تفسير سورة فصلت
موقف المشركين من القرآن الكريم
ابتدأت سورة فصلت ببيان موقف مُشركي قريش من القرآن الكريم ، ويُخبر الله- تعالى- عن عظمة القرآن الكريم ؛ إذ إنّ آياته مُبيّنة ومفسِّرة ، وقد ذُكر أنّ المقصود هو بيانه للحلال من الحرام ، وللطاعة من المعصية.
ومعنى فُصِّلت أي إنّها فرّقت بين الحق والباطل ، أو أنّ آياتها قد فُصِّلت عن بعضها باختلاف معنى كل واحدة منها ، وقيل فُصّلت لكونها عربية وأُنزلت بلسان قريش ، فهم يعلمون مُراد الآيات ومقاصدها ، ويعجزون عن الإتيان بمثلِها ، ولو لم يكن القرآن عربيًّا لما علمت قريش أحكامه ومقاصده.
الآيات من( 1- 7)
والمقصد من نزول السورة هو توبيخ قريش وتقرِّيعهم وتعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن الكريم ؛ لِما فيه من إعجاز وبيان ، ففيه بُشرى لأولياء الله الصالحين ، وفيه إنذار لأعداء الله ورسوله ، وقد قرأ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- على أبي الوليد هذه الآيات عندما جاءه ليُغريه بالتنازل عن الدعوة الإسلاميّة بشتى الطرق فعرض عليه المال والرئاسة.
فلما انتهى من كلامه قرأ عليه رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- هذه الآيات ، فرّق قلبه وأدرك الوعيد الذي تتضمنه الآيات ، فعاد إلى أهله واعتزل مجلس قريش حتى جاءه أبو جهل سمع بالأمر فاستهزئ بما قال له ، واتّهم رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- بأنّه قد سحره.
خلق الله تعالى للكون
يُخاطب الله- تعالى- بعد ذلك النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- ليأمر قومه بالتفكُّر والتدّبر في هذا الكون ، وهو أمرٌ للتوبيخ ، فكيف يكون لهم أن يكفروا بالله- تعالى- الذي خلق الأرض وأبدع في خلقِه ، وكيف يجعلون له شريكًا في الخلق ، فالله- تعالى- يستنكر من المُشركين إشراكهم به ، وعبادتهم لغيره ، فهو المالك لهذا الكون وخالق كل شيء.
الآيات من( 9- 12)
الله- تعالى- هو الذي هيّأ الأرض لأسباب العيش ، فجعلها مُناسبة للإنسان ، وجعل فيها جبالًا تُمسك الأرض من التحرُّك والاضطراب ، وتحفظ المعادن والمياه ، كما جعل الله- تعالى- الأرض مُباركة مليئة بالخيرات التي تنفع النّاس ، كالنباتات بأنواعها المختلفة وهي مصادر رزق للإنسان ، وغيرها من الخيرات كالماء والمعادن ، وكتب الله لكل أهل الأرض رزقًا لا ينقص ، وسخّر لهم كل منافع الأرض.
ويُخبر الله- تعالى- عن خلقِه للسماء وقد كانت قبل ذلك دُخانًا ، وكتلةً مظلمة ، ولمّا أتمّ الله- تعالى- خلق السماء والأرض أمرهما الله أن يأتياه طوعًا أو كرهًا ، فأجابتاه بأنّهما يأتيانه طائعتين ، وفي ذلك بيان لقدرة الله وعظمته.
ذكر ابن عباس- رضي الله عنه- في تفسير قوله- تعالى-( فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ) ،" قال الله- تبارك وتعالى- للسموات أطلعي شمسي وقمري ونجومي ، وقال للأرض شقِّقِّي أنهارك ، وأخرجي ثمارك ، فقالتا( أتينا طائعين) ، فذكر الله- تعالى- خلقه للأرض ، وبيّن كيفية خلقه للسموات السبع وما فيها من نظام ، وأتمّ الله- تعالى- خلقه للسموات والأرض في ستة أيام".
إهلاك الأمم السابقة بعد تكذبيهم الرسل
الآيات من( 13- 18)
يحذّر الله- تعالى- الكافرين ويذكرهم بحال الأمم السابقة ، وذلك بعدما بيّن إنكارهم للقرآن ، وعَرض عليهم أدلة قدرته في الكون ، ثم حذّر- تعالى- كفار قريش بأنَّ إعراضهم عن دعوة النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- سيُعرضهم لعذاب وهلاك كما وقع لقوم عاد وثمود.
الذين كذّبوا بالرُّسل ، واستكبروا على أنبيائهم لاغترارهم بأجسادهم وقوتهم ؛ ظنّاً منهم أن ذلك قد يمنع عنهم العذاب ، إلّا أنّ الله- تعالى- أرسل عليهم ريحًا صرصرًا ؛ أي باردة وشديدة ، وعذّبهم بها ؛ لينالوا العذاب في الدنيا والآخرة.
حشر أعداء الله إلى النار وشهادة أجسادهم عليهم
وبعد بيان عقوبة الكافرين وحالهم في الدنيا ، يُبين الله- تعالى- حالهم في الآخرة ؛ ليكون في ذلك كفايةً من التحذير والزجر للمخاطبين ، وقد أمر الله- تعالى- رسوله بتحذير قومه من عذاب يوم القيامة ، يوم يُساق الكافرين إلى النار.
