المتشددون  منهجهم .. ومناقشة أهم قضاياهم

المتشددون منهجهم .. ومناقشة أهم قضاياهم

0 المراجعات

المتشددون 

منهجهم .. ومناقشة أهم قضاياهم 

تقديم 

في إطار اهتمامات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، وعنايته بقضايا الإسلام والمسلمين ، فيما يخص العلاقة بين المسلم وأخيه المسلم ، وفيما يقدمه الإسلام من أطر وأطروحات لمشكلات العصر في ضوء تعاليمه وفلسفته الحياتية ، وفيما يمتد إلى علاقة الإسلام بالأديان الأخرى وعلاقة المسلمين بالآخر المختلف معهم في العقيدة والنظام والقانون ، يتناول هذا البحث العديد من القضايا الحياتية ، وهي قضايا تستمد جذورها من منابعها الصافية التي أرسى تعاليمها القرآن والسنة والإجماع والمنقول والمصلحة الإسلامية المعتبرة ، نسوقها ونؤصل أساسها ، وندور في فلك مؤثراتها وتأثيراتها في واقع المسلمين والشئون الحياتية في محيطهم الإنساني لنتعرف من خلالها على الحكم الإسلامي في واقع القضية المعروضة ، استهداء بالقاعدة الأصولية : لكل واقعة حكم .

وهو تنبيه للعقلية المسلمة أن تعمن النظر في قراءتها للنص الإسلامي ، وأن تتعمق في فهم الوقائع ، فذلك أدعى إلى إنزال حكم  الله على الواقعة في مضامينه وآفاقه الرحبة ، واستدعاء الخطاب الإسلامي إلى دنيا الناس ، تأكيدا على أنه يهتم بأمورهم ، ويجدد حياتهم ، ويواكب مستجداتهم . 

مقدمة في تعريف السلفية وسمات منهج المتشددين الذين تسموا بالسلفيين 

فمصطلح السلفية يطلق في اللغة على معنى نسبي ، يمكن أن تتعاوره الأزمنة المتوالية كلها ، فإن كل زمن من الأزمان سلف بالنسبة إلى الأزمنة الآتية في أعقابه ، وخلف بالنسبة إلى الأزمنة التي سبقته ومرت من قبله .

وقد اكتسب لفظ (السلف) معنى اصطلاحي مستقر في الثقافة الإسلامية ويعني به القرون الثلاثة الأولى من عمر هذه الأمة الإسلامية ، ومصدر هذا حديث رسول الله (r) : [ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته ] .

ومصطلح (السلفية) أسيء فهمه ، وأسيء استغلاله ، وأسيء استخدامه من بعض المنتسبين إليه وخاصة في العصر الحاضر .

تطور مصطلح السلفية في التاريخ المعاصر :

ظهر مصطلح السلفية في مصر إبان الاحتلال البريطاني لها ، وأيام ظهور حركة الإصلاح الديني التي قادها وحمل لواءها كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ، فلقد اقترن ظهور هذه الحركة بارتفاع هذا الشعار ، ويعود السبب في ذلك إلى واقع مصر آنذاك .

فقد كانت مصر بها أنواع شتى من البدع والخرافات التي أخذت تكثر وتتنامى في أرجائها تلك الخرافات التي لا تمت إلى التصوف الصحيح بصلة ، فكان الناس أمام هذا الواقع على فريقين :

الأول : يرى الانضمام إلى ركب الحضارة الغربية والتخلص من بقايا القيود والضوابط ، بل حتى الأفكار الإسلامية .

والثاني : يرى إصلاح أمر المسلمين بإعادتهم إلى الإسلام الصحيح النقي عن سائر الخرافات والبدع والأوهام ، وربط الإسلام بعجلة الحياة الحديثة ، والبحث عن سبل التعايش بينه وبين الحضارة الوافدة ، وكان الشيخ الأفغاني والشيخ محمد عبده يمثلان طليعة الفريق الثاني ، وقد اتخذوا هذا الشعار وهو (السلفية) وكان المراد منه في هذا الوقت هو الدعوة إلى نبذ كل هذه الرواسب التي عكرت على الإسلام طهره وصفاءه من بدع وخرافات ، بحيث يعود المسلمون في فهم الإسلام واصطباغهم به إلى عهد السلف رضوان الله عليهم اقتداء وسيرا على منوالهم.

وكان الغرض من اختيار هذا المصطلح (السلفية) هو تهييج كراهية الناس للصورة التي انتهى إليها حال المسلمين ؛ بمقارنة فكرية يعقدونها بين واقع الإسلام والمسلمين في عصره الأول المشرق وواقعه معهم في العصر القاتم المظلم ، ثم إن جعلوا من ارتباط الإسلام بعصر السلف مناط كل سعادة وتقدم وخير .

حقيقة أتباع السلف عند العلماء :

إن إتباع السلف لا يكون بالانحباس في حرفية الكلمات التي نطقوا بها أو المواقف الجزئية التي اتخذوها ؛ لأن السلف أنفسهم لم يفعلوا ذلك .

فالسلفية الحقيقة تعني التزام أهلها بمنهج السلف في تعاملهم مع نصوص القرآن والسنة ، هذا المنهج الذي كان متجسدا ومتجليا في سلوك السلف الصالح رضوان الله عليهم ، فكل من التزم بهذا المنهج فقد دخل في دائرة الوحدة التي عنوان لها بأهل السنة والجماعة وإن عاشر في القرون الأخيرة من عمر الدنيا ، وكل من يلم يلتزم به فقد خرج عن دائرة تلك الوحدة الجامعة ، وإن عاش في أول قرن من عمر الإسلام .

والسلف – رضوان الله عليهم – لم يتخذوا من معنى كلمة (السلف) بحد ذاتها مظهرا أي شخصية متميزة أو أي وجود فكري أو اجتماعي خاص بهم يميزهم عمن سواهم من المسلمين ، ولم يضعوا شيئا من يقينهم الاعتقادي أو التزاماتهم السلوكية والأخلاقية في إطار جماعة إسلامية ذات فلسفة وشخصية فكرية مستقلة ، بل كان بينهم وبين من نسميهم اليوم بالخلف منتهى التفاعل وتبادل الفهم والأخذ والعطاء تحت سلطان ذلك المنهج الذي تم الاتفاق عليه والاحتكام إليه .

سمات المتشددين في العصر الحديث :

وهذا الفكر الصدامي يفترض أمورا ثلاثة وهي :

أولا : أن العالم كله يكره المسلمين ، وأنهم في حالة حرب دائمة للقضاء عليهم ، وأن ذلك يتمثل في أجنحة الشر الثلاثة الصهيونية (يهود) والتبشير (نصار) والعلمانية (إلحاد) وأن هناك مؤامرة تحاك ضد المسلمين في الخفاء مرة وفي العلن مرات ، وأن هناك استنفارا للقضاء علينا مللنا من الوقوف أمامه دون فعل مناسب .

ثانيا : وجوب الصدام مع ذلك العالم حتى نرد العدوان والطغيان ، وحتى ننتقم مما يحدث في العالم الإٍسلامي هنا وهناك ، ووجود الصداع يأخذ صورتين الأولى : قتل الكفار الملاعين ، والثانية : قتل المرتدين الفاسقين ، أما الكفار الملاعين فهم كل البشر سوى من شهد الشهادتين.

ثالثا : أن فكرهم يراد له أن يكون من نمط الفكر الساري ، وهذا معناه أنه لا يعمل من خلال منظمة أو مؤسسة يمكن تتبع خيوطها بقدر ما يعمل باعتباره فكرا طليقا من كل قيد يقتنع به الملتقي له في أي مكان ، ثم يقوم بما يستطيعه من غير أوامر أو ارتباط بمركز أو قائد.

هذا الفكر يريد أن يسحب مسائل الماضي في حاضرنا ، ولذلك تراه قد حول هذه المسائل إلى قضايا وإلى حدود فاصلة بينه وبين من حوله ، وهذه القضايا يتعلق أغلبها بالعادات والتقاليد والأزياء والملابس والهيئات من طريقة الأكل والشرب إلى قضاء الحاجة واستعمال العطور.

ومن خصائص هذا الفكر الانعزالي التشدد ، فهو يرى أن الحياة خطيئة ، وأنه يجب علينا أن نتطهر منها ، وأن التطهير منها يكون بالبعد عن مفردات ، سواء أكانت هذه المفردات هي الفنون أو الآداب أو كانت هذه المفردات هي المشاركة الاجتماعية أو حتى تعلم أساليب اللياقة ، فتراه يتمتع ويتفاخر بالخروج عن الحياة ، لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك بصورة تامة.

لقد أن الأوان وحان الوقت لأن يكون مقاومة هذا الفكر المتنطع مطلبا قوميا ، والطريق إلى ذلك هو العودة إلى منهاج الأزهر الذي حمل لواء أهل السنة والجماعة عبر القرون ، وأهل السنة بالنسبة لباقي التيارات والمذاهب الإسلامية عدل وسط ، يعترفون بكل الصحابة وليس من شأنهم كشأن الشيعة الذين ينكرون الصحابة إلا عليا وبعضا قليلا حوله .

