
كيف يصنع الله من يتمٍ نبيًّا؟ نظرة إنسانية مؤثرة في نشأة النبي محمد ﷺ، وكيف شكّلت طفولته ملامح أعظم رسالة في التاريخ.
نشأة النبي محمد ﷺ: البداية التي صنعت عظيمًا
حين نعود إلى نشأة النبي محمد ﷺ، لا نقرأ فقط عن طفل وُلد في مكة، بل نبدأ رحلة مع قصة إنسانية مؤثرة، كانت كل تفاصيلها تُعدّه لحمل أعظم رسالة في التاريخ. ما بين يتم، وفقر، وتقلّبات الحياة، نجد أن حياة النبي ﷺ منذ ولادته كانت مليئة بالمعاني، وكأنها دروس تُكتب بالحياة نفسها، لا بالكلمات.
وُلد محمد بن عبد الله ﷺ في عام الفيل، العام الذي حاول فيه أبرهة هدم الكعبة، لكن الله ردّ كيده، في إشارة مبكرة إلى أن لهذا المكان، ولهذا المولود، شأنًا عظيمًا. لم يكد يُولد حتى فقد والده عبد الله، وهو في بطن أمه. ثم فقد أمه آمنة وهو في السادسة، ثم جده عبد المطلب بعد ذلك بقليل. نشأ يتيمًا، وهذا ليس تفصيلًا عابرًا، بل عنصرًا أساسيًا في تشكيل شخصيته.
اليتيم في ذلك الزمن لم يكن له قيمة، ولا سند. لكنه ﷺ كان مختلفًا. تعلم منذ صغره الاعتماد على نفسه، وتحمل المسؤولية دون تذمّر. اليتيم يعرف معنى الفقد، ولذلك كان أكثر الناس رحمة بالمحرومين، وأقربهم للفقراء والمساكين. في يتمه، لم يُكسر، بل صلُب عوده.
بعد وفاة أمه آمنة، انتقل محمد ﷺ إلى كنف جده عبد المطلب، كبير قريش وواحد من الشخصيات المهيبة في مكة. وعلى الرغم من كِبر سن عبد المطلب، إلا أنه أحب النبي حبًا خاصًا، حتى قيل إنه كان يُجلسه بجانبه على فراشه، مع أنه كان يمنع أبناءه الكبار من الجلوس عليه. هذا المشهد البسيط يعكس حجم المكانة التي كان محمد ﷺ يحتلّها في قلب جده.
لكن السعادة لم تدم طويلاً، فبعد عامين فقط توفي عبد المطلب، ووجد محمد نفسه مرة أخرى يودّع حضنًا دافئًا اعتاد عليه. يُمكن تخيّل أثر هذه التنقلات المتكررة في حياته، من أم، إلى جد، ثم إلى كفيل جديد، وهو عمه أبو طالب.
أبو طالب لم يكن غنيًا، لكنه كان كريم النفس، شجاعًا، وعطوفًا، فاحتضن محمدًا ﷺ وربّاه مع أولاده. لم يعامله كغريب أو يتيم، بل كبعض من روحه. وفي كنف عمه بدأ محمد ﷺ يخرج أكثر إلى الحياة العملية، ورافقه في بعض رحلات التجارة، واحتكّ بالناس، وتعلّم طبائعهم وسلوكهم.
اللافت أن أبو طالب، رغم ضيق حاله، كان حريصًا على النبي ﷺ ويدافع عنه دومًا. هذه الحماية ستبقى حتى بعد البعثة، حين تعرّض النبي للأذى، فكان عمه أكبر درع بشري له، رغم أنه لم يدخل الإسلام. وهذا يكشف جانبًا من الوفاء الإنساني والتقدير العميق الذي زرعه النبي ﷺ في قلوب من حوله، حتى من لم يشاركه الإيمان.
انتقل النبي ﷺ في طفولته إلى بادية بني سعد، حيث المرضعة حليمة السعدية،، ليقضي فيها سنواته الأولى. هناك تنفّس هواءً نقيًا، وعاش وسط الطبيعة، وتعلّم الفصاحة وقوة الجسد والروح. حتى هذه الخطوة، رغم بساطتها، كانت إعدادًا إلهيًا لنبي سيحمل رسالة تُخاطب القلوب والعقول.
وحين كبر قليلًا، عمل في الرعي، ثم في التجارة. جرب التعب، والحر، والمسؤولية، فلم يكن شابًا مدللًا. بل كان ابن الحياة. هذه التجارب زرعت فيه الصبر والصدق والأمانة. حتى لُقّب في مكة بـ"الصادق الأمين "قبل أن يُبعث، وهو لقب نادر في بيئة يغلب فيها الكذب والتحايل.
ما يدهشني دائمًا هو كيف أن هذه النشأة، رغم قسوتها، لم تصنع شخصًا ناقمًا على الحياة أو غاضبًا من واقعه. بل بالعكس، صنعت رجلًا رحيمًا، متواضعًا، حكيمًا، يعرف الناس ويعرف ضعفهم، لأنه عاشه بنفسه.
نشأة النبي محمد ﷺ ليست مجرد مقدمة لحياته، بل هي مفتاح لفهم نبوّته، ورسالته، وإنسانيته. كل لحظة، وكل موقف، وكل حرمان، كان لبنة في بناء رجلٍ سيغير مجرى التاريخ، لا بالسيف، بل بالقلب.