من يطلق عليهم (البغاة) وقد يكون بغى دول ، وما من شخص أو طائفة أو جماعة بغت وطغت واستعلت وتجبرت إلا أخذ ها رب العزة (U) أخذ عزيز مقتدر ، يقول الحق سبحانه : ) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ( ويقول (U) في شأن قارون : ) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) (  (القصص) 

ومن هنا فإنني أؤكد أن عاقبة الدول الباغية إلى زوال ، ولله در شاعر النيل حافظ إبراهيم ، حيث يقول في قصيدته الرائعة ( مصر تتحدث عن نفسها)

كم بغت دولة وجارت               ثم زالت وتلك عقبى التعدي

ما رماني رام وراح سليما            من قديم عناية الله جندي 

والجماعات التي تقوم على الاستعلاء والإقصاء والظلم والبغي وتجاوز الحد في الإجرام كتلك الجماعات التي تتبنى عمليات الانتحار والتفجير والتدمير ، وتستحل ذبح الإنسان وحرقه والتمثيل به ، وإذلال البشر ، وبيع الحرائر سبايا ، وهدم الحضارات ، وتخريب العامر ، ونقص البنيان وإحراق الأخضر واليابس وإهلاك الحرث والنسل ، إنما تحمل عوامل سقوطها وسر دمارها وهلاكها لأن الله (U) لا يحب الفساد ولا الإفساد ولا المفسدين ، ومن ثمة فإني أبشر بهلاك عاجل لداعش وأخواتها من القاعدة ، وأعداء بيت المقدس ، وبوكوحرام ، وسائر الجماعات الإرهابية والظلامية والمتطرفة والمعوجة [ والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ] .

الرشوة وأثرها في هدم الدول 

كما أنني أدعو إلى تعديل قانون يجرم المشاركة بأي شكل في عملية الرشوة وكل المشاركين فيها راشيا ومرتشيا ووسيطا ، ولا سيما بعد اكتشاف الجريمة بمعرفة أجهزة الدولة اليقظة الواعية ، أما الشهامة الحقيقية والوطنية الصادقة فهي التي تتحقق في الإبلاغ عن الجريمة قبل القبض على المتهمين ، أما بعد القبض عليهم فكل أطرافها شركاء في الجرم والإثم ، ولهذا قال نبينا (r) : [لعن الله الراشي والمرتشي والرائش] وهو من يسعى بينهما بالرشوة ، بل هو الأشد فتنة وخطرا وقال (r) : [ الراشي والمرتشي في النار ] وقال (r) : [ لعنة الله على الراشي والمرتشي ] وهو وعيد شديد لآكل الرشوة ودافعها والساعي بينهما بأن جعل جميعا مطرودين من رحمة الله ، متعرضين لسخطه وغضبه ، ولم يتوقف الأمر عند مجرد النهي عنها وذمها ، بل تعدى ذلك ليصل إلى حد اللعن الصريح الذي يعني الطرد من رحمة الله تعالى .

فالرشوة في الإسلام محرمة بأية صورة كانت وبأي اسم سميت ، سواء تحت مسمى هدية أم غيرها ، فالأسماء لا تغير من الحقائق شيئا والعبرة بالمضامين والمعاني ولا بالأسماء ولا بالمسميات ، فويل للراشين والمرتشين والساعين بينهم من غضب الله (U) في الدنيا والآخرة .

مصر الكبيرة بأخلاقها وحضارتها

لا شك أن مصر دولة عظيمة بقادتها ، وعلمائها ، ورجالها ، ونسائها ، وشبابها ، وفتياتها ، وتاريخها ، وحضارتها ، ودورها الريادي في المنطقة فكريا وعلميا وثقافيا وعسكريا وحضاريا وإنسانيا ولعل أهم ما يميز مصرنا الكبيرة العظيمة هو سعة أفقها ، وقدرتها على التجاوز والتسامح ، والترفع عن الدنايا والصغائر .

إن مصر على مدار تاريخها العريق غنية بالقيم والأخلاق ، لم يعرف عن أهلها قدر ولا خيانة ، ولا اعتداء ولا عدوان على أحد بدون حق بل وقفت بما وسعها من قوة وإمكانات إلى جانب الأشقاء والأصدقاء ، وعرفت طوال تاريخها بحسن الجوار ، وبسماحة أهلها ، وحسن عشرتهم ، وخفة روحهم ، لم تعرف التشدد ولا التطرف ، وما يحدث من موجات عنف عابرة أو طارئة هنا أو هناك إنما هو ظواهر شاذة بلفظها المجتمع المصري بفطرته وطبيعته العنقية ، وهي سحابة صيف عما قريب تنقشع .

لقد استوعبت الحضارة المصرية كثيرا من مظاهر الحضارات الأخرى ، وأفادت منها النافع المفيد ، ولفظت الغث والخبيث ، وكان أزهرها بسماحته ووسطيته المعروفة عبر تاريخه الذي أربى على ألف عام أحد أهم ضمانات هذه السماحة والوسطية ، ليس في مصر وحدها ، ولا في العالم العربي وحده ، ولا العالم الإسلامي وحده ، بل في العالم كله .