فالمنهج الأزهري الوسطي يتوخى تحقيق المقاصد العليا ، من حفظ النفس ، والعقل ، والدين ، وكرامة الإنسان ، وملكه ، وهي التي تمثل النظام العام ، وتمثل حقوق الإنسان ، وتمثل في ذات الوقت أهداف الشريعة العليا ، وملامح الحضارة الإسلامية والإنسانية ، ويدرس في جانب الأخلاق مذاهب التصوف التي يتعلم فيه الإنسان أن يخلي قلبه من القبيح بما فيه الكبر والعناد ، وأن يحلى قلبه بالصحيح بما فيه الرجوع إلى المرجعية الصحيحة ، وإلى العلم النافع ، وإلى القيادة الرشيدة ، وطاعة الله ورسوله وأولي الأمر منا .

أهم مسائل المتشددين 

التي جعلوها أصولا لهم وعنوانا عليهم 

لقد تمسك المتشددون بمجموعة من المسائل التي لا تمثل هوية لأمة وكلها مسائل فرعية ، وجعلوها معيارا لتصنيف المسلمين ، وامتحانا لتقسيمهم ، وروج لدي طوائف كثيرة من الناس أنها قطيعة لا خلاف فيها ، وأن الحق معهم وحدهم ، وأن القائل بغير ما يقولونه مارق ، فاسق ، منحرف ، أو على أقل تقدير غير ملتزم ومتساهل ، أو يتهم بأنه ليس متبعا للرسول (r).

من الأشياء التي يصر عليه من يسمون أنفسهم بالمتشددين وصف الله بالجهة والمكان ، ويزعمون إثبات الفوقية المكانية له سبحانه وتعالى . وهذا الإصرار منهم يتعارض مع ما ينبغي أن يكون تنزيه الله سبحانه وتعالى . 

واستحالة وصف الله سبحانه وتعالى بالجهة والمكان تنطق من أن أهل الحق من المسلمين يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى قديم ، أي أنهم يثبتون صفة القدم ، وهو القدم الذاتي ويعني عدم افتتاح الوجود ، أو هو عدم الأولية للوجود ، وهو ما استفيد من كتاب الله في قوله : ) هو الأول ( (الحديد) وقوله (r) : [ أنت الأول فليس قبلك شيء ] .

كما يؤمن المسلمون بمخالفته سبحانه وتعالى للحودث وتعني مخالفة الحوادث في حقائقها ، فهي تسلب الجرمية والعرضية والكلية والجزئية ولوازمها عنه تعالى ، فلازم الجرمية التحيز ، ولازم العرضية القيام بالغير ، ولازم الكبر والتجزئة ، ولازم الجزئية الصغر إلى غير ذلك ، فإذا ألقي الشيطان في ذهن الإنسان : إذا لم يكن المولى جرما ولا عرضا ولا كلا ولا جزءا فما حقيقة ؟ فقل في ردك ذلك : لا يعلم الله إلا الله .

وعليه لا يجوز وصف الله سبحانه وتعالى بالحوادث ، ولا السؤال عنه بما يقتضي وصفه بذلك ، فلا يسأل عن الله بأين بقصد معرفة جهة ذاته سبحانه ومكانها : وإنما يجوز أن يسأل عنه بأين بقصد معرفة ملكوته سبحانه ، أو ملائكته أو أي شيء يجوز السؤال عنه ووصفه بالحوادث ، وعلى هذا يؤول معنى ما ورد في الشرع من السؤال بأين أو الإخبار بما ظاهرة الجهة والله تعالى أعلى وأعلم .

المتشددون ينتقصون الأشاعرة 

من مصائب هذا التيار المتشدد أنهم اتهموا الأشاعرة بأنهم فرقة ضالة ؛ وهنا يتجلى فكر الخوارج الذي لا يعبأ بأن يخرج على جماعة المسلمين وينتقصهم ويزعم أنهم على ضلالة ويدعي الحق لنفسه .

والأشاعرة نسبة إلى الإمام أبي الحسن الأشعري ، فمن هو هذا الإمام ؟ وماذا قال العلماء عنه .

الأمام أبو الحسن الأشعري وثناء العلماء على مذهبه :

الأشاعرة نسبة إلى الإمام أبي الحسن الأشعري ، فهو الإمام أبو الحسن على بن إسماعيل بين أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة عامر بن صاحب رسول الله (r) أبي موسى الأشعري .

قال الفقيه أبو بكر الصيرفي : ( كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى نشأ الأشعري فحجزهم في أقماع السماسم ) قال عنه القاضي عياض المالكي : ( وصنف لأهل السنة التصانيف ، وأقام الحجج على إثبات السنة ، وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى ورؤيته ، وقدم كلامه ، وقدرته ، وأمور السمع الواردة قال : تعلق بكتبه أهل السنة ، وأخذوا عنه ودرسوا عليه ، وتفقهوا في طريقه في طريقه ، وكثر طلبته وأتباعه ، لتعلم تلك الطرق في الذب عن السنة ، وبسط الحجج والأدلة في نصر الملة ، فسموا باسمه ، وتلاهم أتباعهم وطلبتهم ، فعرفوا بذلك – يعني الأشاعرة – وإنما كانوا يعرفون قبل ذلك بالمثبتة ، سمة عرفتهم بها المعتزلة ؛ إذ أثبتوا من السنة والشرع ما نفوه .

ماذا يعني انتساب أهل السنة والجماعة إلى الأشعري :

عندما اختلف الناس وظهر المبتدعة ممن أساءوا الأدب مع الله ورسوله وكلهم زعموا أن هذه هي عقيدة النبي (r) وأصحابه ، كان لازما على المعتقد بعد ظهور الفرق أن يحدد عقيدة النبي (r) وأصحابه كما بينها أبو الحسن الأشعري ، فأبو الحسن الأشعري لم يبدع مذهبا في الاعتقاد وإنما قرر مذهب أهل السنة والجماعة .

ويقول : ( وهؤلاء الحنفية ، والشافعية ، والمالكية ، وفضلاء الحنابلة في العقائد يد واحدة كلهم على رأي أهل السنة والجماعة يدينون لله تعالى بطريق شيخ السنة أبي الحسن الأشعري رحمه الله ، .. – ثم يقول بعد ذلك وبالجملة عقيدة الأشعري هي ما تضمنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها علماء المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة ) .

ولذلك كله إذا قلنا : إن عقيدة النبي (r) وأصحابه هي عقيدة الأشاعرة ؛ سيكون ذلك تقريرا للواقع ، كما قيل عن النبي (r) كانت أغلب قراءته نافه ، رغم أن نافع لم ير النبي (r) ونافع هو الذي يقرأ مثل النبي (r) وليس العكس ، ولكن لما كان نافع جامعا منقحا لتلك القراءة نسبت إليه وقيل : ( إن أغلب قراءة النبي (r) نافع) وعليه فيصح أن تقول : ( إن عقيدة النبي (r) وأصحابه هي عقيدة الأشاعرة ) .

بيان عقيدة الأشاعرة في باب الإضافات (الصفات الخبرية) :

مذهب أهل السنة والجماعة – الأشاعرة والماتريدية – مذهب واضح في جميع أبواب علم التوحيد ، ولكن أكثر ما ينكره من جهلوا حقيقة المذهب مسألة في الإيمان بالله ، وهي تتعلق بـ (الإضافات إلى الله ) أو ما يسمى بـ (الصفات الخبرية) .

ونشأ هذا بسبب أن بعض الألفاظ الواردة في القرآن والتي أضافها الله له في كتابه العزيز يريد بعضهم أنت يثبتها على الحقيقة اللغوية مما يلزم منه تشبيه الخالق سبحانه وتعالى بخلقه ، وأما أهل الحق فرأوا أن هذه الألفاظ لا نتعرض لمعناها لأنها من قبيل المتشابه .

فهذا مذهب أهل السنة في التعامل مع تلك الألفاظ التي إذا ما أثبتت على الحقيقة اللغوية تلزم التشبيه قطعا ، ولذا قال الحافظ العراقي في معرض الكلام عن (الوجه) : (تكرر ذكر وجه الله تعالى في الكتاب والسنة وللناس في ذلك – كغيره من الصفات – مذهبان مشهوران :

أحدهما : إمرارها كما جاءت من غير كيف فنؤمن بها ونكل علمها إلى عالمها مع الجزم بأن الله ليس كمثله شيء وأن صفاته لا تشبه صفات المخلوقين .

وثانيهما : تأويلها على ما يليق بذاته الكريمة فالمراد بالوجه الموجود ، ويقصد بالناس (أهل الحق)

قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه قي قول النبي (r) إن الله ينزل إلى سماء الدنيا ، وإن الله يرى في القيامة ، وما أشبه هذه الأحاديث نؤمن بها ونصدق بها لا كيف ، ولا معنى ، ولا نرد شيئا منه ، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ، ولا نرد على رسول الله (r) ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) ( (الشورى) ونقول كما قال ، ونصفه بما وصف به نفسه ، لا نتعدى ذلك ولا يبلغه وصف الواصفين ، نؤمن بالقرآن كله ، محكمه ومتشابهه ، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت ولا نتعدى القرآن والحديث ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول (r) وتثبيت القرآن قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (رضي الله عنه) آمنت بالله ، وبما جاء عن الله على مراد الله ، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله .

