"بين المسجد والبيت: نموذج تعليمي نسائي مؤسسي في التاريخ الإسلامي"

"بين المسجد والبيت: نموذج تعليمي نسائي مؤسسي في التاريخ الإسلامي"

0 المراجعات

 

من حافظات الوحي إلى رائدات العلم: دور المرأة في نشر العلم في الحضارة الإسلامية

تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ؛ فَإِنَّ تَعْلِيمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةً وَطَلَبَهُ عِبَادَةً، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ ”
— معاذ بن جبل (رضي الله عنه)

في زمنٍ كانت فيه المرأة تُحرم من التعليم في معظم أنحاء العالم، شرع الإسلام أبواب العلم أمامها كحق لا كمِنّة. إذ لم تكن المرأة المسلمة مجرد متلقية للمعرفة، بل أصبحت حافظة القرآن، وراوية الحديث، ومعلمة الرجال، ومؤسسة الجامعات، ومجازة العلماء . لذا يكشف التاريخ الإسلامي عن إرث علمي نسائي عظيم، كان له الأثر البالغ في بناء الحضارة، ونقل التراث، وصناعة الوعي.


🔹 مكانة المرأة في الإسلام: بين التشريع والتاريخ

لم يكن تشجيع الإسلام على تعليم المرأة ظاهرة عابرة، بل استند إلى أسس شرعية صريحة . فالقرآن الكريم يخاطب المؤمنين والمؤمنات على حد سواء، ويُعدّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. يقول النبي ﷺ:"طلب العلم فريضة على كل مسلم" — (صحيح ابن ماجه - رقم الحديث (224)).

وفي هذا الحديث، كلمة "مسلم" شاملة للجنسين، ومما يقوي هذا المعنى فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث: خصص النبي ﷺ مجلسًا أسبوعيًا للنساء يعلمهم الدين، ويشرح لهم ما قد يُشكل عليهم من المسائل. قال البخاري رحمه الله (ج2 ص 50)

 باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم
102 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثني ابن الأصبهاني قال سمعت أبا صالح ذكوان يحدث عن أبي سعيد الخدري قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار  فقالت امرأة واثنتين فقال واثنتين)  

هذا التأسيس النبوي شكّل قطيعة مع الجاهلية، التي كانت تُعدّ المرأة كائنًا ناقصًا، بينما جعلها الإسلام شريكة في الرسالة والمسؤولية .


🔹 الصحابيات: أولى رائدات العلم في الإسلام

في صدر الإسلام، برزت نساء كنّ أولى المحاضرات في تاريخ الأمة . لم يكن دورهن محدودًا بالبيت، بل امتد إلى المسجد، وإلى مجالس الفتوى، وإلى إدارة الشأن العلمي.

🌟 عائشة بنت أبي بكر: الأمّ العلمية للأمة

  • روت أكثر من 2200 حديث نبوي ، وردت رواياتها في "البخاري" و"مسلم".قال قال الحافظ الذهبي: مسند عائشة يبلغ ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم لها على مائة وأربعة وسبعين حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستين"
  • كما كانت مرجعًا فقهيًا للصحابة والتابعين، حتى قال عنها عُروةُ بنُ الزُّبَيْر: "ما رأيتُ أحدًا أعلمَ بفِقه، ولا بِطبٍّ ولا بِشِعر من عائشةَ - رضي الله عنها"، وقال فيها أبو عُمرَ بنُ عبدالبرِّ: "إنَّ عائشةَ كانتْ وحيدةً بعصرها في ثلاثةِ علوم: علم الفقه، وعلم الطب، وعلم الشِّعر".
  • علّمت رجالاً كبارًا مثل الزهري، وأصبحت مدرسة فقهية قائمة بذاتها.
  • “قال الزهري - رحمه الله تعالى -: لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل”

🌟 حفصة بنت عمر: حافظة المصحف

  • واحدة من القليلات اللواتي حفظن القرآن في عهد النبوة .
  • استُودع لديها المصحف الأول الذي جمعه أبو بكر الصديق ، ثم استُنسخ منه المصاحف العثمانية.
  • بهذا، تكون حفصة حلقة وصل حاسمة بين الوحي المتلو والمصحف المكتوب .

🔹 البيوت والمساجد: مراكز التعليم النسائي في التاريخ الإسلامي

لم تقتصر مراكز العلم على الرجال فقط، بل تحولت البيوت إلى حلقات علمية نسائية ، بينما خصصت المساجد أماكن للنساء يحضرن فيها الدروس العامة.

✅ نموذج تعليمي متوازن:

  
المسجددروس عامة في الحديث، الفقه، التفسير، تُلقى من قبل كبار العلماء
البيوتمجالس خاصة تديرها عالمات، تتناول القضايا النسائية بدقة وخصوصية
الوقف العلميدعم مالي ومؤسسي لتعليم النساء، كما في جامع الزيتونة

 

وقد أسهم هذا التكامل في استمرارية التعليم النسائي عبر الأجيال ، وتكوين شبكة علمية نسائية واسعة.


🔹 العصر العباسي والأندلسي: ذروة الحضور العلمي للمرأة

لم يقتصر الدور العلمي للمرأة على العصر الأول، بل تطور ليصبح ظاهرة مؤسسية في العصرين العباسي والأندلسي.

🏛️ نماذج بارزة:

1. فاطمة الفهرية: مؤسسة أقدم جامعة في العالم

  • بنت تاجر من قرطاجنة، أنفقت ثروتها في بناء جامع القرويين بفاس (859م) .
  • تطوّر الجامع إلى أول جامعة في العالم باعتراف اليونسكو .
  • كانت تشرف شخصيًا على بنائه، وتصوم نذرًا طيلة فترة الإنشاء.