حديث القرآن عن محمد )r(

لقد زكى ربه لسانه فقال سبحانه : ) وما ينطق عن الهوى(وزكى فؤاده فقال : ) ما كذب الفؤاد ما رأى ( وزكى معلمه فقال : ) علمه شديد القوى ( وزكى خلقه فقال : ) وإنك لعلى خلق عظيم (وشرح صدره فقال : ) ألم نشرح لك صدرك ( ورفع ذكره فقال : ) ورفعنا لك ذكرك ( وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال سبحانه : ) إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر (

قرن الحق سبحانه وتعالى طاعته (r) بطاعته فقال سبحانه : ) من يطع الرسول فقد أطاع الله ( وجعل حبه (r) وسيلة لحب الله (U) فقال سبحانه : ) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ( وجعل بيعته (r) بيعة لله (U) فقال سبحانه : ) إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ( .

وقد أكرمه ربه حتى في مخاطبته وندائه ، فحيث نادى رب العزة (U) سائر الأنبياء بأسمائهم ، ) يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ( ، ) يا نوح اهبط بسلام منا وبركات ( ، ) يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ( ، ) يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى ( ، ) يا يحيى خذ ال كتاب بقوة ( ، خاطب نبينا (r) خطابا مقرونا بشرف الرسالة أو النبوة أو صفة إكرام وتفضل وملاطفة ، فقال الله تعالى : ) يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ( ، ) يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ( ، ) يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا ( ، ) يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر ( وعندنا شرفه الحق (سبحانه وتعالى) بذكر اسمع في القرآن الكريم ذكره مقرونا بز الرسالة ، فقال سبحانه وتعالى : ) محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ( وقال سبحانه وتعالى : ) وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ( وأخذ العهد على الأنبياء والرسل ليؤمنن به ولينصرنه ، فقال سبحانه : ) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( .

ومن إكرام الله (U) له (r) أن جعل رسالته للناس عامة ، حيث كان كل رسول يرسل إلى قومه خاصة ، أما حبينا محمد (r) فقد أرسله ربه (U) إلى الناس عامة ، فقال سبحانه : ) وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ( وختم برسالته الرسالات وختم به (r) الأنبياء والرسل ، فقال سبحانه وتعالى : ) ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ( .

محمد (r) نبي الرحمة 

أرسل الله (عز وجل) نبينا محمدا (r) رحمة للعالمين ، فقال سبحانه : ) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ( وعرف نبينا (r) نفسه ، فقال : ) يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة ( وأكد القرآن الكريم ذلك فقال : ) لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ( .

فكتابه (r) كتاب رحمة ، حيث يقول الحق سبحانه : ) وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ( ودينه دين الرحمة والأمن والأمان والسلام للبشرية جمعاء ، دين يرسخ أسس التعايش السلمي بين البشر جميعا ، يحقن الدماء كل الدماء ، ويحفظ الأموال كل الأموال ، على أسس إنسانيته خالصة دون تفرقة بين الناس على أساس الدين أو اللون أو الجنس أو العرق ، فكل الأنفس حرام ، وكل الأعراض مصانة ، وكل الأموال محفوظة ، وكل الأمانات مؤداة لأهلها ، وبلا أي استثناءات ، وهذا نبينا (r) عند هجرته إلى المدينة يترك على بن أبي طالب بمكة ليرد الأمانات إلى من أذوه وأخرجوه وجردوا كثيرا من أصحابه من أموالهم وممتلكاتهم .

فالإسلام دين رحمة وسلام للعالم كله ، ولا يوجد في الإسلام قتل على المعتقد قط .

لا شك أن عوامل كثيرة كانت وراء ذلك ، منها سيطرة المتخصصين على الخطاب الدعوي واختطافهم له لفترات زمنية طويلة ، واعتقاد بعضهم اعتقادا خاطئا أن زيادة التشدد زيادة في التدين ، فكل هذه المفاهيم الخاطئة قد صارت في حاجة ملحة إلى تصويبها ، مع التأكيد على أن الإسلام هو دين الرحمة والسماحة واليسر ، فأهل العلم على أن الفقه هو التيسير بدليل ، ولم يقل أحد ممن يعتد بعلمه في القديم ولا في الحديث إن الفقه هو التشدد ، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى : ) يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ( .

الإسلام يتحدث عن نفسه 

الإسلام قطعة ذهب لا تحتاج أكثر من أن نجلي ما علق بها أو ران عليها من بعض الغبار المتطاير أو حتى المتراكم ، لأن المعادن النفيسة لا تصدأ ولا يصيبها العطب مهما كانت عوامل الزمن وتداعياته وأحداثه وتراكماته .

دين لا يعرف الأذى ، فالمسلم الحقيقي فيه هو من سلم الناس من لسانه ويده ، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم وأنفسهم ، ولما سئل نبينا (r) عن امرأة صوامة قوامة غير أنها تؤذي جيرانها ، قال (r) : [ هي في النار ] ، وهو القائل (r) : [ والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن والله لا يؤمن قالوا : من يا رسول الله ؟ فقال : (r) : من لا يأمن جاره بوائقه ] ويقول (r) : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ] 

دين يحفظ للإنسان كرامته ، فينهي عن الغيبة ، والنميمة ، والتحاسد والتباغض والاحتقار وسوء الظن لهو دين عظيم .

دين يمنع الظلم والغش ولو مع أعدائه ، ويحرم سائر الممارسات الاحتكارية لهو دين عظيم ، وذلك حيث يقول نبينا (r) : [ من احتكم طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله ] وحيث يقول (r) : [ لا يحتكر إلا خاطئ ] .