وعلى درج السلف وأئمة الخلف (رضي الله عنه) كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله .

3- المتشددون ينكرون اتباع المذاهب الفقهية وتقليدها :

مما يميز هؤلاء أنهم يذمون التقليد وينكرون على متبعي المذاهب الفقهية الأربعة كمذهب الإمام أبي حنيفة والإمام مالك ، والإمام الشافعي والإمام أحمد ، وفيما يلي نوضح معنى التقليد وحقيقة المسألة التي غبش بها المتشددون على المسلمين فيها .

إن المكلفين بالنسبة لأحكام الشريعة وأدلتها قسمان : قسم قادر على أخذ الأحكام من أدلتها بطريق الاجتهاد ، وقسم دون ذلك والأول : هم المجتهدون ، والثاني : هم المقلدون ، ولابد لكل منهما من معرفة الحكم الشرعي ليعمل به حسبما كلف .

فالأول بمقتضى التكليف العام مأمور بالاجتهاد للعمل بالأحكام الشرعية وإتباعها ، والثاني مأمور بتقليده كذلك .

وجمهور الأصوليين على أن المقلد يشمل : العامي المحض ؛ لعجزه عن النظر والاجتهاد ، والعالم الذي تعلم بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد ، ولكنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد ، فكل منهما يلزمه التقليد .

والعوام في زمن الصحابة والتابعين كانوا إذا نزلت بهم حادثة ، أو وقعت لهم واقعة يهرعون إلى الصحابة والتابعين ليسألوهم عن حكم الله في تلك الحادثة ، وكانوا يجيبونهم عن هذه المسائل من غير أن ينكروا عليهم ذلك ، ولم ينقل عنهم أنهم أمروا هؤلاء السائلين بأن يجتهدوا ليعرفوا الحكم بأنفسهم ، فكان ذلك إجماعا من الصحابة والتابعين على أن من لم يقدر على الاجتهاد فطريق معرفته للأحكام هو سؤال القادر عليها فتكليف العوام بالاجتهاد فيه مخالفة لهذا الإجماع السكوتي.

وبعد أن قرر العلماء أن التقليد في الفروع مشروع بلا غضاضة ، اختلفوا بعد ذلك في أن التزام المقلد تقليد مذهب معين من مذاهب المجتهدين في كل واقعة على قولين :

الأول : أنه يجب التزام مذهب معين ، قال الجلال المحلي في شرحه لجميع الجوامع : (و) الأصح (أنه يجب) على العامي وغيره ممن لم يبلغ رتبة الاجتهاد (التزام مذهب معين) من مذاهب المجتهدين (يعتقده أرجح) من غيره (أو مساويا) له ، وإن كان نفس الأمر مرجوحا على المختار المتقدم ، (ثم) في المساوي ( ينبغي السعي في اعتقاده أرجح) ليتجه اختياره على غيره .

الثاني : أنه لا يجب عليه التزام مذهب معين في كل واقعة ، بل له أن يأخذ بقول أي مجتهد شاء وهو الصحيح ، ولذلك اشتهر قولهم : العامي لا مذهب له ، بل مذهبه مذهبه مفتيه ) أي : المعروف بالعلم والعدالة .

وهذا الأخير هو الصحيح ؛ قال الإمام النووي : ( لذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب ، بل يستفتي من شاء ، أو من اتفق من غير تلقط للرخص ، ولعل من منعه لم يثق بعدم تلقطه ) 

بعض الاعتراضات التي وردت على التقليد والتمذهب :

الاعتراض الأول : الدليل الذي أوجب الشرع علينا إتباعه هو الكتاب والسنة ، وليس كلام الأئمة.

جوابه : الدليل ليس هو الكتاب والسنة فقط ، بل الدليل يشمل أيضا الإجماع ، والقياس ، وقول الصحابي ، وشرع من قبلنا ، والعرف ، والاستحسان ، وغير ذلك .

وفهم معنى الدليل على أنه الكتاب والسنة فقط قصور ظاهر ؛ لأن الدليل معناه أعم من أن يكون محصورا في الكتاب والسنة فقط ، فالكتاب والسنة إنما هما نصوص يستنبط ويستخرج منهما المجتهد الأحكام ، وكذلك من غيرهما من الأدلة .

وكذلك فإن أقوال الأئمة المجتهدين ليست قسيما للكتاب والسنة ، بل إن أقوالهم هي نتاج فهمهم لهما ، فأقوالهم تفسير وبيان للكتاب السنة .

فالأخذ بأقوال الأئمة ليس تركا للآيات والأحاديث ، بل هو عين التمسك بهما ، فإن الآيات والأحاديث ما وصلت إلينا إلا بواسطتهم ، مع كونهم أعلم ممن بعدهم بصحيح الأحاديث وسقيمها ، وحسنها وضعيفها ، ومرفوعها ومرسلها ، ومتواترها ومشهورها ، وتاريخ المتقدم والمتأخر منها ، والناسخ والمنسوخ ، وأسبابها ، ولغاتها ، وسائر علومها مع تمام ضبطهم وتحريرهم لها .

فالحاصل : أن عدم ترك المقلد قول الإمام للحديث وغيره ؛ ليس لأن قول الإمام راجح عنده على قول الله والرسول حاشاه من ذلك ، بل لأجل أنه لم يثبت عنده مخالفة الإمام لله والرسول.

فإن قلت : إن كان لا يعلم هو المخالفة بنفسه ، فنحن والعلماء الآخرون معنا نعلمه بأن إمامه خالف الحديث. قلنا : إن صدقكم في هذا القول بالاستدلال فهو ليس بأهل للاستدلال ، ولا يعتمد على صحة استدلاله فكيف بالتصديق ؟ وإن صدقكم بدون حجة يكون مقلدا لكم ، وليس أحد التقليدين أولى من الآخر ، فكيف يترك تقلديه السابق ويرجع إلى تقليدكم فانكشف غبار الطعن واللجاج ، ولله الحمد .

الاعتراض الثالث : تقليد الأئمة مخالف لما أرشدوا هم إليه ؛ حيث نهوا عن تقليدهم ، وخاصة إذا خالف رأيهم الحديث الصحيح ، وقد ورد عن كل واحد من الأئمة الأربعة أنه قال : (إذا صح الحديث فهو مذهبي) . 

الجواب : دعوى أن الأئمة المجتهدين قد نهوا عن تقليدهم مطلقا هي دعوى باطلة ؛ فإنه لم ينقل عن أحد منهم ذلك ، ولو ثبت عنهم فترك التقليد لقولهم هو عين التقليد ، وهو منهي عنه عندكم ، فكيف يجب ترك التقليد بتقليد قولهم ؟ فالأمر بتقليدهم في أمرهم بترك التقليد إيجاب للنقيضين ، وهو باطل .

4- المتشددون غير مؤهلين للإفتاء ويحدثون فوضى في المجتمع 

من الحالات التي أحدثها هذا التيار المتشدد حالة تسمى بـ (فوضى الفتاوي) فالانفتاح العلمي والفكري والإعلامي الذي يعيشه المسلمون اليوم حالة فريدة لم يسبق لها مثيل ، ولم يعد – كما كان سابقا – بالإمكان تحديد وضبط قنوات التلقي والتوجيه والفتوى ، بل وبسبب تنوع وسائل الإعلام المشاهد منه والمقروء ، ولسهولة التعاطي معه ولكل أحد بات المسلم يسمع الفتوى والتوجيه من كل مكان .

تحذير العلماء من الإقدام على الفتوى  : 

ولشدة خطر الفتاوى وقلة المتأهلين إليها حذر سلفنا الصالح من العلماء من الإقدام على الفتوى وننقل في ذلك كلام الإمام النووي حيث يقول : ( اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر ، كبير الموقع ، كثير الفضل ، لأن المفتى وارث الأنبياء – صلوات الله وسلامة عليهم – وقائم فرض الكفاية ولكنه معرض للخطأ ؛ ولهذا قالوا : المفتى موقع عن الله تعالى ، ورينا عن ابن المنكدر قال : العالم بين الله تعالى وخلقه ، فلينظر كيف يدخل بينهم .

شروط المفتي :

الشروط السلبية :

هناك شروط سلبية لا يجب توافرها ، والشروط السلبية كثيرة ، ونعلم أنه ليس من المنطقي أن يقال من الشروط ( لا يشترط كذا) فعدم توافر الشرط لا يحتاج أن ينص عليها ، ولكن نذكر تلك الأمور خاصة لأننا في عصر اشتبه على الناس كثير من الأمور ، مما ألزمنا التنبيه عليها ، فمن هذا :

1- لا يشترط في المفتى الذكورية إجماعا . فتصبح فتيا المرأة .

