
موسى و الخضر

قصة موسى والخضر: حكمة ما وراء الظاهر
تُعد قصة نبي الله موسى، كليم الله، مع العبد الصالح الخضر - كما وردت في سورة الكهف من القرآن الكريم - درساً فريداً وخالداً في أدب التعلم، وحدود الإدراك البشري، وحكمة التدبير الإلهي التي قد تخفى على العقول. إنها رحلة قام بها أعظم الأنبياء تواضعاً في طلب العلم، ليُكشف له عن جانب من "العلم اللدني" الذي لا يُدرك بالمقاييس الظاهرة.
بداية الرحلة وطلب العلم
بدأت القصة عندما شعر موسى عليه السلام بأن هناك علماً أوسع لم يصل إليه بعد. أرشده الله إلى مكان معين للقاء رجل آتاه الله من لدنه علماً، وهو الخضر. انطلق موسى ومعه فتاه يحملان الحوت الذي كان علامة على مكان اللقاء. وحين نسي الفتى الحوت عند صخرة وعاد إلى الحياة واتخذ سبيله في البحر، كان ذلك هو الميقات المحدد.
عند لقاء الخضر، طلب موسى أن يتبعه ليتعلم منه مما عُلِّم، فوضع الخضر شرطاً أساسياً لرفقته: الصبر المطلق. قال له: ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾، أي كيف تصبر على أفعال ستبدو لك في ظاهرها غريبة ومنكرة، بينما أنت لا تعلم حقيقتها أو عواقبها؟ وافق موسى على العهد، متعهداً بالصمت وعدم السؤال.
غرائب الأفعال الثلاثة
خلال رحلة موسى مع الخضر، وقعت ثلاثة أحداث متتالية، وكل حدث كان اختباراً لصبر موسى وقدرته على الالتزام بعهده:
- خرق السفينة: ركبا سفينة في البحر، فقام الخضر بخرقها وإحداث عيب فيها. لم يتمالك موسى نفسه وسارع بالاحتجاج والإنكار، معتبراً الفعل إفساداً وضررًا بأصحاب السفينة الطيبين.
- قتل الغلام: بعدما سارا، التقيا بغلام يلعب، فقام الخضر بقتله دون سبب ظاهر. كان هذا الفعل أشد هولاً على موسى، فاعتبره منكرًا لا يُحتمل ولا يمكن تبريره، فاحتج للمرة الثانية.
- إقامة الجدار: وصلا إلى قرية بخيلة، رفض أهلها ضيافتهما، ومع ذلك وجد الخضر جداراً آيلاً للسقوط فقام بإصلاحه وتقويمه دون مقابل. احتج موسى للمرة الثالثة، مشيراً إلى أنه كان يجب أن يأخذ أجراً على هذا العمل ليقتاتا به.
في كل مرة كان موسى يخالف عهده، كان الخضر يذكره بضرورة الصبر، وحين تكرر الاحتجاج للمرة الثالثة، أعلن الخضر نهاية الصحبة، لكنه قدم لموسى التفسير الشافي والمقنع لكل فعل من أفعاله التي كانت بأمر من الله.
الحكمة الخفية والتأويل الباطن
كشف الخضر لموسى عن الحكمة الكامنة وراء كل فعل، مُبيناً أن هذه الأفعال لم تكن صادرة عن هواه أو رأيه الشخصي، بل عن وحي وتدبير إلهي:
- السفينة: كان خرقها لحمايتها من ملك ظالم كان يستولي على كل سفينة صالحة غصباً. خرق بسيط خير من ضياع كامل للسفينة التي هي مصدر رزق مساكين.
- الغلام: كان الغلام كافراً وسيئاً، وكان سيُرهق والديه المؤمنين طغياناً وكفراً في المستقبل. قُتل ليبدلهم الله ولداً صالحاً باراً بهما.
- الجدار: كان الجدار يعود ليتيمين في المدينة، وتحته كنز مدفون لهما. لو سقط الجدار قبل بلوغهما، لضاعت حقوقهما، فأُصلح ليظل الكنز مصوناً حتى يكبُرا ويستخرجاه.
واختتم الخضر تأويله بقوله: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾.
الدروس المستفادة
تُعلمنا قصة موسى والخضر دروساً عظيمة على عدة مستويات:
- التواضع في طلب العلم: أعظم الأنبياء كان يسعى وراء العلم، وهذا دليل على أن العلم لا يقف عند حد.
- الصبر على الأحكام الإلهية: كثير من الأقدار التي تبدو لنا شراً محضاً، هي في باطنها خير محض لا ندركه. يجب أن نُسلم لحكمة الله التي لا تحيط بها عقولنا.
- التمييز بين علم الظاهر وعلم الباطن: يرى البشر ظواهر الأمور، أما حكمة الخضر فكانت تستند إلى علم الغيب وعواقب الأمور المستقبلية.
- أدب المتعلم: على طالب العلم أن يتحلى بالصبر، وأن يلتزم بعهد الصمت وعدم الاستعجال في الحكم على الأمور قبل أن تتضح له الحقيقة الكاملة.