دين يعمل على تحقيق الرحمة للإنسان والحيوان والجماد لهو دين عظيم .

دين ينهي عن كل ألوان الفساد والإفساد والتدمير والتخريب ، ويعصم الأموال والأعراض والأنفس ، لهو دين عظيم ، وذلك حيث يقول الحق سبحانه : ) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ( .

وأخيرا نستطيع أن نقول إن الإسلام قضية عادلة ودين عظيم وأنه وإن تعرض للهجوم من أعدائه فإن المخلصين من أبنائه قادرون بإذن الله (U) على تجليه الغبار عنه وعرضه عرضا صحيحا من خلال البلاغ الواضع المبين ، الفاهم لفقه المقاصد ، وفقه الواقع ، وفقه المتاح ، وفقه الأولويات ، فهما يؤهل صاحبه للوفاء بواجب هذا الدين العظيم بما يحمله لصالح الإنسانية جمعاء من سبل السعادة والرقي وما يحمله لمن يعمل به من خير الدارين الدنيا والآخرة .

هل هذا هو الإسلام ؟

لقد خبرت من خلال خبراتي الحياتية والدعوية الإخوان ومسالكهم ، وحيلهم ودروبهم ، واستحلالهم للكذب ، وتحريفهم لمفهوم النصوص ولي أعناقها، وانتهاجهم منهج التقية ، وتدريب ناشئيهم على السرية والكتمان ، والسمع والطاعة الأعميين ، وإغرائهم بالنعيم المقيم في الدنيا والآخرة ، وتأملت حديث رسول الله (r) حيث يقول : [ آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان ] وحديثه (r) حيث يقول : [ أربع من كن فيه كان منافقا خالصا : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ] فمن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ، فوجدت الإخوان ينقضون ذلك نقضا عمليا ، ويسيرون على عكس ذلك تماما ، فإذا كان (r) قد ذكر العلامة الأولى من علامات النفاق أن المنافق إذا حدث كذب ، فإن الإخوان لا يكذبون مجرد كذب ، إنما يتحرون الكذب ويتدربون ويدربون عليه تحت عناوين ما أنزل الله بها من سلطان : كالكذب المباح ، أو المواطن التي يجوز فيها الكذب ، أو المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب ، حتى صار الكذب والافتراء والبهتان أصلا من أصولهم الفكرية والحركية ، متجاهلين قول النبي (r) :[ إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله عز وجل صديقا ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ] .

وإذا كان من أخص صفات المنافق أنه إذا وعد أخلف ، فإنني أظن أن من تعامل أو يتعامل مع الإخوان وبخاصة في المجال السياسي يدرك أنهم لا عهد لهم ولا ذمة ولا أمان ، فقد جبلوا وتربوا على آليات واضحة للتبرير لأنفسهم ، والتحلل من وعودهم وعهودهم ومواثيقهم .

وإذا كان من صفات المنافق أنه إذا اؤتمن خان ، فإننا قد رأينا الإخوان أنهم حين تحملوا أمانة الحكم ، خانوا الأمانة ، وأقصوا الجميع ، وتخابروا مع الأعداء ، وباعوا القضية الدينية والوطنية معا ، متجاهلين قوله تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (

وإذا كان من صفات المنافق أنه إذ خاصم فجر ، فإنني أظن أن تاريخنا الحديث لم يعرف قوما أكثر لددا في الخصومة وفجورا فيها ، واستعدادا لإراقة الدماء وإهلاك الحرث والناس والإفساد في الأرض من هؤلاء ، وكأني بهم لم يسمعوا قول الله تعالى : ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ(

حقا إنها الفجوة الواضحة والهوة الساحقة بين عظمة الإسلام وإجرام الإخوان ، بين منظومة الأخلاق والقيم التي حرص الإسلام كل الحرص على بنائها وبين الواقع المر الذي عمل على هدم هذه المنظومة أو خلخلتها وتشويه صورتها ، إنه حب السلطة الذي دفع أدعياء الدين إلى المتاجرة به ، والمزايدة عليه ، واللعب بعواطف العامة ، واستغلالهم حاجتهم وعوزهم ، لإغرائهم ببعض فتات ما يلقي لهم ممن يستخدمونهم ضد دينهم وأوطانهم ، بعد أن ثبت بالدليل القاطع أن الإخوان لا يؤمنون بوطن ولا بدولة وطنية ، فوطنهم الحقيقي هو مصالحهم وتنظيمهم الدولي .

قيادات الإخوان يصدعون رءوسنا فيه بأن أمريكا هي الشيطان الأكبر كانوا يهرولون تجاهها ، ويولون وجوهم شطرها للحصول على الأمان ، وعقد الصفقات ، والحصول على الجنسية لهم أو لأبنائهم في انفصام واضح بين الظاهر والباطن ، بين التنظير في الكتب والتطبيق على أرض الواقع ، مما أفقد المجتمع كله الثقة فيهم ، وجعله يخرج عليهم بالملايين ، رافضا هذا المنهج الذي لا يخدم دينا ولا وطنا ، بل يدمر الدين والوطن كليهما ، ) والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( .