2- لا يشترط النطق اتفاقا ، فتصح فتيا الأخرس ، ويفتى بالكتابة أو بالإشارة المفهمة .

3- لا يشترط البصر ، اتفاقا فتصح فتيا الأعمى ، وصرح به المالكية .

4- أما السمع ، فقد قال بعض الحنفية : إنه شرط فلا تصح فتيا الأصم وهو من لا يسمع أصلا ، وقال ابن عابدين : لا شك أنه إذا كتب له السؤال وأجب عنه جاز العمل بفتواه ، إلا أنه لا ينبغي أن ينصب للفتوى ، لأنه لا يمكن كل أحد أن يكتب له ، ولم يذكر هذا الشرط غيرهم .

أما الشروط التي يجب توافرها في المفتى : 

1- الإسلام : فلا تصح فتيا غير المسلمين .

2- العقل : فلا تصح فتيا المجنون .

3- البلوغ : وهو أن يبلغ من يفتى الحلم من الرجال ، والمحيض من النساء ، أو يبلغ 15 عاما أيهما أقرب ، لأنه لا تصح فتيا الصغير والصغيرة .

4- العلم : الإفتاء بغير علم حرام ، لأنه يتضمن الكذب على الله تعالى ورسوله ، ويتضمن إضلال الناس ، وهو من الكبائر ، لقوله تعالى : ) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) ( (الأعراف) 

5- التخصص : ونعني به أن يكون من يتعرض للإفتاء قد درس الفقه والأصول وقواعد الفقه دراسة مستفيضة ، وله دربة في ممارسة المسائل وإلمام بالواقع المعيش ، ويمكن أن يعبر عن التخصص في العصر الحديث بالحصول على الدراسات العليا من جامعات معتمدة في علوم الشريعة ، وإن كان هذا الشرط هو مقتضى شرط العلم والاجتهاد ، فإن العلم بالفقه والاجتهاد فيه يقتضي التخصص . لأنه لابد أن يفتي الفقهاء ، فلا يصح أن يفتي المحدثون ممن لم يشتغلوا بالفقه .

6- العدالة : والعدل هو من ليس بفاسق وليس مخروم المروءة وخرم المروءة تعني الخروج عن عادات الناس فيما ينكر ويستهجن ، كأن يسير في الطريق حافيا مثلا ، أو غير ذلك من السلوكيات التي تستهجن في المجتمع ، فلا تصح فتيا الفاسق عند جمهور العلماء ، لأن الإفتاء يتضمن الإخبار عن الحكم الشرعي ، وخبر الفاسق لا يقبل ، واستثنى بعضهم إفتاء الفاسق نفسه فإنه يعلم صدق نفسه ، وثبت الخلاف بين الفقهاء في فتيا الفاسق.

7- الاجتهاد : وهو بذل الجهد في استنباط الحكم الشرعي من الأدلة المعتبرة ، وليس المقصود هو أن يبذل العالم جهدا ملاحظا قبل كل فتوى ، وإنما المقصود بلوغ مرتبة الاجتهاد ، والتي قال الشافعي عنها فيما رواه عنه الخطيب : لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله ، إلا رجلا عارفا بكتاب الله : بناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، وتأويله وتنزيله ، ومكيه ومدنيه ، وما أريد به ، ويكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله (r) ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن ، ويكون بصيرا باللغة ، بصيرا بالشعر وما يحتاج إليه من السنة والقرآن ويستعمل هذا مع الإنصاف.

8- جودة القريحة : ومعنى ذلك أن يكون كثير الإصابة ، صحيح الاستنباط ، وهذا يحتاج إلى حسن التصور للمسائل ، وبقدر ما يستطيع المجتهد أن يتخيل المسائل بقدر ما يعلو اجتهاده ، ويفوق أقرانه ، فهو يشبه ما يعرف في دراسات علم النفس بالتصور المبدع ، أو الخيال الخلاق.

9- الفطانة والتيقظ : يشترط في المفتى أن يكون فطنا متيقظا ومنتبها بعيدا عن الغفلة ، قال ابن عابدين (قوله : وشرط بعضهم تيقظه ) احترازا عمن غلب عليه الغفلة والسهو ، قلت : وهذا شرط لازم في زماننا فإن العادة اليوم أن من صار بيده فتوى المفتي استطال على خصمه وقهره بمجرد قوله أفتاني المفتي ، بأن الحق معي والخصم جاهل لا يدري ما في الفتوى ، فلابد أن يكون المفتي متيقظا يعلم حيل الناس ودسائسهم .

ثانيا : آداب المفتي :

ينبغي أن يتحلى المفتي بكثير من الآداب ، ولأن تلك الآداب غير محصورة كالشروط نذكر جملة منها بالنقل عن الأئمة والعلماء ، فمن ذلك ما نبه عليه الإمام أحمد من أمور ، فقال : ( لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال : أولها : أن تكون له نية ، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور . والثانية : أن يكون له علم ، وحلم ووقار ، وسكينة . الثالثة : أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته . الرابعة : الكفاية وإلا مضغه الناس . الخامسة : معرفة الناس .

كما ينبغي عليه أن يحسن زيه ، مع التقيد بالأحكام الشرعية في ذلك فيراعي الطهارة والنظافة ، واجتناب الحرير والذهب والثياب التي فيها شيء من شعارات الكفار ، ولو لبس من الثياب الغالية لكان أدعى لقبول قوله ؛ ولأن تأثير المظهر في عامة الناس لا ينكر ، وهو في هذا الحكم كالقاضي. 

ومن الآداب التشاور فإن كان عنده من يثق بعلمه ودينه فينبغي له أن يشاوره ، ولا يستقل بالجواب تساميا بنفسه عن المشاورة ، وعلى هذا كان الخلفاء الراشدون ، وخاصة عمر رضي الله عنه ، فالمنقول من مشاورته لسائر الصحابة أكثر من أن يحصر ، ويرجى بالمشاورة أن يظهر له ما قد يخفي عليه ، وهذا ما لم تكن المشاورة من قبيل إفشاء السر .

كما ينبغي للمفتي مراعاة أحوال المستفتي ، ولذلك وجوه ، منها :

أ – إذا كان المستفتي بطيء الفهم ، فعلى المفتي الترفق به والصبر على تفهم سؤاله وتفهيم جوابه.

ب- إذا كان بحاجة إلى تفهيمه أمورا شرعية لم يتطرق إليها في سؤاله ، فينبغي للمفتي بيانها له زيادة على جواب سؤاله ، نصحا وإرشادا ، وقد أخذ العلماء ذلك من حديث أن بعض الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي (r) عن الوضوء بماء البحر ، فقال : [ هو الطهور ماؤه الحل ميتته] وللمفتي أن يعدل عن جواب السؤال إلى ما هو أنفع ومن ذلك قوله تعالى : )يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) ( البقرة 

ج- أن يسأله المستفتي عما هو بحاجة إليه فيفتيه بالمنع ، فينبغي أن يدل على ما هو عوض منه ، كالطبيب الحاذق إذا منع المريض من أغذية تضره يدله على أغذية تنفعه .

د- أن يسأل عما لم يقع ، وتكون المسألة اجتهادية ، فيترك الجواب إشعارا للمستفتي بأنه ينبغي له السؤال عما يعنيه مما له فيه نفع ووراءه عمل ، قال ابن عباس (رضي الله عنه) : ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم وقال ابن عباس لعكرمة : [ أخرج يا عكرمة فافت الناس ، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته ، فإنك تطرح عن نفسك الناس ] .

قاعدة من ابتلى بشيء مما اختلف فيه فليقلد من أجاز :

وأصلها قول الشيخ العلامة الشرواني : [ لمن ابتلى بشيء من ذلك كما يقع كثيرا تقليدا ما تقدم ليتخلص من الحرمة ] .

والتيسير الذي نقصده هو ما نقل تعريفه ابن أمير الحاج حيث قال : [ أي أخذه من كل منها ما هو الأهون فيما يقع من المسائل ( ولا يمنع منع مانع شرعي ؛ إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل بأن لم يكن عمل بآخر فيه ) .

وقال أيضا : والغالب أن مثل هذه إلزامات منهم لكف الناس عن تتبع الرخص ، وإلا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد قوله أخف عليه وأنا لا أدري ما يمنع هذا من العقل والسمع وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ما علمت من الشرع ذمه عليه [ وكان (r) يحب ما يخفف عليه ] . 

ولعل بهذا العرض قد اتضحت حقيقة الفتوى ، وفضلها وشروط المفتي ، وآدابه ، ونسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل ، والله تعالى أعلى وأعلم .

5- المتشددون يعدون أغلب تصرفات المسلمين بدعا 

من أشنع المفاهيم المسيطرة على فكر هؤلاء هو اتساع مفهوم البدع فيعدون أغلب سلوك المسلمين في عباداتهم وعاداتهم من البدع والضلالات وذلك لأنهم ظنوا أن كل ما لم يفعله النبي (r) بدعة وضلالة لا يجوز فعلها فتراهم إذا رأوا من يرفع يديه بعد الصلاة ليدعو الله ينهرونه ويقولون له إنها بدعة لأن النبي (r) لم يفعل ذلك . ومن يمد يده بمصافحتهم بعد الصلاة يخبرونه بأن ذلك بدعة لأن النبي (r) لم يفعل ذلك ... الخ .