الآيات من( 19- 29)
فعند وقوف أعداء الله على النار ، سيسألهم الله عن إجرامهم وكفرهم ، فيُنكرون أفعالهم حتّى تشهد عليهم جوارحهم ؛ فتشهد عليهم جلودهم وأسماعهم وأبصارهم بما اقترفوا من معاصي وذنوب في الحياة الدنيا ، فيتعحب الإنسان من ذلك ، حتى تُجيبهم حواسهم بأنّ الذي أنطقها هو الله- تعالى-.
ثُمّ يبين الله- تعالى- أنّه خالق كل شيء في هذا الكون ، وإليه مصير كل الخلائق بعد موتها ، فيجزي كل واحدٍ منهم بما كسبت يداه ، ولن ينالوا من ظنهم الفاسد بالله- تعالى- الذي قادهم إلى المعاصي ، سوى الخسارة والهلاك في الدنيا والآخرة.
ويخبر الله في الآيات عن حال الكافرين ؛ حيث سلّط عليهم شياطينًا من الجن والإنس ؛ ليُزينوا لهم أعمالهم سواء التي فعلوها في الماضي أو ما سيفعلوه في المستقبل ، وسيُغروا الكافرين بفعل المعاصي ، فأثبتوا لنفسهم العذاب بكفرهم ، ونالوا الخسارة والخِزي كما كان جزاء الذين كفروا من الجنّ والإنس.
جزاء الاستقامة على دين الله في الحياة الدنيا والآخرة
الآيات من( 30- 36)
يبين الله في آياته جزاء الاستقامة على الحقِّ والصواب ، ويحثُّ- تعالى- عباده على اتّباع دين الله والاستقامة على ذلك ؛ لأنّ هذه الاستقامة دليل على العقل الراجح والكرامة ، بخلاف الانحراف الذي ينُم عن الجهل والمهانة.
قال ابن عباس- رضي الله عنه-" نزلت هذه الآية( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) ، في أبي بكرٍ الصديق- رضي الله عنه- وذلك أن المشركين قالوا ربُنا الله ، والملائكة بناته ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فلم يستقيموا ، فقال أبو بكر ربنا الله وحده لا شريك له ، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم عبده ورسوله ، فاستقام".
وتُبيّن هذه الآيات حال المؤمن الذي استقام على دين الله- تعالى- ، وقارنت حاله بحال الكافر ، فجزاء المؤمن ، أنَّ الملائكة ستنزل عليه عند موته وفي قبره وعند بعثه لتُثبته وتُبشره بالنجاة ، وبالجنة ، ولتُؤنِسه برحمة الله- تعالى-. كما تُبين الآيات ضرورة الدعوة إلى الله- تعالى- ، فالمؤمن يسعى لإصلاح ذاته ويحاول إصلاح غيره ، صابر على أذى النّاس وإعراضهم عن الدعوة ، ويُقابل الإساءة بالإحسان.
إثبات أن القرآن الكريم كلام الله تعالى
الآيات من( 41- 44)
تعرض الآيات إلحاد المشركين وتكذيبهم بالقرآن الكريم ، وتُبيّن أن كُفرهم بآياته سبب لاستحقاقهم العذاب ، ويُبين الله- تعالى- لهم بأنّه كِتاب عزيز ونفيس ، وأنّه ذُكر من عنده للناس جميعًا ؛ ليُذَّكر الناس بغفلتهم قبل فوات الأوان.
وهو ذكرٌ للعرب وسمعة طيبة لهم بين القبائل جميعها ؛ فقد أنزله الله- تعالى- بلسانهم وبلغتهم ، وهو كتابٌ عزيز منيع ، فيه من المعاني الغزيرة والإتقان البديع والحُجة الواضحة ما تقرع لها الأذان.
انفراد الله بعلم الغيب
الآية( 47)
اختصّ الله- تعالى- العلم بوقت يوم القيامة لذاته- سبحانه- ، حتى أنّه لم يُعلِم الرسول- عليه الصلاة والسلام- بذلك ، فَعِلْمُ الغيب لا أحد يعلمه سوى الله- تعالى ، وهو الذي يعلم متى تَخرج الثمار من أوعيتها ، وما تحمل كلّ أنثى ، ومتى تضع حملها ، وهذه أمثلة ضربها الله- تعالى- للنّاس ليُبين لهم عِلمه بأدق التفاصيل في هذا الكون ، فكل ما في الكون يعلمه- تعالى-.
بيان أحوال الإنسان في العطاء والمنع
الآيات من( 49- 51)
تُبين الآيات أحوال الإنسان واصفةً إيَّاه بعدة صفات منها أنَّ الإنسان يطلب الخير من رّبه من غير ملل ، وهذه الصّفة يشترك فيها المؤمن والكافر ، وذكر الله- تعالى- صفات أخرى تتعلق بالإنسان الكافر وهي كما يأتي :
الصفة الأولى ، أنَّه يقنط ويُصيبه اليأس إذا تعرض لشدة أو ابتلاء.
الصفة الثانية ، أنَّه يرى أنَّ الخير الذي يأتيه من الله- تعالى- قد استحقه بجُهده وعمله.
الصفة الثالثة ، أنَّه يُنكر يوم القيامة ، ويظنُ بأنَّ يوم القيامة إن كان موجودًا فسيلقى من الله إحسانًا كما لقي في الدنيا.
الصفة الرابعة ، أنَّه يُعرض عن الشكر في حال الإنعام عليه ، ويتضرّع إلى الله في حال البلاء فقط.