الخوف من الله 

الخوف من الله (U) إذا تأصل في نفوس العباد وقاهم الله (U) به كثيرا من الشرور والمفاسد والآثام ، ولو أننا خشينا الله (U) حق خشيته ، واستحيينا منه حق الحياء لكان حالنا غير الحال الذي نحن عليه من التصرفات والسلوكيات ، يقول نبينا (r) : [ استحيوا من الله حق الحياء ] فالذي يخاف الله (U) لا يمكن أن يكون كذابا ولا منافقا ولا مرائيا ولا مخادعا ، وسارقا ولا مختلسا ، ولا عاقا ولا مدمنا ولا قاتلا أو زانيا ولا شارب خمر ، ولا آكلا للحرام ، ولا مانعا للخير ، ولا معطلا لمسيرة الوطن ، ولا مفسدا أو مخربا ، ولا هداما ، ولا فاسقا ، ولا فاحشا ، ولا سبابا ، ولا بذيئا ، ولا متطاولا على خلق الله ، وذلك لإدراكه التام أن الله (U) مراقب لحركاته وسكناته وأنه (سبحانه وتعالى) لا تأخذه سنة ولا نوم : )مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(

فمن يخاف من الله (U) يدرك أن كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ، وأن المال الحرام سيكون هلاكا ودمارا لصاحبه في الدنيا والآخرة ، وأن آكله سيندم حيث لا ينفع الندم في الدنيا والآخرة .

وعلى الإنسان أن يعلم كما أن رحمة الله (U) واسعة مصداقا لقوله تعالى : ) ورحمتي وسعت كل شي ( (الأعراف : 156) وقوله تعالى : )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) ( (الزمر) 

فإن هناك أيضا عذابا أليما لمن تجاوز وتجبر وطغى ، حيث يقول سبحانه : ) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) ( (الحجر) وحيث يقول سبحانه : ) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) ( (هود) 

وحيث يقول سبحانه : ) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)( (الحج) 

الأرض السبخة والأشجار المثمرة 

الأرض السبخة هي تلك الأرض التي لا تنبت كلأ ولا تمسك زرعا حيث يقول نبينا (r) [ مثل ما بعثني الله به الهدى والعلم ، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ] (رواه البخاري) 

أما خير الفضل والصفاء فهم من شرح الله صدورهم للإسلام ، وملأها بحب الخير ، فاصطفاهم لقضاء حوائج الخلق ، حيث يقول نبينا (r) : [ إن لله عبادا اختصهم بالنعم لمنافع العباد ، يقرهم فيها ما بذلوها ، فإذا منعوها نزعها منهم ، فحولها إلى غيرهم ] ويقول (r) : [ إن لله عبادا خلقهم لحوائج الناس ، يفزع الناس إليهم ، أولئك الآمنون يوم القيامة ] هؤلاء هم الأشجار المثمرة اليانعة النافعة ، غير أن هذا الإثمار قد يعرضهم لحسد الآخرين أو أحقادهم أو محاولة تعويقهم ، ممن قصرت هممهم ، وشغلوا بالصغائر عن العظائم ، وبهدم الآخرين عن بناء أنفسهم ، وقد قالوا : ولا يقذف بالأحجار إلا الشجرة المثمرة ولا يقذفها إلا الصبية ، أما الرجال فيستحون ولا يحوم اللص إلا حول البيوت العامرة فإن حام حول البيت الخرب كان سيد البلهاء ، غير أن رمي الصبية أو قذفهم لا يزيد الوطنيين المخلصين إلا صلابة ، فالضربة التي لا تقصم الظهر تقويه .

فالعاقل من ينشغل بالبناء لا بالهدم ، ولا يقابل السيئة بالسيئة ، بل يعفو ويصفح ، ويدفع بالتي هي أحسن ، حيث يقول الحق سبحانه : ) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) ( (فصلت) نسأل الله أن نكون منهم وأن نتحلى بأخلاقهم وأن نحشر في زمرتهم.

تعظيم ثواب الصدقة 

لاشك أن المتصدق إنما يرجو عظيم الثواب الذي أعده الله للمتصدقين والمتصدقات حيث يقول سبحانه وتعالى : )إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) ( (الأحزاب) 

وعلى المتصدق أن يتحرى وقوع الصدقة موقعها الذي يجب أن تكون فيه ، حيث يقول الحق سبحانه : ) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) ( (التوبة) 

وعليه أن أراد أفضل الثواب وأعلاه أن يجتهد في ترتيب الأوليات ، وأن يدرك أن الأعم نفعا والأوسع أثرا مقدم على غيره من الأقل نفعا أو أثرا ، وأن ما يحفظ النفس مقدم على ما يدخل في إطار التحسينات أو الكماليات ، فإطعام الجائع ، وكساء العاري ، ومداواة المريض ، وأيواء المشرد ، مقدم على مالا يعد أساسا في إقامة حياة الإنسان وحفظها وحفظ كرامته في العيش والحياة.

وأخيرا تأكد أن ما تنفقه اليوم ستجده غدا ، حيث يقول الحق سبحانه : ) وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) ( (البقرة) ويقول سبحانه : ) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) ( (سبأ) وحيث يقول نبينا : [ ما نقص مال عبد من صدقة ] وحيث يقول (r) : [ ما من يوم يصبح العباد غيه إلا ملكان ينزلان ، فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا ] .

