معجزات خفية في السيرة النبوية

معجزات خفية في السيرة النبوية

0 المراجعات

مُعْجِزَاتٌ لَا تَرَاهَا الْعُيُونُ، بَلْ تَلْمَسُهَا الْقُلُوبُ

​إِنَّ السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ الشَّرِيفَةَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ سَرْدٍ لِأَحْدَاثٍ مَاضِيَةٍ، بَلْ هِيَ مَنْبَعٌ لَا يَنْضُبُ مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْمُعْجِزَاتِ. وَلَعَلَّ أَعْظَمَ الْمُعْجِزَاتِ لَيْسَ تِلْكَ الَّتِي خَرَقَتْ الْعَادَةَ، كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ أَوْ نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ، بَلْ هِيَ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي لَمْ تَلْحَظْهَا الْعُيُونُ الْبَصَرِيَّةُ، وَإِنَّمَا اسْتَقَرَّتْ فِي الْقُلُوبِ الْبَصِيرَةِ. إِنَّهَا مُعْجِزَاتُ الرَّحْمَةِ، وَالْإِنْسَانِيَّةِ، وَالصَّبْرِ، وَالْحُبِّ، الَّتِي غَيَّرَتْ وَجْهَ التَّارِيخِ وَبَنَتْ أُمَّةً لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ.

مُعْجِزَةُ الْقَلْبِ الْمُطْمَئِنِّ فِي وَجْهِ الشَّدَائِدِ

​كَيْفَ يُمْكِنُ لِقَلْبٍ أَنْ يَظَلَّ مُطْمَئِنًّا ثَابِتًا وَهُوَ يُوَاجِهُ الشَّدَائِدَ الْعِظَامَ؟ لَقَدْ تَعَرَّضَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْأَذَى وَالتَّكْذِيبِ وَالْحِصَارِ، وَتَلَقَّى الطَّرْدَ وَالتَّهْدِيدَ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أُوذِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوذِيتُ فِي اللهِ" (رواه الترمذي). وَمَعَ كُلِّ ذَلِكَ، لَمْ يَلِنْ عَزْمُهُ، وَلَمْ يَضْعُفْ إِيمَانُهُ، بَلْ كَانَ صَدْرُهُ مَلِيئًا بِالْيَقِينِ وَالرِّضَا. هَذِهِ هِيَ الْمُعْجِزَةُ الْعُظْمَى: مُعْجِزَةُ الثَّبَاتِ. إِنَّهَا تَجَلِّي الْإِيمَانِ الَّذِي يَنْبُعُ مِنْ قَلْبٍ عَرَفَ رَبَّهُ وَاسْتَكْمَلَ يَقِينَهُ بِهِ. فَلَيْسَ كُلُّ ثَابِتٍ فِي أَرْضِهِ بِشَجَرَةٍ، وَلَكِنَّ الثَّبَاتَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ ثَبَاتُ الْقَلْبِ عَلَى الْحَقِّ وَعَدَمُ انْزِعَاجِهِ مِنْ الْبَاطِلِ.

مُعْجِزَةُ الرَّحْمَةِ فِي قَلْبٍ لَا يَعْرِفُ الْقَسْوَةَ

​إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]. وَلَمْ تَكُنْ رَحْمَتُهُ قَوْلًا فَقَطْ، بَلْ كَانَتْ فِعْلًا وَحَالًا. كَيْفَ لَهُ أَنْ يَرْفُقَ بِالْجَاهِلِ، وَيَسْمَحَ لَهُ بِالتَّعَامُلِ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا فَعَلَ مَعَ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ؟ وَكَيْفَ لَهُ أَنْ يُسَامِحَ أَهْلَ مَكَّةَ الَّذِينَ عَذَّبُوهُ وَطَرَدُوهُ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ: "اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ"؟ هَذِهِ لَيْسَتْ حِكْمَةً بَشَرِيَّةً بَلْ هِيَ مُعْجِزَةٌ إِلَهِيَّةٌ، مُعْجِزَةُ الْقَلْبِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَحْتَوِي الْجَمِيعَ، وَيُقَابِلُ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ، وَالْجَفَاءَ بِالْحُبِّ. إِنَّهَا رَحْمَةٌ لَمْ يَعْرِفْ لَهَا التَّارِيخُ مَثِيلًا.

مُعْجِزَةُ بِنَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى الْحُبِّ وَالْأُخُوَّةِ

هل صليت على النبي الذي سيشفع لك يوم القيامة ؟

​كَيْفَ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ أَنْ يُوَحِّدَ قُلُوبًا مُتَفَرِّقَةً، وَيَجْعَلَهَا كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؟ لَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُتَنَاحِرِينَ، وَأَحْيَانًا مُتَعَادِينَ عَلَى أَتْفَهِ الْأُمُورِ. فَأَزَالَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ قُلُوبِهِمْ كُلَّ حِقْدٍ وَضَغِينَةٍ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمْ عَلَى مَائِدَةِ الْحُبِّ وَالْإِيمَانِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103]. إِنَّهَا مُعْجِزَةُ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا بِقُوَّةِ سُلْطَانٍ وَلَا بِكَثْرَةِ مَالٍ، بَلْ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَرَوْعَةِ الْقُدْوَةِ الْحَسَنَةِ. وَلِذَلِكَ، فَإِنَّ سِيرَتَهُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ حِكَايَةٍ لِلْمَاضِي، بَلْ هِيَ دَلِيلٌ وَمِنْهَاجٌ لِلْحَيَاةِ، وَهِيَ مَزِيجٌ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. فَلْنَتَدَبَّرْهَا لِنُعْرِفَ مِقْدَارَهَا، وَنَسْتَلْهِمَ مِنْهَا مَا يُصْلِحُ قُلُوبَنَا وَحَيَاتَنَا.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

3

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة