
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قبل الفجر: سيفُ قريش وليلها المُظلم
كانت مكّةُ تغرقُ في ليلٍ من الأصنامِ، ويسيطرُ عليها بأسٌ من الكبرياءِ. وفي قلبِ هذا الليل، برزَ عمرُ بن الخطابِ (رضي الله عنه)، رجلٌ كالجبلِ، تهابُه الوجوهُ، وتصمتُ عندَ حضورِه الألسنةُ. كان فارساً قريش، وحاملاً لواءَها، وعنواناً لشدّتِها. لم يكن الإسلامُ في عينيه إلا بدعةً تُفرّقُ القبائلَ، وتهدّدُ مجدَ الأجدادِ. فكان يطاردُ المسلمينَ، ويُعذّبهم، ويسعى جاهداً لإطفاءِ نورٍ بدأَ يسطعُ في الأفقِ. كان يشاركُ في تعذيبِ المستضعفينَ، ومنهم عمّارُ بن ياسرٍ وأبوهُ وأمُّه.
عاشَ عمرُ (رضي الله عنه) في الجاهليةِ حياةً تُجاري عاداتِ قومه، فكانَ مُدمناً على شربِ الخمرِ، وشديدَ القسوةِ. لم يكنِ يرى في ظلمِ المستضعفينَ خطأً، بل كانَ يعتبرُه من سماتِ القوةِ. كان يدفنُ البناتِ وهنَّ أحياءٌ، لاعتقادِه أن هذا يُجنّبُ العارَ. كانت هذه الذنوبُ تُثقلُ كاهلَه، وتُبعدُه عن الطريقِ المستقيمِ، لكنّه لم يكن يرى في ذلكَ شيئاً مُخالفاً لما نشأَ عليهِ.
حتى وصلَ به الغضبُ إلى أن يُعلنَ على الملأِ أنه سيقتلُ النبيَّ محمدًا (صلى الله عليه وسلم). خرجَ من بيتهِ حاملاً سيفَه، وعيناه تشتعلانِ حقداً، قاصداً النبيَّ لإنهاءِ ما ظنّه فتنةً. وفي طريقه، قابله رجلٌ من بني زهرة، وسأله: "أينَ تريدُ يا عمر؟" فأجابه بتهديدٍ: "أريدُ أن أقتلَ محمداً!"، فقال له الرجلُ: "أو ما كفاك أن قد أسلَمَتْ أختُك وزوجُها؟" هنا، تحوّل الغضبُ إلى حيرةٍ، واتّجه نحو بيتِ أختِه، مُستعداً لمواجهةٍ جديدةٍ.
التحوّل الأكبر: نورٌ في صحيفةٍ ودموعٌ على خدّ
عندما وصلَ عمرُ (رضي الله عنه) إلى بيتِ أختهِ فاطمة، سمعَ صوتاً يُرتّلُ آياتِ القرآنِ الكريمِ. كان هذا الصوتُ يختلفُ عن كلِّ ما سمعه من قبل، كان يلامسُ الروحَ قبل الأذنِ. اقتحمَ البابَ، وضربَ زوجَ أختهِ سعيدَ بن زيد، ثم أختَه، حتى سالَ دمُها.
وهنا، وقعت اللحظةُ الفارقةُ. عندما رأى دمَ أخته، شعرَ بندمٍ شديدٍ، وربما لأول مرةٍ في حياتهِ، شعرَ بالضعفِ أمام قوةِ الإيمانِ التي رأى في عينيها. طلبَ الصحيفةَ التي كانا يقرآنِ منها، كانت الصحيفةُ تحوي بدايةَ سورةِ طه.
بدأ يقرأ، وكلماتُ اللهِ تنزلُ على قلبهِ كقطراتِ الندى على أرضٍ يابسة:
"طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)"
كان يقرأُ ويتوقفُ، ثم يقرأُ ويتوقفُ. كان يشعرُ أن هذه الكلماتِ ليستْ من كلامِ البشرِ، بل هي كلامُ الخالقِ. ثم استكملَ القراءةَ، حتى وصلَ إلى قوله تعالى:
"إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)"
هنا، ارتجفَ قلبُه، وأيقنَ أن هذا هو الحقُّ الذي كان يبحثُ عنه. ثم استكملَ القراءةَ، حتى وصلَ إلى نهايةِ الآياتِ:
"إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)"
هنا، قام عمرُ (رضي الله عنه) من مكانه، وأعلنَ إسلامَه. كانت هذه الآياتُ بمثابةِ النورِ الذي شقَّ ظلمةَ قلبهِ، وأدخلَ فيه الإيمان، ليتحوّلَ من سيفٍ قاطعٍ على المسلمينَ، إلى حصنٍ منيعٍ لهم.