أدب الحياة الخاصة

ولا شك أن الإسلام قائم على كل ما ينمي الذوق ، ويرسخ القيم الإنسانية السوية ، ويسهم في تكوين الرقي الشخصي والمجتمعي ، وينشر القيم الحضارية ، ويؤدي إلى تأصيلها وتجذيرها في نفوس الناس جميعا ، ولا شك أن للمرء من حياته ما تعود ، فإذا ما تعود الإنسان على التحضر والرقي فيما بينه وبين نفسه صار ذلك سمة وسجية وطبعا له فيما بينه وبين الناس ، أما إذا حافظ الإنسان على مظاهر التحضر أمام الناس وخالف ذلك فيما بينه نفسه دخل في باب النفاق النفسي والاجتماعي وما يعرف بانفصام الشخصية ، وربما خانه طبعه وما تعوده من مخالفة الذوق والرقي في خلوته فبدا ظاهرا جليا عفويا ولو بدون قصد فيما بينه وبين الناس .

على أن في قوله (r) : [ وأطفئوا المصباح ] ما يشير إشارة واضحة إلى ضرورة ترشيد الطاقة ، وقد نهى (r) عن الإسراف سرا وعلنا ، خلوا أو مجتمعا مما يؤصل في نفس الإنسان ثقافة الترشيد والبعد عن الإسراف والتبذير .

هذا وقد نجد بعض الناس هاشا باشا بين الناس بحيث يغبطه من لا يعرف حقيقته ، فإذا ما عاد إلى أهل بيته لبس ثوبا آخر وجلدا آخر وبدا بوجه آخر يتناقض تماما مع ما يعرف به بين الناس من البشاشة وطلاقة الوجه ، بحيث يقف القاعد ويسكت الناطق من أبنائه وأهل بيته خوفا لا أدبا.

مع تأكيدنا أن الإنسان إذا ما هذب ما بينه وبين نفسه وسيطر عليها طواعية ، مراقبة لله عز وجل واحتراما لذاته كان أكثر سيطرة عليها وأملك لزمامها بين الناس وفي المناسبات العامة ، أما إذا كان غير ذلك فالطبع يغلب التطبع ، وليس الجمال كالتجمل ، مما قد يكشف حقيقته ويعرضه لمواقف محرجة فيما لا يحب أحد أن يحرج فيه .

حقيقة الشكر 

الشكر نعمة من نعم الله (U) من وفقه الله إليها استشعر أن كل شكر إنما هو نعمة تحتاج إلى شكر جديد .

على أن الشكر ليس مجرد عمل قلب أو لساني أو تقبيل لظاهر اليد وباطنها أو السجود سجدة شكر عند حدوث النعمة فحسب  ، إنما هو سلوك وعمل ، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة سبأ : ) اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور ( .

على أن شكر النعمة يكون من جنسها ومن غير جنسها قولا وعملا ، فشكر نعمة العلم هو تعليمها للناس والأمانة في هذا التعليم والاجتهاد فيه ، وشكر نعمة المال يكون بتحري الحلال فيه ، وإنفاقه في سبيل الخير ، وشكر نعمة الحكم وتولي المسئولية الأمانة والعدل والتفاني في خدمة الناس ، وشكر نعمة الجاه استخدامه في خدمة الناس وخدمة الوطن ، وشكر نعمة القلم والكتابة هو استخدامها في الخير وصيانتها عن الشطط والزلل .

كما أن الشكر لا يكون على نعمة المال فحسب ، إنما يكون على سائر النعم ، فالمال نعمة ، والصحة نعمة من أعظم النعم ، والأبناء نعمة ، والزوجة الصالحة نعمة ، والصديق الوفي نعمة ، والخلق الحسن نعمة ، وراحة البال من أكبر النعم وأجلها ، والرضا بما قسم الله من أجمل النعم وأكثرها راحة للنفس ، والجار الكريم نعمة ، والمواهب نعم ، وصدق (U) إذ يقول : ) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ( وكان نبينا (r) يقول للسيدة عائشة (t) : [ يا عائشة أحسني جوار نعم الله تعالى ، فإنها قل ما نفرت من أهل بيت فكادت أن ترجع إليهم ] .

كما نؤكد أن من أجمل النعم التي تستحق الشكل هي نعمة الأمن التي تستحق أعلى درجات الشكر .

كما نؤكد أن شكر الله شكر من أجرى الله النعمة على يديه أو جعله سببا فيها ففي الحديث النبوي : [ لا شكر الله ، من لا يشكر الناس ] .

وإذا أردنا أن نتحدث عن شكر الوطن ورد جميله فإن ذلك يتطلب منا أن نعمل على بنائه وأن نجتهد في ذلك ، وأن نشجع الاستثمار ، وأن نرشد الاستهلاك ، وأن نقف في وجه المخربين ودعاة الهدم ، وأن نشكر الله (U) على ما أنعم به علينا من أمن واستقرار سائلين الله (U) أن يديم على مصر أمنها وأمانها وسلامها .

أشخاص لا يعرفون الهدم وآخرون لا يعرفون البناء 

شتان بين النقيضين البناء والهدم ، وإذا كان ديننا إنما هو دين البناء وعمارة الكون ، فإن كل من يأخذك إلى هذا الطريق ، طريق البناء ، طريق العمل ، طريق الإنتاج ، طريق الإتقان ، طريق الحفاظ على المنشآت العامة والخاصة إنما يأخذك إلى طريق الإسلام ، إلى طريق الوطنية ، إلى طريق الحضارة والرقي ، إلى خير المجتمع وخير الإنسانية ، ومن يحاول أن يجرك إلى طريق آخر عكس هذا الاتجاه ، كأن يجرك أو يسلمك إلى طريق الهدم والتخريب وتدمير المنشآت والنبي التحتية أو الاعتداء عليها أو المساس بها إنما يأخذك إلى طريق الهلاك في الدنيا والآخرة .