2. زينب بنت الكمال: محدثة العصر المملوكي

  • سافرت بين دمشق، بغداد، والقاهرة طلبًا للعلم.
  • تتلمذ عليها الإمام الذهبي ، وقال عنها: "كانت أوثق من كثير من الرجال في الرواية" .
  • منحت إجازات علمية لعدد كبير من العلماء.

3. رابعة العدوية: رائدة التصوف والفكر الإنساني

  • لم تكن عالمة بالمعنى التقليدي، لكنها غيّرت مسار التصوف من الخوف إلى الحب.
  • دعت إلى عبادة الله "حبًا فيه لا خوفًا من عقابه ولا طمعًا في جنته".
  • أصبحت مصدر إلهام لجيل كامل من المتصوفة.

🔹 آليات نقل العلم: كيف حفظت المرأة التراث الإسلامي؟

لم تكتفِ النساء بالتعلم، بل طوّرن آليات علمية دقيقة لنقل المعرفة:

1. الإجازات العلمية النسائية

  • منحت العالِمات إجازات للرجال والنساء على حد سواء.
  • كانت هذه الإجازات رسمية، موثقة، وتُكتب بخط اليد .
  • بعض الإجازات محفوظة حتى اليوم في المخطوطات.

2. التدوين والرواية

  • دوّنت النساء آلاف الأحاديث، وبعضهن ألف كتبًا مستقلة.
  • كانت رواياتهن أكثر دقة في بعض الأحيان، لأنهن كنّ أقل عرضة للانشغال بالسياسة.

3. الرحلات العلمية (السماع)

  • سافرت النساء بين المدن طلبًا للحديث، مثل الرجال تمامًا.
  • زينب بنت الكمال، مثلاً، سافرت إلى مصر والعراق.

4. المجالس العلمية المختلطة

  • شاركت النساء في مجالس يحضرها رجال ونساء، وكان يتم الاستماع لرأيهن.
  • كان يُقال: "لا يُستجاب لقول امرأة حتى تُسأل عالمة" .

🔹 شهادات الرجال: اعتراف رسمي بالكفاءة النسائية

ما يؤكد صدق هذا الدور هو شهادة كبار العلماء بأنفسهم :

  • الإمام الذهبي : "كثير من النساء كنّ أوثق من بعض الرجال في الرواية."
  • ابن حجر العسقلاني : منح إجازة علمية لـ عائشة الحموية ، ووصفها بالثقة.
  • الصفدي : وصف فاطمة الدقاق بأنها "تحفظ الصحيحين عن ظهر قلب".

هذه الشهادات ليست مجاملة، بل توثيق علمي رسمي يُثبت أن المجتمع العلمي الإسلامي كان منفتحًا وعادلًا في تقييم الكفاءة.


🔹 التحديات: بين الواقع التاريخي والتمييز الاجتماعي

رغم هذا الإنجاز، لم تكن المسيرة خالية من التحديات:

  • قيود اجتماعية : أدوار نمطية، قيود على الحركة، ضغوط الأسرة.
  • تمييز هيكلي : عدم تمثيل كافٍ في المجالس العليا.
  • إخفاء الإنجازات : بعض الروايات نُسبت إلى الرجال رغم أن النساء هنّ الأصل.

لكن الملاحظ أن هذه التحديات لم تمنع الوجود، بل أظهرت التميز . فالمرأة استطاعت أن تفرض حضورها بقوة العلم والعمل .


🔹 لماذا تميز التعليم النسائي في الإسلام؟

مقارنة بالحضارات الأخرى في العصور الوسطى، كان وضع المرأة المسلمة فريدًا :

   
حق التعليممكفول شرعًاممنوع أو نادر
التدريس للرجالواقع معاشغير مقبول
التدوين والتأليفشائعنادر جدًا
السفر للعلممشروعممنوع

 

هذا النموذج أنتج ** civilizational advantage** – أي تفوّق حضاري ناتج عن إشراك كامل للعنصر البشري.


🔹 الإرث العلمي للعالمات: ماذا نتعلم اليوم؟

العودة إلى هذه النماذج ليست مجرد استذكار للتاريخ، بل مشروع تمكين حضاري . يمكن للمرأة المسلمة المعاصرة أن تستفيد من:

  1. الثقة بالعقل النسائي : العقل لا يعرف جنسًا.
  2. الجمع بين العلم والتقوى : العلم وسيلة للتقرب إلى الله.
  3. القيادة المؤسسية : كالتي قادتها فاطمة الفهرية.
  4. الاجتهاد في وجه التحديات : كما فعلت زينب بنت الكمال.

🔚 خاتمة: نحو نهضة علمية نسائية جديدة

المرأة في الحضارة الإسلامية لم تكن "مُستثناة" من العلم، بل كانت ركناً فيه . من عائشة إلى حفصة، من فاطمة الفهرية إلى زينب بنت الكمال، كنّ صناع حضارة، وحاملات رسالة، ومبنيات مستقبل .

اليوم، أمامنا فرصة لإحياء هذا الإرث، ليس بالحنين، بل بالعمل . بإعادة قراءة التاريخ، وتمكين المرأة في الجامعات، ودعم المشاريع العلمية النسائية، وتقديم نماذج حديثة تُعلي من شأن العلم والأخلاق معًا.

العودة إلى الأصل ليست رجعية، بل هي منطلق للتقدم .


التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

3

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة