
نزول الوحي وبداية الدعوة السرية | لحظة التحول في حياة النبي ﷺ
نزول الوحي وبداية الدعوة السرية | لحظة التحول في حياة النبي ﷺ
في غار حراء، حيث السكون والهدوء، كان النبي محمد ﷺ يتعبد متأملًا في ملكوت الله، مبتعدًا عن شرك قريش وضلالهم. لم يكن يعلم أن تلك الليلة ستكون لحظة فاصلة في تاريخ البشرية. هناك، في ذلك المكان الهادئ، نزل عليه جبريل عليه السلام، يحمل معه أول آية من القرآن الكريم: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ". هذه اللحظة، كانت بداية عهد جديد، ونور سيغمر العالم.
ارتجف قلب النبي ﷺ، وعاد إلى بيته مسرعًا، يطلب الأمان من زوجته الوفية خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، التي احتضنته بكلمات الطمأنينة، وقالت له: "والله لا يخزيك الله أبدًا"، معددة خصاله العظيمة من صدق وأمانة، وحرص على صلة الرحم، وإغاثة الملهوف. لم تكتفِ بذلك، بل أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، الذي كان عالمًا بالكتب السابقة، فأخبره أن ما رآه هو الناموس الأكبر، أي جبريل عليه السلام، الذي نزل على موسى من قبل.
كانت هذه اللحظة بداية الدعوة الإسلامية، لكن بحكمة إلهية بدأت سرية، حفاظًا على الدعوة وأهلها. اختار النبي ﷺ أن يبدأ بدعوة الأقربين، وكان أول من آمن به من النساء: خديجة رضي الله عنها، ومن الصبيان: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن الموالي: زيد بن حارثة، ومن الرجال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
انطلقت الدعوة في السر لمدة ثلاث سنوات، يدعو فيها النبي ﷺ من يثق بهم إلى التوحيد وعبادة الله وحده. كانت البيوت تحتضن هذا النور، وكانت النفوس المؤمنة تُقبل على الإسلام رغم كل المخاطر. كان الصحابة يتحركون بين الناس بحذر، يزرعون التوحيد في القلوب، ويبشرون بدين الرحمة والعدل.
ورغم أن النبي ﷺ كان يحمل رسالة عظيمة، إلا أنه لم يسلم من مشاعر الخوف والرهبة. فهو بشر، شعر بثقل الأمانة، وعِظم المسؤولية. لكن الله سبحانه وتعالى كان يثبّته، ويُنزّل عليه السكينة، ويُحيط به برعاية خديجة وورقة، ثم الصحابة الكرام الذين لم يتخلوا عنه لحظة.
تعلّمنا من هذه المرحلة العظيمة أن البدايات دائمًا ما تكون صعبة ومليئة بالتحديات، لكن بالصبر والثبات والنية الصادقة، تتحول لحظات الخوف إلى محطات نصر. النبي ﷺ كان مثالًا للقائد الصادق، الذي بدأ من الصفر، وسط مجتمع يعبد الأصنام، ومع ذلك لم ييأس، بل بنى أمة غيرت مجرى التاريخ.
ونتعلم كذلك من خديجة رضي الله عنها، كيف تكون المرأة سندًا في الأزمات، بثباتها، وحكمتها، ودعمها لزوجها في أحلك المواقف. كما أن ورقة بن نوفل يعلّمنا أن العلم الحقيقي يفتح الأبواب للفهم والتصديق، وأن الإنسان قد يكون سببًا في تثبيت قلب صاحب رسالة.
أما الدعوة السرية، فكانت مرحلة تربوية عظيمة، بُنيت فيها شخصيات الصحابة على الإيمان الصافي، والصبر، والاستعداد للتضحية. ثلاث سنوات من التكوين العميق، قبل أن تُعلن الدعوة جهارًا، ويبدأ فصل جديد من المواجهة مع قريش.
في كل موقف من هذه الأحداث، كان هناك درس لكل شاب وفتاة اليوم: إن أردت أن تُحدث أثرًا، فابدأ بصمت، ببناء نفسك، بثبات إيمانك، ثم انطلق. لا تخف من بداية صغيرة، فالنور دائمًا يبدأ بشعلة.
لقد بدأت السيرة النبوية بآية: "اقرأ". وهذه دعوة لنا جميعًا، أن نقرأ، نتعلّم، نُبصر طريقنا. اقرأ يا قلب، لعلّك تجد النور كما وجده النبي ﷺ في الغار.
خاتمة:
الحلقة الرابعة من سيرة أحمد عامر أعادت إلينا تلك اللحظة التاريخية التي بدأ فيها كل شيء. نزول الوحي لم يكن مجرد حدث ديني، بل كان ولادة حضارة، وإحياءً للقلوب. فلنأخذ من هذه البداية العبرة، ولنجعل من دعوة النبي ﷺ طريقًا نقتدي به في كل خطوة من حياتنا.