ولقد اتفق علماء المسلمين سلفا وخلفا شرقا وغربا على أن الترك ليس مسلكا للاستدلال بمفرده ، فكان مسلكهم لإثبات حكم شرعي بالوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو الحرمة هو :

1- ورد نص من القرآن .                 2- ورد نص من السنة .

3- الإجماع على الحكم .                 4- القياس : واختلفوا في مسالك أخرى لإثبات الحكم الشرعي منها :              5- قول الصحابي .        6- سد الذريعة .

7- عمل أهل المدينة .      8- الحديث المرسل .       9- الاستحسان .

10- الحديث الضعيف ، وغير ذلك من المسالك التي اعتبرها العلماء والتي ليس بينها الترك.

وقد ثبت أن النبي (r) ترك الخطبة على المنبر ، وخطب على الجذع ولم يفهم الصحابة أن الخطابة على المنبر بدعة ولا حرام ، فقاموا بصنع منبر له (r) وما كانوا لهم أن يقدموا على فعل حرمه النبي (r) فعلم أنهم كانوا لا يرون الترك بدعة .

ولم يفهم سيدنا بلال (رضي الله عنه) من ترك النبي (r) لصلاة ركعتين بعد الوضوء عدم جواز ذلك ، بل قام بذلك ن ولم يخبر النبي (r) وإنما لما سأله النبي (r) قائلا : [ يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام ،فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة ] قال : ما عملت عملا أرجى عندي أني لن أتطهر طهورا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي ] قال أبو عبد الله : دف نعليك يعني تحريك .

هناك مسلكان للعلماء في تعريف البدعة في الشرع ؛ المسلك الأول : وهو مسلك العز بن عبد السلام ؛ حيث اعتبر أن ما لم يفعله النبي (r) بدعه وقسمها إلى أحكام حيث قال : [ فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله (r) وهي منقسمة إلى : بدعة واجبة ، وبدعة محرمة ، وبدعة مندوبة ، وبدعة مكروهة ، وبدعة مباحة ، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة : فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة ، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة ، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة ، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة ] .

والمسلك الثاني : جعل مفهوم البدعة في الشرع أخص منه في اللغة ، فجعل البدعة هي المذمومة فقط ، ولم يسم البدعة الواجبة ، والمندوبة ، والمباحة ، والمكروهة بدعا كما فعل العز ؛ وإنما اقتصر مفهوم البدعة عنده على المحرمة  ، وممن ذهب إلى ذلك ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – ويوضح هذا المعنى فيقول : [ والمراد بالبدعة : ما أحدث ما ليس له أصل في الشريعة يدل عليه ، وأما ما كان له أصل في الشرع يدل عليه فليس ببدعة ، وإن كان بدعة لغة ] .

كيف تعامل العلماء مع مفهوم البدعة :

وتعامل جمهور الأمة من العلماء المتبوعين مع البدعة على أنها أقسام كما ظهر ذلك في كلام الإمام الشافعي ، ومن أتباعه العز بن عبد السلام ، والنووي ، أبو شامة . ومن المالكية : القرافي ، والزرقاني . ومن الحنفية : ابن عابدين . ومن الحنابلة : ابن الجوزي . ومن الظاهرية  : ابن حزم ويتمثل هذا الاتجاه في تعريف العز بن عبد السلام للبدعة وهو : أنها فعل ما لم يعهد في عهد رسول الله (r) وهي منقسمة إلى بدعة واجبة ، وبدعة محرمة ، وبدعة مندوبة ، وبدعة مكروهة ، وبدعة مباحة .

وضربوا لذلك أمثلة : فالبدعة الواجبة : كالاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله ، وذلك واجب ؛ لأنه لابد منه لحفظ الشريعة وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . والبدعة المحرمة من أمثلتها : مذهب القدرية ، والجبرية ، والمرجئة ، والخوارج . والبدعة المندوبة : مثل إحداث المدارسٍ ، وبناء القناطر ، ومنها صلاة التراويح جماعة في المسجد بإمام واحد ، والبدعة المكروهة : مثل زخرفة المساجد ، وتزويق المصاحف ، والبدعة المباحة : مثل المصافحة عقل الصلوات ، ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس . 

ومما سبق يتضح أن هناك رؤيتين رؤية إجمالية : وهي التي ذهب إليها ابن رجب الحنبلي (رضي الله عنه) وغيره ، وهو أن الأفعال التي يصاب المرء عليها ويشره له فعلا لا تسمى بدعة شرعا ، وإن صدق عليها الاسم في اللغة ، وهو يقصد أنها لا تسمى بدعة مذمومة شرعا ، والرؤية التفصيلية وهي ما ذكره العز بن عبد السلام (رضي الله عنه) وأوردناه تفصيلا .

ما ذكر ينبغي للمسلم أن يحيط به في قضية باتت من أهم القضايا التي تؤثر في الفكر الإسلامي ، وكيفية تناوله للمسائل الفقهية ، وكذلك نظره لإخوانه من المسلمين ، وحيث يقع الجاهل في الحكم على الآخرين بأنهم مبتدعين وفساق والعياذ بالله بسبب جهله بهذه المبادئ التي كانت واضحة ، وأصبحت في هذه الأيام في غاية الغموض والاستغراب ، نسأل الله السلامة ، والله تعالى أعلى وأعلم .

6- المتشددون يحرمون التوسل بالنبي (r) 

من طامات هذا التيار المتشدد أنه يحرم التوسل بالنبي (r) في الدعاء إلى الله ، ويتهمون من يفعل ذلك بالشرك والخروج من الإسلام ، على الرغم من أن التوسل بالنبي (r) مسألة اتفقت عليها كلمة الفقهاء ومذاهبهم ، وقد اتفقت المذاهب الأربعة على جواز التوسل بالنبي (r) بل استحباب ذلك ، وعدم التفريق بين حياته (r) وانتقاله الشريف (r) .

أولا : أدلة القرآن الكريم :

قال الله تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) ( (المائدة)

قال سبحانه : ) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) ( (الإسراء) 

وقد استدل بتلك الآية على استحباب زيارة قبر النبي (r) كما استحبوا قراءتها أثناء زيارة روضته الشريفة (r) فذهب الحنفية إلى استحباب قراءة الآية عند قبره الشريف ؛ ففي الفتاوى الهندية في آداب زيارة قبر النبي (r) ما نصه : ( ثم يقف عند رأسه (r) كالأول ويقول : اللهم إنك قلت – وقولك الحق - : ) ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ( (النساء : 64) 

ثانيا : أدلة السنة :

حديث الأعمى : عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي (r) فقال : ادع الله أن يعافيني . قال : [ إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت فهو خير لك ] قال : فادعه قال : فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء : [ اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللهم فشفعه في ] وهذا الحديث دليل على استحباب هذه الصيغة من الأدعية حيث علمها النبي (r) لأحد أصحابه ، وأظهر الله معجزة نبيه (r) ، حيث استجاب لدعاء الضرير في نفس المجلس ، فإذا علم رسول الله (r) أحدا من أصحابه صيغة للدعاء ، ونقلت إليها بالسند الصحيح ، فدل ذلك على استحباب الدعاء بها في كل الأوقات حتى يرض الله الأرض ومن عليها ، وليس هناك مخصص لهذا الدعاء لذلك الصحابي وحده ، ولا مقيد لذلك بحياته (r) ، فالأصل في الأحكام والتشريعات أنها مطلقة وعامة ، إلا من يثبت المخصص أو المقيد .

7- المتشددون يحرمون الصلاة في المساجد ذات الأضرحة ويصرحون بوجوب هدمها 

يحرم المتشددون الصلاة بالمسجد الذي ألحق به ضريح رجل صالح ، ويصرحون بوجوب هدم الضريح أو المسجد . وهم بذلك يخالفون إجماع المسلمين ويستفزون مشاعرهم فالصلاة بالمسجد الذي به ضريح أحد الأنبياء – عليهم السلام – أو الصالحين ، صحيحة ، ومشروعة ، وقد تصل إلى درجة الاستحباب ويدل على هذا الحكم عدة أدلة من القرآن الكريم ، والسنة النبوية المطهرة ، وفعل الصحابة وإجماع الأمة العملي .

ومن السنة حديث أبي بصير الذي رواه عبد الرزاق ، عن معمر عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم قالا : [ إن أبا بصير انفلت من المشركين بعد صلح الحديبية ، وذهب إلى سيف البحر ، ولحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، انفلت من المشركين أيضا ، ولحق بهم أناس من المسلمين حتى بلغوا ثلاثمائة وكان يصلي بهم أبو بصير .