على أن من يعمل بالبناء فلن يكون لديه فائض وقت أو جهد للهدم أو التخريب ، لأنه يدرك طبيعة البناء وما يتطلبه من جهد ومعاناة ، وأن الباني لا يمكن أن يكون هداما ، لأنه صاحب نفس ملأى بالخير والعمار والحضارة والرقي .

أما الهدامون أصحاب النفوس المريضة الذين قصرت بهم همهم عن أن يجاروا أهل الجد والكفاح والتعب والعرق والعمل والإنتاج ، فلم يجدوا جبرا لنقيصتهم وسترا لعورتهم وشفاء لإحساسهم بالنقص سوى حسد الأماجد وانتقاص الأفاضل .

على أن ديننا إنما ينبذ كل ألوان ومعاني الهدم والتخريب ، ويدعو إلى البناء وعمارة الكون ، وكل ما فيه صالح الإنسانية ، يقول سبحانه : ) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( (الأعراف : 56) ويقول سبحانه : ) فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( (الأعراف : 74) 

النص المقدس والفكر البشري 

لا شك أن هناك اشتباكا يجب أن يفك ، والتباسا ينبغي أن يزال ، في حالتي التجاذب والتنافر أو المد والجزر الماثلتين بين بعض علماء الدين وبعض المثقفين ، وإن كنت لا أرى لهذا التقابل وجها ، إذ ينبغي أن يكون العالم مثقفا ، وأن يكون المثقف على قدر من الاتصال ومن الإلمام بالثقافة الدينية ولو في أساسياتها وقضاياها الكبرى ، ويمكن إزالة كثير من وجوه الالتباس إذا فرقنا جميعا وبوضوح بين النص المقدس الثابت غير القابل للمساس به أو الافتراء عليه أو النيل منه ، وهو النص القرآني ، والنص النبوي الثابت عن رسول الله (r) وبين التراث الفكري البشري الناشئ حول هذين النصين القرآني والنبوي ، المبني عليهما فهما أو تفسيرا أو استنتاجا أو تأويلا ، مما يقبل الاجتهاد بضوابطه نظرا لتغير الزمان والمكان والحال ، فما أفتى به بعض العلماء في عصر ما وكان مناسبا لزمانه ومكانه وبيئته قد لا يكون مناسبا لزماننا وواقعنا ، فإن الأمر قد يتغير بتغير الزمان أو المكان أو الحال أو حتى حال المستفتي ، وقد ذكر الأصوليون أن الفتوى تتوارد عليها الجهات الأربع : الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص .

على أن العلماء المستنيرين يؤكدون على ضرورة توفر ثلاثة ضوابط رئيسية لمن يتصدى للإفتاء : 

أولها : معرفة الحكم الشرعي من مصادره المعتبرة معرفة العالم المتقن المتخصص المجتهد.

ثانيها : معرفة الواقع ، بحيث لا يكون العالم أو المفتي بمعزل عن معطيات عصره وضروراته وحاجاته مما لا غنى عنه لا للمفتي ولا للمستفتي .

ثالثها : وهو الأهم أن يكون لديه رؤية وبصر ونظر بحيث ينزل الحكم الشرعي المناسب على ما يناسبه من الواقع الذي يكون قد ألم بجميع أطرافه ، فلا يسقط الحكم على غير واقعه ، ولا يحكم على واقع لا يلم به ولا بملابساته العصرية .

ولو أن كل إنسان تفرغ لما يتقنه وما يحسنه لكان التفاهم بيننا أشد ، ومساحات التلاقي بيننا أوسع ، وقد قالوا : من انشغل بما لا يعنيه ضيع ما يجب أن يشغله ويعنيه .

بين الصلاح والإصلاح 

لا شك أن الإسلام إنما هو دين الصلاح والإصلاح معا ، بأن يكون الإنسان صالحا في ذاته وخاصة نفسه ، فيما بينه وبين الله ، وما بينه وبين نفسه ، وما بينه وبين الناس ، مصلحا للآخرين أو ساعيا إلى إصلاحهم على أقل تقدير .

والأديان كلها قائمة على فكرة الصلاح والإصلاح فقد قال الفقهاء : حيثما تكون المصلحة فثمة شرع الله ، (U) قائم على مراعاة مصالح البلاد والعباد ، وقد ذكر القرآن الكريم عشر وصايا في أواخر سورة الأنعام قال عنها سيدنا عبد الله بن عباس (t) : هن من الآيات المحكمات التي لم تختلف في أمة من الأمم أو شريعة من الشرائع ، لما فيها من صلاح الفرد والمجتمع.

