
معاقون عبر التاريخ الاسلامي
معاقون عبر التاريخ الإسلامي
مقدمة
الإسلام لم ينظر إلى الإعاقة على أنها عجز عن الحياة، بل تعامل معها باعتبارها ابتلاءً يرفع الله به درجات عباده، وفرصة لإبراز قدراتهم وإبداعاتهم. والتاريخ الإسلامي زاخر بنماذج مشرقة من الصحابة والتابعين والعلماء الذين تخطوا إعاقاتهم وصنعوا بصمات خالدة في مجالات الدين، العلم، الجهاد، والإدارة.
---
1. نماذج من الصحابة ذوي الإعاقة
عتبان بن مالك: صحابي ضرير، طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته ليتخذه مصلى، فلبى الرسول طلبه وصلى فيه ركعتين. وفي ذلك دليل على تكريم النبي لذوي الاحتياجات الخاصة ورعايتهم.
ابن أم مكتوم: نزل بشأنه صدر سورة عبس عندما عاتَب الله تعالى نبيه لاهتمامه بزعماء قريش وتغافله عن الأعمى المؤمن. وكان ابن أم مكتوم مؤذنًا لرسول الله وخليفة له في المدينة أكثر من مرة، بل وشارك في الجهاد حتى استشهد في القادسية.
عبد الله بن مسعود: كان قصيرًا ضعيف البنية، فضحك بعض الصحابة من ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لهما أثقل في الميزان من أُحد". عبد الله بن مسعود لم تمنعه بنيته الجسدية من أن يصبح من كبار القرّاء وأول من جهر بالقرآن في مكة.
عمرو بن الجموح: كان أعرجًا شديد العرج، أراد الخروج للجهاد يوم أحد رغم إعفائه، وقال: "إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة"، فنال الشهادة.
---
2. العناية النبوية بذوي الاحتياجات الخاصة
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرضَ له ثوابًا دون الجنة"، في إشارة إلى من يفقد بصره.
نهى النبي عن تضليل الكفيف فقال: "ملعون من كمه أعمى عن طريق".
اعتبر ترك السلام على الضرير خيانة، تأكيدًا على وجوب الاهتمام بحقوقه وعدم إهماله.
امرأة مصروعة جاءت للنبي تطلب الدعاء بالشفاء، فخيّرها بين الصبر والجنة أو الدعاء بالعافية، فاختارت الصبر، فدعا لها ألا تنكشف عند الصرع.
---
3. رعاية الخلفاء لذوي الإعاقة
عمر بن الخطاب: فرض لذوي العاهات رواتب من بيت المال.
عمر بن عبد العزيز: أمر بإحصاء المكفوفين والمقعدين، وجعل لهم خدمًا ومرافقين، وخصص لهم نصيبًا من الزكاة.
الوليد بن عبد الملك: أنشأ أول مستشفى للمجذومين ووفّر لهم العلاج والنفقات.
أبو جعفر المنصور: بنى مشفى للمكفوفين ومأوى للمجذومين والعجزة في بغداد.
في العصر المملوكي: كان يتم تخصيص الأوقاف للإنفاق على المعاقين، وتوفير السكن والعلاج والتعليم لهم.
---
4. علماء ومفكرون تحدوا الإعاقة
عبد الله بن عباس: كان كفيفًا لكنه أصبح حبر الأمة وأول المفسرين.
عطاء بن أبي رباح: من كبار فقهاء مكة، جمع عدة إعاقات لكنه صار إمام الفتوى الذي يقصده الخلفاء.
الأعمش: من أبرز رواة الحديث رغم ضعف بصره.
أبو العلاء المعري: شاعر وفيلسوف أعمى، ترك تراثًا أدبيًا وفكريًا خالدًا.
---
5. وقاية المجتمع من الإعاقة
الإسلام اهتم بالوقاية لتقليل نسب الإعاقة في المجتمع:
النهي عن زواج الأقارب إذا كان فيه ضرر وراثي: "تخيروا لنطفكم" كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الحث على اتباع وسائل السلامة لتجنب الحوادث.
منع مشاركة الأطفال في الحروب لحمايتهم من الإصابات.
حماية المدنيين أثناء القتال: "لا تقتلوا شيخًا فانياً ولا طفلاً صغيرًا ولا امرأة" كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم.
---
خاتمة
لقد جسّد التاريخ الإسلامي أعظم صور الدمج والرعاية لذوي الاحتياجات الخاصة، ليس فقط بتأمين احتياجاتهم المعيشية، بل بتمكينهم من المشاركة الفاعلة في المجتمع. فمنهم من صار عالمًا، ومنهم من أصبح قائدًا، ومنهم من نال الشهادة في سبيل الله. وهكذا يعلّمنا الإسلام أن الإعاقة لا تعني العجز، بل قد تكون طريقًا إلى الخلود في صفحات التاريخ.