هيبةُ الإيمان: عمر في عهد النبوة
بعدَ إسلامه، أصبحَ عمرُ (رضي الله عنه) من أقربِ الصحابةِ إلى النبيِّ (صلى الله عليه وسلم). كانت هيبتُه في الجاهليةِ هيبةَ القوةِ والبطشِ، ولكنَّ هيبتَه في الإسلامِ كانت هيبةَ الإيمانِ والصدقِ. كان يُعرفُ بغيرتِه على الدينِ، وشجاعتهِ التي لا تلينُ. شاركَ في جميعِ الغزواتِ، وكان يُشيرُ على النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) بآرائهِ الصائبةِ. وقد كان رأيهُ يُوافقُ الوحيَ في العديدِ من المواقفِ، حتى قال النبيُّ (صلى الله عليه وسلم): "إنَّ اللهَ جعلَ الحقَّ على لسانِ عمرَ وقلبِه." (رواه الترمذي).
لم يقتصرِ القرآنُ الكريمُ على هدايةِ عمرَ (رضي الله عنه)، بل جاءت بعضُ الآياتِ لتُؤيدَ رأيهُ وتوافقَ فكرَه. ومن أبرزِ المواقفِ التي وافقَ فيها الوحيُ عمرَ (رضي الله عنه) ما يلي:
* مقامُ إبراهيم: عندما اقترحَ عمرُ (رضي الله عنه) على النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) أن يتخذوا من مقامِ إبراهيمَ مصلى، نزلَ الوحيُ بقوله تعالى: "وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى".
* الحجاب: عندما كان عمرُ (رضي الله عنه) يرى أن نساءَ المؤمنينَ يجبُ أن يحتجبنَ عن الأجانب، نزلَ الوحيُ بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ".
* أسرى بدر: بعدَ غزوةِ بدر، أشارَ عمرُ (رضي الله عنه) على النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) بقتلِ أسرى المشركين، بينما أشارَ أبو بكرٍ (رضي الله عنه) بالفداءِ. نزلَ الوحيُ ليوافقَ رأيَ عمرَ (رضي الله عنه)، بقوله تعالى: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ".
خلافةُ الفاروق: عدلٌ في الأرض ورحمةٌ في القلوب
بعدَ وفاةِ النبيِّ (صلى الله عليه وسلم)، تولى الخلافةَ أبو بكرٍ الصديقُ (رضي الله عنه)، وكان عمرُ (رضي الله عنه) خيرَ معينٍ له. وبعدَ وفاةِ أبي بكرٍ، تولى عمرُ (رضي الله عنه) الخلافةَ، ليُعرفَ بـ "أميرِ المؤمنين". كانت خلافتُه نموذجاً فريداً للحكمِ العادلِ. فقد كان ينامُ على الأرضِ، ويأكلُ خبزَ الشعيرِ، ويرفضُ أيَّ مظاهرَ من مظاهرِ البذخِ. كان همُّه الوحيدُ هو رعيته، حتى قال: "لو أن شاةً سقطتْ في العراقِ لسألني اللهُ عنها يومَ القيامةِ."
إن سيرةَ عمرَ (رضي الله عنه) ليست مجردَ تاريخٍ، بل هي قصةٌ تُحيي القلوبَ. إنها تُعلّمُ أن التوبةَ الحقيقيةَ قادرةٌ على تحويلِ الإنسانِ من الظلامِ إلى النورِ، ومن العداوةِ إلى المحبةِ، ومن القسوةِ إلى الرحمةِ. فبمجردِ إسلامِه، أقلعَ عمرُ (رضي الله عنه) عن كلِّ ذنوبِ الجاهليةِ، وأصبحَ لا يشربُ الخمرَ، ولا يمارسُ العنفَ، بل صارَ أباً رحيماً بجميعِ المسلمين. إنها دعوةٌ لكلِّ من يشعرُ بالبعدِ عن الله، أن بابَ التوبةِ مفتوحٌ، وأن اللهَ يقبلُ من عبادِه التائبين. وقد قال النبيُّ (صلى الله عليه وسلم): "الإسلامُ يهدمُ ما قبله." (رواه مسلم)، وهذا ما حدثَ مع عمرَ بن الخطابِ (رضي الله عنه)، الذي أصبحَ بعد إسلامِه من أعظمِ القادةِ في تاريخِ البشرية، ومن أحبِّ الناسِ إلى اللهِ ورسولِه.