وإني لأعجب لهؤلاء الأدعياء العملاء الخونة لدينهم وأوطانهم ، الذين يؤصلون للفساد والإفساد ، ويبنون فلسفاتهم الفكرية على الهدم والتخريب والتدمير ، على نحو ما نلمس في كثير من كتابات متطرفي جماعة الإخوان الإرهابية ، حيث دعا منظرها سيد قطب في بعض مذكراته إلى وجوب قيام فئة مؤمنة وفق تصوره الذي استقت منه الجماعة فكرها برد المجتمعات من الجاهلية المزعومة في نظره إلى الإسلام من جديد ، مؤكدا أن هذه الفئة لابد أن تصطدم مع المجتمع وعليها أن تعد نفسها لهذا الصدام ببناء قوة ذاتية لها قادرة على ردع المجتمع ، ومما دعا إليه بعض ما نشهده الآن ، حيث دعا إلى إنهاك الدولة بتدمير بناها التحتية ، فدعا صراحة إلى تدمير أبراج الكهرباء ، وهدم الجسور وتدميرها ، بل دعا إلى ما هو أبعد من ذلك إلى أن هناك رؤسا يجب أن تقطع في سبيل تمرير مشروعهم ، وذكر أناسا بأشخاصهم وأعيانهم آنذاك ، وهو عين ما تنتهجه داعش وحليفتها الإرهابية جماعة الإخوان في أيامنا هذه ، مما يستوجب كشف زيغ نظرياتهم التي بنوا عليها جماعتهم ، دون نظر إلى المصالح العليا للأوطان التي لا تمثل في نظرهم سوى كومة من تراب لا قيمة لها ضاربين بمفهوم الدولة الوطنية عرض الحائط على نحو ما صرح به أحد مرشديهم من ألفاظ في حق الوطن يعف اللسان عن ذكرها أو تكرارها .

مفهوم الأمن القومي

لا شك أن استقرار أي دولة إنما يرتبط ارتباطا وثيقا بالحفاظ على أمنها القومي ، بل بمدى حرص كل فرد من أفرادها على مستوى هذا الأمن ، وعدم المساس به ، ولا سيما من كان في موضع اتخاذ القرار ، وعلى وجه أخص القرارات التي تتصل بالتعامل مع العالم الخارجي ، أو تؤثر في هذا التعامل .

وإذا كان الأمن القومي لأي دولة مستقلة ذات سيادة خطا أحمر لا يمكن تجاوزه أو التسامح تجاهه فإن الحفاظ على عدم المساس بهذا الخط أو السماح بتجاوزه ، يقتضي وعيا وثقافة وتثقيفا مستمرا وعلميا ومنهجيا بمفهوم الأمن القومي ، وأستطيع أن أقول : إن عقد دورات مكثفة في ذلك لكل من يتولى موقعا أو منصبا قياديا بات أمرا ضروريا شديد الإلحاح ، إذ لا تكفي المهارات الفنية أو التقنية أو الإدارية في تكوين رؤية شاملة تؤدي إلى الاتجاه والمسار الصحيح ، ما لم تكن هناك رؤية أبعد ونظرة أشمل لأثر أي قرار يتخذ على الأمن القومي العام .

وقد لا يخطر ببال بعض الناس أن ما يتخذه من قرارات أو ما يقوم به من تصرفات أو ما يقيمه من علاقات يمكن أن يكون ذا أثر في الأمن القومي ، وقد لا يكون ذلك عن سوء قصد ، وإنما لعدم الإلمام بمعطيات الأمن القومي ، أو لأن هذه المعطيات غير حاضرة في شعوره بالقدر الكافي ، على أن المرحلة والظروف التي تمر بها البلاد والمنطقة والعالم تحتاج من المواطن العادي فضلا عن المسئول أو متخذ القرار أن يكون على أعلى درجة من الوعي بالأمن القومي لبلاده ، سواء في اتخاذ القرارات أم في إقامة العلاقات ، أم في عقد الاتفاقيات والبروتوكولات.

وإذا كان مستوى الوعي بأهمية وخطورة كل ما يتصل بالأمن القومي متفاوتا بين شخص وأخر لاعتبارات كثيرة من أهمها : الثقافة والحرص على المصلحة الوطنية ، وحمل هم الوطن ، وجعل المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار فإن الأمر يتقضى :

أ- المزيد من التثقيف والتوعية بمفهوم الأمن القومي ، من خلال الدورات التدريبية المكثفة لكل من يتولى عملا قياديا .

ب- التوعية بمفهوم الأمن القومي وضرورة الحفاظ عليه من السياسيين والمفكرين والكتاب والمثقفين ووسائل الإعلام ، وبخاصة من يمتلكون الرؤية الثاقبة والوعي الناضج بمفهوم هذا الأمن ، واعتبار ذلك أحد عوامل استقرار البلاد .

ج- ضرورة التنسيق المسبق مع الجهات المختصة بذلك قبل عقد أي اتفاقيات أو بروتوكولات مع أي جهة خارجية ، تحسبا لأي اختراق أو تأثير على مصالحنا القومية ، حتى لو كان ذلك من غير قصد .

مع التأكيد على مفهوم الأمن القومي لأي بلد يقتضي الإلمام بالأحوال السياسية الداخلية والخارجية ، الإقليمية والدولية ، فعمقنا العربي ، وعمقنا الأفريقي ، وعالمنا الإسلامي ، وعلاقتنا الدولية ، كل ذلك يجب وضعه في الاعتبار عند اتخاذ القرارات الهامة والحيوية ، ودراسة مدى تأثيرها على هذه العلاقات ، ومردودها الإيجابي أو السلبي على كل منها ، مع دراسة الأولويات ، ومعرفة مواطن الثقل وهوامش الحركة في كل اتجاه .