أما فعل الصحابة رضوان الله عليهم يتضح في موقف دفن سيدنا رسول الله (r) واختلافهم فيه ، وهو ما حكاه الإمام مالك (t) عندما ذكر اختلاف الصحابة في مكان دفن الحبيب (r) فقال : [فقال ناس : يدفن عند المنبر ، وقال آخرون : يدفن بالبقيع ، فجاء أبو بكر الصديق فقال : سمعت رسول الله (r) يقول : [ ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفى فيه فحفر له فيه ] ووجه الاستدلال أن أصحاب رسول الله (r) اقترحوا أن يدفن (r) عند المنبر وهو داخل المسجد قطعا ، ولم ينكر عليهم أحد هذا الاقتراح ، بل إن أبا بكر (t) اعترض على هذا الاقتراح ليس لحرمة دفنه (r) في المسجد وإنما تطبيقا لأمره (r) بأن يدفن في مكان قبض روحه الشريف (r).

وفي ولاية عمر بن عبد العزيز للمدينة أدخلت القبور الثلاثة المساجد وقد وافق فقهاء المدينة السبعة ، ولم يعترض منهم إلا سعيد بن المسيب (t) ولم يكن اعتراضه لأنه يرى حرمة الصلاة في المساجد التي بها قبور ، وإنما اعترض ؛ لأنه يرى حرمة الصلاة في المساجد التي بها قبور ، وإنما اعترض ؛ لأنه يريد أن تبقى حجرات النبي (r) كما هي يطلع عليها المسلمون ؛ حتى يزهدوا في الدنيا ، ويعلموا كيف كان يعيش نبيهم (r) . 

وعلى هذه السنة أنشأ المسلمون مساجدهم ولم يجدوا نكيرا في إلحاق المسجد بضريح أحد آل البيت الكرام أو الصالحين ، وكان ذلك إجماعا من المسلمين سلفا وخلفا وشرقا وغربا . إذن ما الذي حدث وما سبب تحريم من يدعون التمسك بالدين للصلاة في هذه المساجد والتصريح بوجوب هدم المساجد أو الأضرحة ؟!!

ومما سبق فبيان حكم الصلاة بالمسجد الذي به ضريح يكون ، إذا كان القبر في مكان منعزل عن المسجد ، أي لا يصلى فيه ، فالصلاة في المسجد الذي يجاوره صحيحة ، ولا حرمة ولا كراهية ، أما إذا كان القبر في داخل المسجد ، فإن الصلاة باطلة ومحرمة على مذهب أحمد بن حنبل ، جائزة وصحيحة عند الأئمة الثلاثة ، غاية الأمر أنهم قالوا : يكره أن يكون القبر أمام المصلى ، لما فيه من التشبه بالصلاة عليه ، والله تعالى أعلى وأعلم .

8- المتشددون يعدون التبرك بآثار النبي (r) والصالحين شركا 

من قضايا المتشددين التي فرقوا بها الأمة وخرجوا عليها عدهم للتبرك بآثار النبي (r) والصالحين من الشرك وما يترتب على ذلك عدم انتساب هؤلاء للإسلام من شق لجماعة المسلمين وفتن الله أعلى بها .

ونحاول فيها يلي أن نعرف بالتبرك وحقيقة ومدى جوازه في حق آثار النبي (r) وآثار الصالحين.

ويستحب للمؤمن أن يلتمس بركة هذه الجهات التي ثبتت بركتها من عند الله سبحانه وتعالى ، فيستحب للمؤمن التبرك بالنبي (r) وآثاره ، وقد ثبت ذلك التبرك من صحابة سيدنا رسول الله (r) بحضرته الشريفة ولم ينكر عليهم بل ورد عنه (r) إجابته بالتبريك لهم وعليهم .

وقد صح عنه (r) أنه كان : [ يؤتي بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم ] وعن أسماء : [ أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة . قالت فخرجت وأنا متم ، فأتيت المدينة ، فنزلت بقباء ، فولدته بقباء ، ثم أتيت رسول الله (r) فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها ، ثم تفل في فيه ، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله (r) ، ثم حنكه بالتمرة ، ثم دعا له وبرك عليه ، وكان أول مولود ولد في الإسلام ] .

هذا ما يخص التبرك بآثار النبي (r) في حياته ، وأما التبرك بآثار الصالحين فقد ورد عن النبي (r) أنه تبرك بآثار أيدي المسلمين ، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال : [ قيل : يا رسول الله ، الوضوء من جر مخمر أحب إليك أم من المطاهر ؟ قال : [ لا بل من المطاهر إن دين الله الحنيفية السمحة ] قال : وكان رسول الله (r) : يبعث إلى المطاهر فيؤتي بالماء فيشربه أو قال : [ فيشرب يرجو بركة أيدي المسلمين ] .

أما عن مسألة التبرك بالنبي (r) وآثاره بعد انتقاله الشريف إلى ربه ، فلم يفرق المسلمون بين التبرك به (r) وبآثاره الشريفة قبل انتقاله إلى ربه وبعد انتقاله ، فثبت عن كثير من الصحابة والسلف التبرك بآثاره بعد انتقاله الشريف إلى ربه سبحانه وتعالى : [ حينما حضرت عمر بن العزيز الوفاة ، دعا بشعر من شعر النبي (r) وأظفار من أظفاره وقال : إذا مت فخذوا الشعر والأظفار ثم اجعلوه في كفني ] .

مما ذكر من الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، والنقل عن الأئمة الأعلام من أئمة أهل السنة والجماعة ، يتأكد لنا جواز التبرك بآثار النبي (r) وآل بيته ، ولا فرق في ذلك بين حياته وانتقاله لربه وكذلك جواز التبرك بآثار الصالحين لا فرق في ذلك بين حياتهم ومماتهم والله تعالى أعلى وأعلم .

9- المتشددون يحرمون الاحتفال بمولد النبي (r) ويعدونه بدعة ضلالة 

يخالف المتشددون أغلب المسلمين في فرحهم بذكرى ميلاد النبي (r) ويتهمونهم أنهم على بدعة ضلالة ، على الرغم منا احتفالهم بذكرى بعض علمائهم وأئمتهم ، وهذه مصيبة أخرى من مصائبهم ، ونحاول فيما يلي بيان صواب ما عليه المسلمون من الاحتفال بذكرى مولد النبي (r) 

عن عمر بن الخطاب (t) قال : [ ... سئل " أي النبي (r) " عن صوم الاثنين ، قال : [ ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت ( أو نزل على فيه ) .. ] (رواه مسلم في صحيحه) 

ورحى البيهقي عن الشافعي (t) قال : [ المحدثات من الأمور ضربان ؛ أحدهما : أحدث مما يخالف كتابا ، أو سنة أو أثرا ، أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة ، والثاني : ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد وهذه محدثة غير مذمومة ، وقد قال عمر بن الخطاب (t) في قيام شهر رمضان نعم البدعة هذه ، يعني أنها محدثة لم تكن ، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى هذا آخر كلام الشافعي .

10- المتشددون يحرمون السفر لزيارة النبي (r) وقبور الأنبياء والصالحين 

من أغرب ما عليه المتشددون تحريمهم السفر لزيارة قبر النبي (r) أو قبر الخليل إبراهيم (عليه السلام) أو قبر أي صالح . وسوف يزداد العجب عندما تعلم أن يستحبون زيارة قبر النبي (r) وزيارة قبور المسلمين بصفة عامة ، فهو يستحبون الغاية ويحرمون وسيلته .

وهم بهذا السلوك العجيب الغريب قد اصطدموا بقاعدة متفق عليها أن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد ، فلا يعقل أن يكون المقصد مندوبا ووسيلته محرمة . وفيما يلي ننقل إجماع المذاهب الفقهية على استحباب زيارة قبر النبي (r) .

في المذهب الشافعي قال الإمام النووي : [ واعلم أن زيارة قبر رسول الله (r) من أهم القربات وأنجح المساعي ، فإذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة استحب لهم استحسانا متأكدا أن يتوجهوا إلى المدينة لزيارته (r)وينوي الزائر من الزيارة التقرب ، وشد الرحل إليه والصلاة فيه ] 

قال ابن حجر العسقلاني : [ قال بعض المحققين : قوله : [ إلا إلى ثلاثة مساجد ] المستثنى منه محذوف ، فإما أن يقدر عاما فيصير : لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة أو أخص من ذلك ؛ إذ لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم ، وطلب العلم وغيرها . فتعين الثاني : والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة ، وهو : لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا الثلاثة فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين ، والله أعلم ] .

كل ما سبق يبين أن هؤلاء المتشددين أصروا على فهم أحد العلماء الذي شد بفهمه ، وأنكروا فهم باقي العلماء ، مما جعلهم يتخبطون وينتجون لنا قولا غريبا عجيبا محصلته استحباب الشيء وتحريم الوسيلة الموصلة إليه . أو أن يقتصر حكم استحباب الزيارة لمن يسكن بجوار القبر الشريف فقط .

