لا يأس مع الحياة: قصة يوسف - نموذج الصبر والأمل
الحياة مسرح واسع للأحداث المتغيرة، لا تثبت على حال، بل تتقلب بين السرور والحزن، والرخاء والشدة، والعسر واليسر. وفي خضم هذه التقلبات، قد يجد الإنسان نفسه أحياناً في مواجهة تحديات تبدو مستحيلة، أو محن تزلزل القلوب وتدفعها نحو اليأس. في هذه اللحظات العصيبة، تبرز المقولة الحكيمة "لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس" كمنارة هدى تذكرنا بأن الأمل هو شريان الحياة الحقيقي. ولا يوجد مثال أبلغ وأكثر إلهاماً لتجسيد هذه المقولة من القصة القرآنية العظيمة، "أحسن القصص"، قصة نبي الله يوسف عليه السلام.

بداية المحنة: رؤيا وحسد
تبدأ القصة برؤيا بريئة رآها يوسف الصغير، أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون له. كانت هذه الرؤيا إشارة إلى مستقبله العظيم، لكنها كانت أيضاً بداية سلسلة من الابتلاءات التي لم تكن تخطر على بال. إخوة يوسف، مدفوعين بالحسد والغيرة من محبة أبيهم يعقوب ليوسف وأخيه، دبروا له مكيدة. قرروا إبعاده عن أبيه، وألقوا به في غيابة الجب (البئر)، لتبدأ رحلة المعاناة والأمل التي استمرت سنوات طويلة.
في قعر البئر المظلم، حيث لا أنيس ولا معين إلا الله، لم يفقد يوسف الأمل. هذه اللحظة كانت أول درس عملي في "لا يأس مع الحياة". لم يكن لديه سيطرة على مصيره بيد إخوته، لكنه كان يمتلك الثقة المطلقة بقدرة الله على النجاة.
من البئر إلى القصر.. ومن القصر إلى السجن
بعد أن التقطته سيارة مسافرة وباعته بثمن بخس، وجد يوسف نفسه في بيت العزيز في مصر. ظن يوسف أن حياته قد استقرت، لكن القدر خبأ له محنة أخرى. تعرض يوسف لإغراء امرأة العزيز، وعندما رفض الاستجابة للفاحشة، اتهم زوراً وبهتاناً وأُلقي في السجن ظلماً.
مرة أخرى، ينتقل يوسف من محنة إلى محنة، ومن ذل العبودية إلى قيد السجن. لكن صبره الجميل لم ينفد. في السجن، لم يستسلم لليأس، بل استغل وقته في الدعوة إلى الله وتفسير الرؤى لزميليه في السجن. كان مثالاً للمؤمن الذي يرى في كل محنة فرصة للتقرب إلى الله ونشر الخير. حتى عندما طلب من زميله الناجي أن يذكره عند الملك، كان قلبه معلقاً بالله، متيقناً أن الفرج لا يأتي إلا من عنده. ورغم أنه عوقب بطول الحبس بضع سنين بسبب الكلمة التي قالها، إلا أن ذلك لم يزده إلا إيماناً وصموداً.
مفتاح الفرج: العليم الحكيم
استمرت سنوات السجن، واشتد الكرب، لكن يوسف لم ييأس من روح الله. وعندما حانت لحظة الفرج التي قدرها الله، لم تأتِ بجهد بشري مباشر، بل برؤيا رآها الملك وعجز المفسرون عن تأويلها. هنا، تذكر زميل يوسف في السجن قدرته على تفسير الرؤى.
هذا الموقف يجسد حكمة الله البالغة في تدبير الأمور؛ فالفرج قد يأتي من حيث لا نحتسب، في الوقت الذي قدره الله سبحانه وتعالى. بعد تفسير يوسف للرؤيا وذكائه في تقديم الحلول لأزمة مصر الاقتصادية القادمة (السنوات السبع العجاف)، أدرك الملك براءته وحكمته.
خرج يوسف من السجن مكرماً، بل وتولى منصباً رفيعاً في الدولة، طالباً من الملك: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم". تحول العبد الأسير إلى وزير نافذ الكلمة، وهذا أبلغ دليل على أن قدرة الله غالبة وأن الأمور في خواتيمها لا تخرج عن إرادته.
لم الشمل وغفران الذنوب
ذروة القصة هي لقاء يوسف بإخوته بعد سنوات طويلة من الفراق والألم. عندما دخلوا عليه وعرفهم وهم له منكرون، كشف لهم عن هويته. هنا نرى عظمة التسامح التي علمنا إياها يوسف. رغم كل ما فعلوه به، لم يوبخهم أو يعاقبهم، بل قال لهم مقولته الشهيرة التي تفيض رحمة: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين".
وعندما جاء والداه وإخوته وسجدوا له، تحققت رؤياه الأولى بعد زمن طويل. التقى الأب بابنه بعد حزن شديد كاد أن يفقده بصره، مؤكداً للأجيال القادمة أن اليأس من روح الله كفر، وأن المسلم عليه أن يطرق باب الكريم بالدعاء والتضرع مهما اشتدت الكربات. كان يعقوب عليه السلام يمتلك "الصبر الجميل"، الذي لا يشكو فيه العبد حاله إلا لله وحده.
خاتمة: الأمل وقود الحياة
قصة يوسف عليه السلام ليست مجرد حكاية تاريخية ممتعة، بل هي منهج حياة. إنها رسالة قوية لكل من يمر بضيق أو محنة: "لا يأس مع الحياة". الظلمات التي مر بها يوسف (البئر، السجن، العبودية) كانت مجرد مراحل انتقالية نحو النور والتمكين. تعلمنا القصة أن بعض الناس قد يكرهوننا لمزايانا، وأن الطعنات قد تأتي من أقرب الناس إلينا، لكن إرادة الله هي العليا.
الثقة بتدبير الله هي المفتاح. مهما تأخر الفرج، ومهما بدت الأسباب مستحيلة، فإن قدرة الله قادرة على قلب الموازين في لحظة. فالمؤمن لا ييأس أبداً، لأن الله سبحانه وتعالى هو العليم الحكيم الذي يدبر الأمر كله. إنها قصة تعلمنا أن نحسن الظن بالله، ونصبر صبراً جميلاً، ونعلم يقيناً أن بعد العسر يسراً، وأن نصر الله آتٍ لا محالة.