الوعي بالوطن 

لا شك أن قضية الوعي بالوطن أحد أهم المرتكزات لصياغة الشخصية السوية ، وأحد أهم ضمانات الولاء والانتماء للوطن والحافظ على مقدراته وكل ذرة من ثراه الندى ، وفرق بين العلم والوعي فكلاهما مطلوب ، لكن العلم شيء والوعي شيء آخر ، فكم من محسوب على العلماء أو الأكاديميين غير مثقف ولا واع بمفهوم الوطن وقضاياه وما يحيط به أو يحاك له أنساق أو انجر خلف أفكار جماعات متطرفة يدين لها بالولاء الأعمى حتى لمن هو دونه علما وثقافة بمراحل ودرجات.

وقد شد انتباهي كثيرا ما ذكره سيادة الرئيس / عبد الفتاح السيسي من أن المؤامرة الكبرى قد تتمثل في عدم وعينا أو غياب هذا الوعي ، وما ذكره من أن صياغة الوعي الصحيح وإعادة صياغة الشخصية المصرية يحتاجان إلى تضافر سائر مؤسسات الدولة المعنية ببناء الإنسان المصري ، فنحن في حاجة إلى جهود المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية والتعليمية والتربوية لصياغة رؤية عصرية شاملة ومتكاملة وبخاصة في مجال القيم والهوية والانتماء الوطني .

الوطن ليس مجرد أرض نعيش عليها ، وليس حفنة تراب كما ذكر مرشد الجماعة الإرهابية ، الوطن معنى أبعد وأعمق من ذلك بكثير ، الوطن حياة ، الوطن كيان ، الوطن هوية ، الوطن انتماء ، الوطن أمانة . 

إن الوعي بالوطن يقتضي العمل على بنائه ورفعة شأنه في جميع المجالات : الاقتصادية والفكرية والثقافية والاجتماعية والإنسانية وبشتى السبل : بالعمل والإنتاج ، بالجد والاجتهاد ، بالدقة والإتقان ، بالتكافل والتراحم ، بالإخلاص للوطن ، والإخلاص في العمل .

الوعي بالوطن يقتضي الإحاطة والإلمام بما يحاك له من مؤامرات تستهدف إنهاك الدولة ، وبخطورة الإرهابيين والعملاء والخونة ، والعمل على تخليص الوطن من شرورهم وآثامهم .

الوعي بالوطن يقتضي الوعي الكامل بمفهوم الوحدة الوطنية ، ويفوت الفرصة على من يعملون على اللعب في نسيج هذا الوطن .

وقفة مع النفس

هل يستطيع كل واحد منا أن يقف مع نفسه للحظات ، ليسأل نفسه ماذا قدم لوطنه ؟ وماذا قدم للقاء ربه ؟ وما آخر الطريق الذي يريد الوصول إليه ؟ وماذا عن راحة ضميره في كل ما قدم ويقدم ؟ لقد سأل رجل النبي (r) متى الساعة ؟ فقال له (r) [ ماذا أعددت لها ؟ ] فقال الرجل : حب الله ورسوله ، فقال له النبي (r) :[ أنت مع من أحببت ] وهل سيقول الإنسان – وعن قناعة تامة – لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لسلكت – وعن راحة ضمير – الطريق نفسه ، أو أنه يتمنى أن لو كان قد سلك طريقا آخر ، وإذا كان العقلاء يؤكدون أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ، فيمكن لكل عاقل أن يثوب إلى طريق الرشاد بلا تردد أو توجس ما دام يوقن أنه سبيل الرشاد ، فاليوم سبيل العمل ، وغدا يوم الحساب حيث يقال : ) وقفوهم إنهم مسئولون ( (الصافات : 24) 

 فالملائكة هنا لا تتنزل على الأنبياء والمرسلين فحسب ، إنما تتنزل على عباد الله الصالحين الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، لكن متى تتنزل ؟ وكيف تتنزل ؟ أما الكيفية فعلمها مفوض إلى رب السماوات والأرض رب العرش العظيم ، ولكن متى تتنزل ؟ فأكثر أهل العلم على أنها تنزل على المؤمن ساعة الاحتضار لتطمئنه قائلة : لا تخف يا عبد الله ولا تحزن وأبشر بالجنة التي كنت توعد ) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ( .

أما يوم الحشر فكما تحدث القرآن الكريم في أواخر سورة الأنبياء ) وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( (الأنبياء : 103) وأما الجنة فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب ) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( (الرعد : 24) ، ) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ( (الحاقة : 24) ) وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ( (فصلت : 31) ، ) كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) ( (البقرة) ، ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) ( ( الإنسان ) أعد الله عز وجل لهم فيها [ ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ] ونزع الله عز وجل من بينهم الغل والحسد ، ) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) ( (الحجر) 

أما على الجانب الآخر والعياذ بالله فهناك من شغل عن الله (U) بماله أو بجاهه أو بسلطانه أو بتجارته أو بجماعته وفصيله ، وهناك ، ) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) ( (عبس) ، ) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) ( (الشعراء) ، ) يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) ( (لقمان) يومها يندم الخاسرون حيث لا ينفع الندم ، يقول كل من يأخذ كتابه بشماله  ، 

) يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) ( (الحاقة) وسيقال له عند انصراف آخر قدم مودع : يا بن آدم جاءوا ودفنوك ، وفي التراب وضعوك ، وعادوا وتركوك ، ولو ظلوا معك ما نفعوك ، ولم يبق لك إلا أنا وأنا الحي الذي لا يموت .

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

42

متابعين

5

متابعهم

1

مقالات مشابة