11- المتشددون يتهمون من ترجى بالنبي (r) بالشرك الأصغر

يتهم المتشددون من يترجون بمكانة النبي (r) بالشرك ويبادرونه بقولهم : قل لا إله إلا الله . وفي الحقيقة نتج ذلك عن خلط أمرين ، الأمر الأول هو ظنهم أن الترجي بالنبي (r) وتأكيد الكلام به من باب الحلف والأمر الثاني أنهم اعتقدوا أن حكم حلف بالنبي (r) هو نفس حكم الحلف بآلهة المشركين . ونوضح فساد فهمهم في هذين الأمرين فيما يلي :

إن الحلف بما هو معظم في الشرع كالنبي (r) والإسلام ،والكعبة فلا مشابهة فيه لحلف المشركين بوجه من الوجوه ، وإنما منعه من منعه من العلماء أخذا بظاهر عموم النبي عن الحلف بغير الله ، وأجازه من أجاز – كالإمام أحمد في أحد قوليه (t) وتعليل بأنه (r) أحد ركني الشهادة التي لا تتم إلا به – لأنه لا وجه فيه للمضاهاة بالله تعالى بل تعظيمه بتعظيم الله له ، وظاهر عموم النهي عن الحلف بغير الله تعالى غير مراد قطعا لإجماعهم على جواز الحلف بصفات الله تعالى ، فهو عموم أريد به الخصوص .

أما عن الترجي أو تأكيد الكلام بالنبي (r) أو بغيره مما لا يقصد به حقيقة الحلف فغير داخل النهي أصلا ، بل هو أمر جائز لا حرج فيه .

12- المتشددون يحكمون على والدي المصطفى بالنار يوم القيامة 

هذه واحدة من قضاياهم التي تسيء المسلمين إذا سمعوا بها ، وهي أنهم يقرون بأن مصير والدي المصطفى (r) النار يوم القيامة تلك القضية التي إذا ضممناها لباقي القضايا لشعورنا وكأن مكانة النبي (r) في قلوبهم ليست على القدر المطلوب وكان حبهم للنبي (r) لم يصدق.

لا شك أن الحب يتنافى مع رغبة الإيذاء لمن يحب ، ولا شك كذلك إن الحديث بسوء عن أبويه (r) يؤذي النبي (r) وقال قال تعالى : ) والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ( (التوبة:61) ، ) إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ( (الأحزاب:57) ولقد نهانا الله صراحة عن أذية رسول الله (r) ومشابهة اليعود – لعنهم الله – في ذلك فقال تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ( (الأحزاب:69) قال القاضي : فنحن لا نقول إلا ما يرضى ربنا ويرضى رسولنا (r) ولا نتجرأ على مقامه الشريف ونؤذيه (r) بالكلام بما لا يرضيه (r) .

واعلم أن آباء النبي (r) وأجداده إن ثبت وقوع بعضهم فيما يظهر أنه شرك فإنه غير مشركين ؛ وذلك لأنهم لم يرسل إليهم رسول ، فأهل السنة والجماعة قاطبة يعتقدون أن من وقع في شرك وبدل شرائع التوحيد في الفترة ما بين النبي والنبي لا يعذب ، والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى : ) وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( .

أما ما يثيره المخالفون بسبب ورود حديثين آحاد يعارضان ما ذكر من الآيات القاطعة ، وهما حديثا مسلم ؛ الأول : أن رسول الله (r) قال : [ استأذنت ربي أن استغفر لأمي فلم يأذن لي ، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي ] والثاني : [ أن رجلا قال : يا رسول الله ، أين أبي ؟ قال : [في النار] فلما قضى دعاه . فقال : [ إن أبي وأباك في النار ] 

فالرد عليهم أولا : أن الحديث الأول ليس فيه تصريح بأن أمة (r) في النار ، وإنما عدم الإذن فيا الاستغفار لا يدل على أنها مشركة ، وإلا ما جاز أن يأذن له ربه عز وجل أن يزور قبرها ، فلا يجوز زيارة قبور المشركين وبرهم .

الحديث الثاني : يمكن حمله على أنه كان يقصد عمه ؛ فإن أبا طالب مات بعد بعثته ، ولم يعلن إسلامه ، والعرب يطلقون الأب على العم ، كما في قوله تعالى عن إبراهيم : ) وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة ( وأبو إبراهيم هو تارح ، أو تارخ كما ذكر ذلك ابن كثير وغيره من المفسرين .

فليختر المخالف أيا من المسلكين ، إما التأويل وهو الأولى لعدم رد النصوص ، وإما رد هذه الأخبار الآحاد لمعارضتها للقطعي الصريح من القرآن الكريم ، وهو مسلك الأئمة الأعلام ، وعلى أية حال فلعله قد ثبت أن أبوي النبي (r) ناجيان بل جميع آبائه (r) رزقنا الله حبه ، ومعرفة قدره (r) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والله تعالى أعلى وأعلم .

13- المتشددون ينفون أي إدراك للميت وشعوره بمن يزوره 

 ويسلك المتشددون مسلكا خطيرا يميل للمادية البغيضة ، فينكرون أي إدراك للميت وينفون شعوره بمن يزوره ، ظنا منهم بأنهم يحمون جناب التوحيد بذلك الإنكار والنفي ، وذلك لعدم فهمهم لحقيقة الموت ، ولعدم إطلاعهم على نصوص الشرع الشريف وكلام العلماء في ذلك .

إن الموت ليس فناء الإنسان تماما ، ولا هو إعدام لوجوده الذي أوجده الله له ، بل إن الموت حالة من أصعب الحالات التي يمر بها الإنسان ، حيث تخرج فيها روحه ، لتعيش في عالم آخر ، فالموت : هو مفارقة الروح للجسد حقيقة ، قال الغزالي : ومعنى مفارقتها انقطاع تصرفها عن الجسد بخروج الجسد عن طاعتها .

أما عن إدراك الميت لمن يزوره فقد روي أبي هريرة (t) أن النبي (r) قال : [ ما من أحد مر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا ، فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ] .

فالميت يشعر ويدرك بنوع من الإدراك من جاء لزيارته ويفرح به ولهذا أمر النبي (r) بالسلام على الموتى ، جيث جاء أنه (r) كان يعلم أصحابه (t) إذا زاروا القبور أن يقولوا : [ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ] قال الإمام النووي : [ ويستحب للزائر أن يدنو من قبر المزور بقدر ما كان يدنو من صاحبه لو كان حيا وزاره ] .

وبناء على ذلك فالحق أن الميت يشعر ويستأنس ويفرح لمن يزوره ويرد عليه السلام ، فليس الموت إعداما للوجود ، بل إن الميت موجود بروحه وتتعلق تلك الروح بالجسد تعلقا ما.

14- المتشددون ينكرون ذكر الله كثيرا وبالأوراد والأحزاب

بعد أن حاصر المتشددون أغلب المسلمين في حياتهم وسلوكهم ومساجدهم ذهبوا ليحاصروهم في خلواتهم ومجالس ذكرهم لله سبحانه وتعالى ، فنهوا الناس عن ذكر الله بأعداد كثيرة ، ونهوا كذلك عن ذكر الله بالأوراد والأحزاب .

الإكثار من ذكر الله بأعداد تزيد على ما ورد في السنة مستحب ، بل هو مأمور به صراحة في كتابه الله العزيز ، قال تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ( .

ومن وسائل محافظة المسلم على كثرة الذكر هو أن يلزم نفسه بورد معين يحافظ عليه كل يوم وليلة ، إلا أن المتشددين رفضوا ذلك أيضا كما رفضوا كثرة الذكر ، ولا نعلم أحدا ينهي عن الذكر من مريدي الخير .

الورد أو الحزب هو مجموعة من الأذكار المأثورة أو غيرها يلتزمها الذاكر ويواظب عليها ، رغبة منه في التقرب من الله ، وهو تطوع يتطوع به المسلم لم يفرضه الله عليه ، قال الشيخ زكريا الأنصاري (t) : [ وتطوع هو : ما لم يرد فيه نقل بخصوصه بل ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد ] .

ولذا نرى أن الالتزام بالأوراد والأحزاب في ذكر الله تعالى ، هو الوسيلة الوحيدة التي تعاون المسلم على المداومة على ذكر الله كثيرا ، وهي فعل السلف الصالح ، ولذا فهي مستحبة فالوسائل لها حكم المقاصد ، والله تعالى أعلى وأعلم .

15- أكثر المتشددين يمنعون استعمال السبحة في الذكر ويرون أنها بدعة ضلالة 

والسبحة أداة يجوز للمسلم استخدامها في العد في الأوراد ، وهي أولى من اليد إذا أمن الإنسان الخطأ ؛ لأنها أجمع للقلب على الذكر ، ودل على جوازها حديث صحيح فعن سعد بن أبي وقاص (t) أنه دخل على رسول الله (r) على امرأة ، وبين يديها نوى أو حصى تسبح به ، فقال : [أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل] ؟ فقال : [ سبحان الله عدد ما خلق في السماء وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض ، وسبحان الله عدد ما بين ذلك ، وسبحان الله ما هو خالق ، والحمد لله مثل ذلك والله أكبر مثل ذلك ولا إله إلا الله مثل ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك ] فلم ينهها عن ذلك ، وإنما أرشدها إلى ما هو أيسر وأفضل ، ولو كان مكروها لبين لها ذلك.

وقد فهم الفقهاء الجواز من هذا الحديث ، فأجازوا التسبيح باليد ، والحصى ، والمسابح خارج الصلاة ، كعدة بقلبه أو بغمزه بأنامله . أما في الصلاة ، فإنه يكره ؛ لأنه ليس من أعمالها . وعن أبي يوسف ومحمد : أنه لا بأس بذلك في الفرائض والنوافل جميعا مراعاة لسنة القراءة والعمل بما جاءت به السنة .

16- المتشددون يتمسكون بالظاهر ويتعبدون بالثياب (ثوب الشهرة – النقاب) 

وفي شأن الثياب قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : ) يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) ( (الأعراف) فجعل سبحانه وتعالى الخطاب في الآية عاما شاملا إلى بني آدم ، ليشمل الرجال والنساء والمسلمين وغير المسلمين ، آمرا إياهم بالزينة ، أي : بلبس الثياب للستر والزينة عند كل اجتماع يلتقي فيه بنو آدم ، سواء أكان ذلك في مسجد أم في مدرسة أم في جامعة أم في مكان العمل أن في غير ذلك.

فالآية الكريمة قد قررت أصلا من أصول الإصلاحات الدينية والاجتماعية ، يدل لهذا ما ذكره المفسرون في أسباب نزولها من أن العرب كانوا يطوفون حول البيت متجردين من الثياب ، رجالا ونساء على حد سواء ، وهذا الأمر قد كان سائدا في كثير من أمم الأرض ، بل إنه ما زال إلى اليوم في بعض البلاد التي لم يدخلها الإسلام .

وقد ترك الشرع بيان هيئة الثياب وطريقة إحاطتها بالجسد وتفاصيلها ؛ لاعتبارها من الأمور الدنيوية تعرف بالضرورات والتجارب والعادات ، وقد رأى الإمام أحمد رجلا لابسا بردا مخططا بياضا وسوادا ، فقال : ضع هذا ، والبس لباس أهل بلدك ، وقال : ليس هو بحرام ، ولو كنت بمكة ، أو المدينة لم أعب عليك .

وكان النبي (r) يلبس العمامة ، ويمسك بالعصا وغير ذلك من الأمور التي كان يلبسها ويستخدمها الناس في ذلك الوقت من أمور العادة ، فالعمائم مثلا قد اختلفت الأعراف فيها وتغيرت الأمور في لبسها ، فلبسها جائز ما لم يخالف عادة بلد لابسها ، فإن خالف العادة صار لباس شهرة ، فلو لبس العمامة رجل يعيش في قوم لا يلبسونها لصار شهرة يشار إليه بالأصابع ولبسها لم يكن من السنة .

تميز النساء المتشددات بالنقاب :

كل ما سبق كان بشأن الثياب بصفة عامة للرجال والنساء ، وفيما يلي نوضح أمر النقاب بصفة خاصة – بكسر النون – ما تنتقب به المرأة ، يقال انتقبت ، وتنفبت : غطت وجهها بالنقاب ، وهو قناع تضعه المرأة على وجهها فلا يبدو منها إلا عينيها وهو من القماش ويلامس بشرة وجهها غالبا وهو من محظورات الإحرام .

ولذا فنرجح مذهب الجمهور ، وهو جواز كشف الوجه والكفين ، وتغطية ما عدا ذلك من جسد المرأة ، كما نرى أن غطاء الوجه إذا كان علامة على التفريق بين الأمة ، أو شعارا للتعبد والتدين ؛ فإنه يخرج من حكم الندب أو الإباحة إلى البدعية ، فيكون عندئذ بدعة .

ونؤكد على ضرورة ستر المرأة لعورتها وارتدائها الحجاب ، وهو الصوب الذي يستر العورة ويجب أن يتصف الثوب المستعمل في ستر العورة بالصفات الآتية :

1- ألا يكون قصيرا فيكشف جزءا منها .

2- ألا يكون ضيقا فيصف العورة .

3- ألا يكون رقيقا فيشف لون جلد العورة ، فإذا كان ثوب المرأة أيا كان اسمه يتصف بهذه الصفات فهو حجاب شرعي ، وإن كان يفتقد واحدا منها فهو ليس بحجاب شرعي ، وعليه فالنقاب غير واجب ، بل ذهب المالكية إلى بدعيته لأنه من الغلو في الدين ، ولا مانع منه إذا وافق عادة النساء . والله تعالى أعلى وأعلم .

17- المتشددون قدموا السعي على العلم 

من أهم المشكلات المنهجية لهذا التيار المتشدد هي (السعي قبل الوعي) والخلط بين الوعظ وبين العلم ، فيستخدمون مجالس الوعظ والتذكير بالله للإفتاء مما ينشر الجهل ويفرق المسلمين . فهل قل العلماء لينتشر الجهل ؟ ! 

الفرق بين العالم والواعظ أو الداعية :

نرى بعض الناس قد رسخت في أذناهم أسماء قوم لا خلاق لهم ولا علاقة لهم بالعلم ، ورسوخ الأسماء في الأذهان له أثر كبير في الاقتداء والمحبة ؛ وذلك لاغترارهم بالقدرة الخطابية عند هؤلاء ، ظنا منهم أن ذلك برهانا على العلم ، ولذلك ترى عوام الناس (غير المتخصصين) يتسارعون إلى الواعد والخطيب أكثر من تسارعهم إلى العالم .

وليت هؤلاء الوعاظ قبلوا أن يوصفوا بذلك ، مع قلة بضاعتهم فيها أيضا ، ولكنهم ادعوا العلم – لا سيما علم الحديث – فتصدروا للإفتاء والتدريس ، فتسببوا في فتنة الناس بإبعادهم عن الحق والمنهج القويم .

وعدم وضوح الفرق بين العلماء وغيرهم في أذهان الكثير ؛ هو ما أدى إلى ظهور غير المتخصصين المتعالمين ، ومن ثم تدخلوا في الفتوى ، وسعوا للدلو بآرائهم في قضايا الفقه المقارن.

التصدر للإفتاء والنقاش العلمي يكون لأهل التخصص فقط :

وقد وجد اختلاط كبير في عصرنا الحاضر بين من يقوم بالإفتاء والوعظ ، مما أوقع الناس في الحيرة الشديدة التي نراها اليوم ، ونلمسها جميعا .

فلا يصح أن يتعرض لمسائل الإفتاء وقضايا الفقه المقارن إلا من تأهل علميا لذلك ، وذلك بدراسة الفقه والأصول وقواعد الفقه دراسة مستفيضة ، ويكون له دربه في ممارسة المسائل العلمية والمناقشات الفقهية ، وله معرفة ودربه لعلم الحديث عامة ، والجرح والتعديل خاصة ، وكذلك التمكن الإجمالي من علوم العربية : اللغة ، والصرف ، والنحو ، وعلوم البلاغة الثلاثة ، وإلمام جيد بالواقع المعيشي ، ويفضل في العصر الحالي أن يكون قد نال الدراسات العليا في جامعات معتمدة في ذلك التخصص .

وكل ذلك لحسم فوضى الفتاوى التي تثار هنا وهناك ممن لم يتخصص في علم الفقه والأصول ، ويعترض ويناظر على فتاوى ما درس مبادئها الفقهية ، ولا أصولها ، ولقد تكلم في أهمية التخصص في الفقه العلماء القدامى .

النهي عن سب العلماء والتجرؤ عليهم :

وتصدر هؤلاء المتعالمين لما هم ليسوا له أهلا – يعد سببا رئيسا في التجرؤ للطعن في العلماء . فإن تجرؤهم بالخوض في قضايا الفقه المقارن والفتوى ، مع قلة بضاعتهم ، ومع السرعة في الوصول إلى تلك المكانة الشريفة – وكل ذلك مع الحط لكل مخالف لهم وازدرائه ، ووسمه بالجهل – جعل بعض الناس يتساهل في تخطئه العالم والخوض في عرضه ، بما لا يليق في حق عموم الناس ، فكيف بعلمائهم ؟!

ولا حرج أن يختلف المرء مع عالم أو داعية في رأي أو اجتهاد متى كان أهلا لذلك ، ولكن الحرج في تحول هذا الاختلاف إلى معول هدم لمكانة هذا العالم ، والحط من قدره ، وازدرائه ، وسوء الأدب معه .

فمن الناس من يكون إنكاره على عالم بسبب جهله بحال فتوى أفتى بها ذلك العالم ، فيسمع منه الشيء المحتمل أو المجمل ، ويجهل أشياء تكون مبينة لذلك المجمل ، ولا يرجع إلى العالم فيها ، بل يطير بالأمر الذي سمعه ويذيع أنه خطأ شنيع وجرم فظيع .

 

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

42

متابعين

5

متابعهم

1

مقالات مشابة